خوشناف سليمان
لعبة الشطرنج أو كما يسمونها لعبة الملوك هي كالسياسة يتقنها الأذكياء فقط، وينتصر فيها أصحاب البصيرة والعقول النيرة. وهم عندما يقومون بحركة ما، يدركون غايتها ونهايتها. فالأمر لا يتعلق بتحريك الأحجار وحسب، بل اتخاذ خطوات مناسبة ومحسوبة. عكس ذلك قد يؤدي الى اختلال موازين القوى والى خسارة مؤلمة. ولعبة الشطرنج ليست لعبة دموية، قائمة على إبادة القطع بل على إزاحتها فقط. لاعب الشطرنج المبتدئ لا يفقه قواعد الصراع، فتراه يبدأ بإزاحة قطع الخصم بوحشية، لإعتقاده انه بهذه الطريقة سيضعفه، فيقوم مثلا بنقل الوزير منذ البداية ويهاجم ويتراجع ويهدد؛ هذا اللاعب سيخسر من كل بد لأنه غير قادر على القيام بحركات متوازنة. أما اللاعب المحترف، لا يدخل مع خصمه في صراعات جانبية عقيمة، بل يفضل التقدم بهدوء بدل التهديد. وفي لعبة الشطرنج، يمثل البيادق او الجنود نصف قطعها، ويتم التضحية بهم بسهولة. الطريف في الأمر، هو قدرة هؤلاء الجنود على حرية الأختيار وتقرير المصير، فالمثابرون منهم فقط يتحولون الى وزير او قلعة، وهم وحدهم قادرين على التأمل والاسترسال في الرُؤى لتحقيق أمانيهم وطموحاتهم.
جوهر إستراتيجية الشطرنج تكمن في مسألة بالغة الحيوية ألا وهي التضحية، حيث يضحي اللاعب الماهر بقطعة ما في سبيل تحسين وضعيته، او إحتلال مربع يكون فيه أكثر فاعلية، او الحصول على أعمدة او ممرات مفتوحة، كي يستطيع إضعاف خصمه أو كسر توزيع بيادقه. إتخاذ قرار التضحية يتطلب حسابات دقيقة وفهماً عميقاً لإستراتيجيات الشطرنج القتالية. فعندما يضحي اللاعب بقطعة ما، فأنه يسعى الى تنفيذ إماتة او كسب وضعية استراتيجية أفضل من اجل الفوز. وهناك نوعين اساسيين للتضحية: تضحية مزيفة، تقود إلى فائدة مباشرة وإجبارية كتنفيذ إماتة؛ وتضحية حقيقية لا تتبعها فائدة مباشرة تستهدف عادة تأمين وضعية إستراتيجية ويدل على فهم كبير للعبة الشطرنج.
كما ذكرنا، فأن جوهر إستراتيجية لعبة الملوك، يتجسد في الإقدام على التضحية، فتتم التضحية بأحجار متدنية القيمة، كالبيادق والاحصنة والافيال، بهدف الوصول الى النصر المنشود. وهي تجري في الوقت المناسب من اجل إحداث تغيير في خريطة الصراع وتسيير الأمور حسب إملاءات الكبار. ولكي يتسنى لنا إدراك كُنه هذه الإستراتيجية، علينا التمعن في لعبة الأساتذة الدوليين الكبار على رقعة الشطرنج السورية. فجميعهم، بدءاً من بوتين واوباما ومروراً باللاعبين الإقليميين الصغار، يقومون بأداء أدوارهم وفق هذه الإستراتيجية.
الغراندماستر بوتين، اللاعب الروسي المتألق، ضحى بالجميع وأستطاع إضعاف خصومه والحصول على أفضل وضعية استراتيجية. بوتين أجبر اردوغان على إنهاء دعمه للجماعات الإرهابية، فقام الأخير بإصدار أوامره لتنظيم داعش الارهابي بالإنسحاب من جرابلس دون قتال، فقام جيشه بالسيطرة على المدينة لبضعة ساعات دون إطلاق رصاصة واحدة، وكذلك بسحب جماعاته الاخرى من داريا، ولم تتعرض له لا منظومة اس 400 الروسية ولا حتى طائرات بشار الحربية.
غراندماستر اوباما-الامريكي، وبعد الإتفاق الروسي-التركي-السوري، وفي الوقت الذي كان فيه “بيادقه” من الكُرد يحررون منبج، ويتأهبون لإقتحام جرابلس، قام اوباما عبر نائبه جو بايدن، بتهديدهم وحثهم على ضرورة الإنسحاب والتراجع الى شرق الفرات، وإلا سيتم التضحية بهم! وهو ذاك الذي حمَاهم من هجمات طيران النظام السوري!
اما الماستر المبتدئ اردوغان، ضحى ايضا بقطعه من جماعات المعارضة السورية. ورضى بأدنى درجات الإذلال والإحتقار الروسي والأذعان لطلبات بوتين الخاصة، كي يتمكن من إيقاف تحركات أعدائه الكُرد على حدوده الجنوبية وكبح طموحاتهم الاستقلالية، خاصة بعدما إجتاحوا مواقع كان يعتبرها خطاً أحمراً. بذلك استطاع اردوغان، ولو جزئيا، فك العزلة الاقتصادية والسياسية عن بلاده وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وهكذا فأن الكبار يضحون بالقرابين والأضاحي، حتى ولو كانت على حساب مكوناتها، ومن ضمنهم الكُرد، او حتى اذا أقتدى الأمر الإبقاء على نظام الطاغية بشار الدموي او التحالف حتى مع الشيطان! وما يجري الآن على الأرض، ما هو إلا تجلى لرأس جبل الجليد، والقادم أعظم.
ما يهمني في سياق هذه التطورات أداء اللاعب الكردي، الذي يظهر كأضعف لاعب في حلبة المحترفين، وهو بمثابة ذلك المبتدئ، الذي لا يملك إستراتيجية واضحة، وينقصه ركائز يستند عليها، مثل الذكاء والكفاءة في تكتيك التضحية بممتلكاته المادية وكذلك تشتت قطعه او قواه ما بين اكثر من موقع ومحور. وقد يؤدي هذا الإختلال الى التسرع في إتخاذ خطوات غير موزونة وخطيرة، قد تفضي في النهاية الى سقوط حتمي. في عالم السياسة لا يمر عقد الصفقات، بالضرورة من أبواب أمامية. فالجميع وفي ظروف تاريخية معينة، يحتفظون بأبواب خلفية خفية لتنفيذ خطط او تفاهمات مشتركة. لكن صراع الكبار في عالمنا اليوم من اجل الهيمنة، ليس مثل عمل مؤسسة خيرية، بل هو صراع تنافسي شديد التعقيد، لم يدركه الكُرد حتى هذه اللحظة.
هي إذن لحظات تاريخية فارقة في حياة الكُرد. فإما ان يصبحوا لاعبين محترفين حقيقيين في لعبة الكبار او يتحولوا بثبات الى ضحايا خاضعين وتابعين لهم.
الى ذلك الحين، فنحن بإنتظار ذلك الزمن، الذي يقرر فيه “البيادق” الكُردية بحسم المعركة؛ وذلك الزمن، الذي يتحولون فيه الى وزراء حقيقيين او قلاع قوية، قادرين على تقرير مصير اللعبة وتحقيق أمانيهم بالحرية والإستقلال! او ان يتخاذلوا، وفي تخاذلهم يكمن آفتنا وضمورنا.