حواس محمود
من المعروف كرديا ان ما هو مسيطر حاليا هو منظومة من الايديولوجيات التي تتغطى بالدفاع عن الشعب الكردي في اجزاء كردستان الاربعة ، وبسبب تعقيد المسألة الكردية وهيمنة الدول الاقليمية على مقدرات المنطقة، وتوحدها في العداء للكرد وبسبب الخبرة التاريخية لأنظمة هذه الدول وبعد الكرد جغرافيا عن دول القرار الدولي ، فإن هذه الدول خبرت طريقة التعامل مع الشأن الكردي سلبيا ، فهي تختلف في العديد من القضايا لكنها تتفق على العداء للكرد خوفا من تقسيم دولها التي اصلا جاءت بموجب اتفاقية سايكس بيكو 1916 لتضم اجزاء كردستان الى دولها ، اقول ان هذه الدول تلعب لعبة سياسية سلبية بشكل تكتيكي ضار بالكرد وكذلك بشعوبها استراتيجيا ، اذ تبقى القضايا عالقة وتبقى المنطقة مستنزفة وجاء موضوع الاستبداد والارهاب وتعرض الشعوب الاخرى للاضطهاد ليزيد من تعقيد الموضوع الكردي في كل الدول التي تضم اجزاء كردستان ،
ومن بين العوامل التي تجعل القضية الكردية مستنزفة هو هذا الخلط والفوضى الايديولوجية الكبيرة التي تستنزف الكرد من خلال عدم اتفاق الاحزاب الرئيسية الكردية فيما بينها حول حق تقرير المصير للشعب الكردي وانتشار المنازعات والتبريرات والتخوينات ذات الطابع الايديولوجي البحت بتأثير من الانظمة الغاصبة لكردستان – موضوع مقالنا الراهن –
العقل التبريري هو العقل التسويغي الذي يدافع عن الاخطاء والمغالطات بطريقة التفافية ارادوية ومزاجية غير خاضعة للعقل والمنطق ، وانما مجرد تبرير واه وضعيف لأنه ناتج عن أدلجة وليس عن فكر معرفي مضمخ بالحيوية والتطور ، وهو العقل الذي” ينتظرنا دائما عند حافة القول والفعل ، لتبرير اخطائنا بدل نقدها ومحاولة اصلاحها ، أو على الأقل الاعتذار عنها ، وهذا الفعل التبريري أو التسويغي يحضر بقوة في كل موقف وفي كل ظرف حتى في حديث المرء نفسه ، يحضر هذا العقل في موكب العاطفة فيصبح الانسان عاجزا عن التفريق بين الخطأ والصواب ، لأن سلطة العاطفة والمنفعة الذاتية ومعهما العقل التبريري الجاهز والمتحفز للتغطية والتمويه ، وصد إعمال العقل المنطقي والتفكير السديد ، يتحول الانسان في لحظات التبرير الى كائن مكفوف البصيرة ، فلا يرى أمامه الا طريقا واحدا وموقفا انفعاليا سلبيا وهو كيف يخرج من مغبة تجريم الخطأ ، وقلق الموقف النقدي الذاتي الى ترويح النفس بالاطمئنان الموهوم ، فينبري العقل التسويقي لصاحبه كالمنقذ بأن يضعه في موقف الضحية وموقف المظلوم وموقف المنكسر ، أما غيره من الناس فهم الذين يرتكبون الأخطاء عمدا ودائما ، دونما احساس بالعتب أو مظنة الاعتذار والتراجع .. مثل هذا الحديث مع النفس يمليه عقلنا المبرر لأخطائنا ، يجعلنا ننتقل من محاولة مراجعة مواقفنا الخاطئة ، والعزم على عدم تكرار فعل الخطأ إلى عقد العزم على العودة مجددا لنفس الموقف ، من هنا تأتي مشكلة الانسان مع مواقف تسويغ فعل الخطأ العمدي ، والعقل التبريري لا يقف عند هذا الحد ، بل هو – وبكل ثقة – قادر على تسويغ اعقد القضايا ، والباسها ثوب الحقيقة والصدق ، بالانتقال من الشيئ إلى ضده ، بأن يجمع ويساوي بين المتناقضات من المفاهيم في وحدة غير جدلية في نفس الموقف ، فلا يفصل بين الحرية الشخصية وقيم المجتمع بين الحق الخاص والعام ، بين الخيانة والأمانة ، ويقدمها على أنها مترادفات ملتبسة تحتمل التأويل والتفسير المتشابه ، ليدافع عن سقطاته وضدها في نفس الوقت ، وتكمن مشكلة العقل التبريري بأنه عقل تبسيطي وذرائعي ، يهيم صاحبه بتبسيط آثار الأخطاء ونتائجها التي يتضرر منها الناس أو البيئة والمجتمع والوطن والدين” عبد العزيز بن علي السويد مقال ” العقل التبريري في الفعل الاجتماعي ” موقع بحوث – 14 – 4- 2009 –
لقد اضحى التبرير والتخوين سمة اساسية من سمات التنازع الكردي الكردي في ظروفنا الراهنة فكل حزب يبرمج اتباعه على المطلقية الايديولوجية والصواب الكامل للقائد زعيم الحزب الذي يصل مع استمرار تنزيهه عن الخطأ الى مستوى القداسة والألوهة فيتحول انصار الحزب الى اتباع لا مشاركين في القرار ، ويتحول التنظيم الى ما يشبه التنظيم العسكري بتنفيذ اوامر القيادة العليا دون تبرير ، وهذه التبعية العمياء – تؤدي الى تحول الاعضاء الحزبيين ومؤيديهم الى جيش جرار من مغلقي العقول ومسكري الادمغة وهواة نشر الدعاية الحزبية وتبرير اخطاء الحزب وأخطاء زعيمه وكذلك حتى اخطاء مؤيديهم هذا من طرف حزب كردي كبير او صغير، في المقابل عند حزب كردي آخر نفس المعادلة تسري على الاعضاء والمؤيدين ، وتأتي الاحداث الدراماتيكية الى حصول تنازع وتنافر ايديولوجي واعلامي ضار جدا وخطير الى درجة كبيرة ، وتجري حملات التخوين كل طرف للآخر وتتحول صفحات التواصل الاجتماعي الى ميادين وساحات المعركة الاعلامية الكبرى ، كل ينهش من لحم الآخر، والكل يرفع شعارات كبرى بتحرير الكرد وتحرير كردستان أو بالامة الديموقراطية في غربي كردستان ، هذا يتهم ذاك بالعمالة للمحور التركي السعودي مثلا وذاك يتهم هذا بالعمالة للمحور الايراني السوري – النظام السوري – وتستمر المعركة السياسية والإعلامية حامية الوطيس ، وكل يبرر لحزبه ويخون الاخر بشتى التهم ، دون الوصول الى تفاهم ما باعتبار انهم كردا ويريدون ان يحققوا حقوق الشعب الكردي !، وعندما يأتي مستقل او وطني غيور او احدى مؤسسات المجتمع المدني او احد الكتاب او المثقفين ليطرح وجهة نظر ما مستقلة ومختلفة بنقد احد الاطراف او عدة اطراف ، سرعان ما تنهال عليه الاتهامات من كل حدب وصوب بالصاقه بالطرف الفلاني وكأن الاستقلالية او الوطنية الحقة أضحت عملة نادرة ومن المحرمات الكبرى التي لا يجوز ان تحدث في واقعنا الراهن ، استطيع القول ان ما يحدث حقيقة اشبه بالانتحار الذاتي الكردي ولو بصورة ايديولوجية او اعلامية وأحيانا بالسجن او منع السفر او الابعاد او حتى باطلاق يد ولسان زعران الحزب لينهالوا بالسباب والشتائم لأي صوت حر ينطق بالحقيقة المستقلة والرأي السديد
التبرير آفة شرقية ، وهي كرديا تأخذ منحى خطيرا في ابعاد نقاط التفاهم والاتفاق بين الاطراف الكردية وتجاهل خطورة المرحلة الراهنة ، كما أن التخوين هو المعادل المعاكس لعملية التبرير فمقابل التبرير يأتي التخوين وهي ثقافة خاطئة لا بل ضارة وسامة للكرد او غيرهم ، نحن نعرف ان الانسان من حقه ان يعطي رأيه بأي قضية سيما وان اتسم هذا الرأي بالموضوعية والصدق والدقة وعوضا عن لجوء الاحزاب الى تصحيح الاخطاء وتصويبها بعد الاستماع او قراءة النقد نجدها تلجأ الى التهجم على صاحب الرأي وتخونه وتبرر للحزب اخطاءه وعيوبه ، وهنا تأتي مهمة المثقفين والكتاب الكرد في دحض المفاهيم والشعارات والممارسات الايديولوجية الخاطئة والمضرة بنضال الشعب الكردي من اجل حقوقه عبر عقود وقرون من الزمن كانت محملة ببرك من الدم وانهار من الدموع وآهات من الهجرة والتغرب والتشرد في بلاد الله الواسعة وجبال من المعاناة الشاقة والصعبة في آن في كل جزء من كردستان .
………………………………….
– المقال نشر بجريدة المستقبل اللبنانية – 6-9-2016