بافي ايمي *
العادة والتكرار، شيئان مهمان جدا لبناء الشخصية، منذ الطفولة، هكذا يتحدث و يشرح العالم النفساني النمساوي فرويد.
كي تصبح الحركات الجسدية أوتوماتيكية الفعل، لا بد من إعادتها لمرات متوالية، مثلا كيف يمسك الطفل زجاجة حليبه، أو كيف يعتاد المرة على سياقة السيارة، و بعد فترة وجيزة يقوم الأنسان بفعلها دون تفكير و عناء طويل.
كي تصبح الحركات الجسدية أوتوماتيكية الفعل، لا بد من إعادتها لمرات متوالية، مثلا كيف يمسك الطفل زجاجة حليبه، أو كيف يعتاد المرة على سياقة السيارة، و بعد فترة وجيزة يقوم الأنسان بفعلها دون تفكير و عناء طويل.
هذه العملية تنطبق على ردود فعلنا كلها، دون التطرق اليها سواء كانت إيجابية أم سلبية.
ولكي لا يحس كل من صار اسمه لاجئ سياسي بالظلم و الغبن، سأختصر الحديث عن الأغلبية فقط، و من وقائع يومية اسمعها و أراها في حياتي المهنية في احدى زوايا أوربا، و الأمر متعلق بالقادمين من بلادنا، و سأختص الحديث عن الوافدين من الكرد، ابناء جلدتي، من سوريا.
و قصة جتو مثال حي عن الأغلبية المقصودة.
نتيجة لظروف عامة بالمعيشة و البعض من الأمور الأجتماعية والأقتصادية و حتى السياسية العامة، ومنها تكرار عملية مافعل الآخرين، يقرر جتو بمغادرة البلاد، و على الأغلب بطريقة شرعية هناك، بمساعدة شبكة تهريب من المختصين و ذوي التجارب، و المعروفين بأبو فلان و علان، ثم يصل إلى أوربا بطريقة يسميها محققي اللجوء هنا، الدخول إلى البلد بطريقة غير شرعية.
يسرد جتو قصة قصيرة في البداية، لقنها إياه المهرب، ولكن على ما يبدو أن القصة غير محبكة ومترابطة، فيخرج من التحقيق الأولي وفي رأسه مئات من الأسئلة، لا يرى لها جوابا،و إن كان محظوظا يقبل طلب لجوئه الأولي، و يسمح له بالدخول إلى أرض البلد الجديد، ثم ينقل إلى مجمع، معسكر، وهنا يتعرف بسرعة على الواصلين من قبله هناك.
فيأتيه أحدهم، قائلا: لا تخاف، فسأحبك لك قصة مفيدة جدا لمحكمتك القادمة، و أنا متطلع على قوانين اللجوء و أعرف كل صغيرة و كبيرة في هذا البلد، فقط ما هو عليك، أن توقع على ورقة على ورقة انتساب لحزبنا الكريم، ثم تشاركنا في المظاهرة القادمة أمام السفارة، أو الوزارة و الباقي علي أنا ولا يهمك.
جتو المسكين: ولكن ليس لي معلومات عن حزبكم، لم أدخل حزبا في حياتي أبدا و السياسة أيضا كنت بعيد عنها في بلادي!
هنا تبدأ القصة، و التلقين الممل، و يفضل كتابة جميع المعلومات المسرودة، و اعادتها لمرات عديدة أو حفظها عن ظهر قلب، مثل دخول امتحان.
جتو يبدأ و فورا من بداية اليوم التالي، بسرد معلومات مغايرة لما سردها البارحة، حتى أن اسمه صار ما بين ليلة و ضحاها جتو السياسي، بعد أسبوع يشارك في اجتماع حزبي * دون برنامج ولا تنظيم سوى الدعاية والأعلان للحزب الذي دخل فيه جتو* لكن لا يهم، جتو يسمع و يوقع على ورقة أخرى، الأنتساب إلى جمعية، انشئت على الأرجح بعد الحوادث العفوية، أو لنرضي الجميع انتفاضة آذار المجيدة، ثم يدفع بعضا من اليوروهات كأشتراك رسمي.
جتو، حفظ قصته الجديدة، يسردها هنا و هناك، ويقويها ببعض من العبارات الوطنية المتلهبة، ثم يتحمس للمشاركة في المظاهرة القادمة، و يفضل أن يكون ذلك بأسرع وقت ممكن، فجتو يحتاج للصور كدليل يقدمه في المحكمة لمشاركته في المظاهرة، التي قد تكون الأولى في حياته السياسية الجديدة!
جتو، لا يسأل نفسه، من الذي نظم المظاهرة؟ ماهي أهدافها؟ هل من موعد رسمي مع الجهة الرسمية اللتي سنقوم بالتظاهر أمامها؟ ماذا يفكر الآخرون هنا أصحاب البلد المضيف عنه و عن جماعته في الشارع؟ كم من النفر سيشاركون؟ هل بالفعل للمظاهرة وزن على الشارع؟ كلها أسئلة لا تراود فكر جتو، إنما أسئلة أخرى تهمه أكثر، من سيصور المظاهرة؟ هل له صديق عنده كاميرا؟ يفضل أن يحمل لافتة مكتوب عليها شعار براق؟ لا هم أن راعت ظروف بلده أو أهله هناك؟ لا هم أن كان الشعار واقعيا أم حلما؟ ما هي آثار هكذا شعار؟ كل ذلك غير جدير بالتفكير فيه، المهم أن جتو يشارك.
نعم يشارك، و يتمايل لتصوير نفسه من كل الجهات، بيده علم، شعار، يفضل الأثنان معا، يصرخ بصوت عالي، الحرية لنا والوطن لنا، يا أبناء ال……! ثم يردد ما يسمعه أيضا من الآخرين بلغة جديدة متلكأة، لا يفهم ما يقولون، ولكن يتابع، ينسى ظلم السنين الطويلة هناك، و ما من يد ستطاله هنا، فيقول كل ما يقول.
يعود جتو من المظاهرة، يتصل سريعا بأمه في البلد هناك، لقد تظاهرنا و فعلنا كذا و كذا، انا ابنكم، سترون صورتي غدا في مواقع عديدة على الأنترنت، و صاحب الموقع حتى أنني تعرفت عليه، قد تكتب وقائع المقالة باسمي أيضا، ابشروا و استبشروا، ابنكم صار بطل سياسي، لن نخاف أبدا، سنقوم بنشاطات أخرى و أخرى، في الشوارع، في الصالات، ندوات و مظاهرات، كلمات و نشاطات! لايهمك يا أمي لقد أنجبت بطلا لأمته.
بعد فترة قصيرة، يحدد موعد محكمة لجوء جديدة لجتو، يدخل على الحاكم، محملا بمصدقة حزب كردي سوري سياسي، و مصدقة جمعية وطنية، و صور ما هب و ما دب من مظاهرات أمام السفارات والوزارات، كلها في وقت قصير، ثم يجلس منتصبا ظهره على كرسي، و يناقش حتى مع الحاكم والمترجم، أهداف حزبنا ليست فقط مساوتنا مع الشعوب الأخرى في بلدنا، ولا حقوق ثقافية واجتماعية و سياسية و لا فقط عدالة، إنما عليكم أن تعرفوا، نحن نناضل من أجل وطن مستقل لنا، و أضعف الأحتمالات هي الحكم الذاتي، و و على الأرجح سأستلم وزارة من وزارات الوطن الجديد، ولما لا، فلي تاريخ سياسي و أنا معروف من قبل كل الوسائل الأعلامية، والأنترنت خاصة.
الحاكم لا يسأل جتو كثير عن أسباب خروجه من بلده * هروبه * إنما يقول لجتو: اسمع يا سيد جتو، أعرف تماما هدفك هنا، وليس لديك أسباب لجوء مقنعة، و حتى أن اسمك مزور و بطاقتك، سننظر بعين الرحمة لمشاركتك في المظاهرة هنا كعائق يعيق ترحيلك إلى بلدك الأم، لأنه لدينا تقارير خاصة تقول أن من شارك في بلاد أجنبية بمظاهرة ضد بلده الأم، يتشكل خطر على ترحيله، لسجنه هناك، مع العلم أنني شخصيا غير مقتنع بكل هذا، ولكن هذا البند من القانون مازال ساريا و لفترة وجيزة، سيتغير في المستقبل القريب، فلك منا حق الحماية والإقامة هنا، فحاول احترام بلدنا وقوانينه.
منح لجتو حق اللجوء السياسي، لقد صار لاجئا سياسيا، يفهم كل السياسات في العالم و ليس فقط في بلده.
جتو يفتخر بنفسه و إنجازاته في وقت قصير، ولكن على ما يبدو أن رفاق الحزب بدأوا يزعجونه، بمشاركتهم في اجتماعات و نشاطات و دفع اشتراكات مالية، يفكر جتو جديا في الموضوع في تقديم استقالته من الحزب والجمعية أيضا، فقد قضي الأمر، انتهت المصلحة و لكن قد يبقى مشاركا لبعض من الشهور أو السنين القصيرة للحفاظ على اسمه السياسي، و مركزه المهم في الحزب و ما بين الأصدقاء.
أنا بطل سياسي، دخلت السجون، كتبت الكتب السياسية، ناضلت سنينا مريرة، شاركت في النشاطات السياسية دائما، كنت وطنيا فوق العادة، أكثر من الآخرين، أنا جتو البطل السياسي.
على فكرة نسيناأن أصدقاء جتو ينادونه الآن، مموستا جتو! و سينال لقب دكتور قريبا، دون دراسة فقط يحتاج لتسجيل نفسه في أحد الجامعات، فهل يتنازل؟
——-
ولكي لا يحس كل من صار اسمه لاجئ سياسي بالظلم و الغبن، سأختصر الحديث عن الأغلبية فقط، و من وقائع يومية اسمعها و أراها في حياتي المهنية في احدى زوايا أوربا، و الأمر متعلق بالقادمين من بلادنا، و سأختص الحديث عن الوافدين من الكرد، ابناء جلدتي، من سوريا.
و قصة جتو مثال حي عن الأغلبية المقصودة.
نتيجة لظروف عامة بالمعيشة و البعض من الأمور الأجتماعية والأقتصادية و حتى السياسية العامة، ومنها تكرار عملية مافعل الآخرين، يقرر جتو بمغادرة البلاد، و على الأغلب بطريقة شرعية هناك، بمساعدة شبكة تهريب من المختصين و ذوي التجارب، و المعروفين بأبو فلان و علان، ثم يصل إلى أوربا بطريقة يسميها محققي اللجوء هنا، الدخول إلى البلد بطريقة غير شرعية.
يسرد جتو قصة قصيرة في البداية، لقنها إياه المهرب، ولكن على ما يبدو أن القصة غير محبكة ومترابطة، فيخرج من التحقيق الأولي وفي رأسه مئات من الأسئلة، لا يرى لها جوابا،و إن كان محظوظا يقبل طلب لجوئه الأولي، و يسمح له بالدخول إلى أرض البلد الجديد، ثم ينقل إلى مجمع، معسكر، وهنا يتعرف بسرعة على الواصلين من قبله هناك.
فيأتيه أحدهم، قائلا: لا تخاف، فسأحبك لك قصة مفيدة جدا لمحكمتك القادمة، و أنا متطلع على قوانين اللجوء و أعرف كل صغيرة و كبيرة في هذا البلد، فقط ما هو عليك، أن توقع على ورقة على ورقة انتساب لحزبنا الكريم، ثم تشاركنا في المظاهرة القادمة أمام السفارة، أو الوزارة و الباقي علي أنا ولا يهمك.
جتو المسكين: ولكن ليس لي معلومات عن حزبكم، لم أدخل حزبا في حياتي أبدا و السياسة أيضا كنت بعيد عنها في بلادي!
هنا تبدأ القصة، و التلقين الممل، و يفضل كتابة جميع المعلومات المسرودة، و اعادتها لمرات عديدة أو حفظها عن ظهر قلب، مثل دخول امتحان.
جتو يبدأ و فورا من بداية اليوم التالي، بسرد معلومات مغايرة لما سردها البارحة، حتى أن اسمه صار ما بين ليلة و ضحاها جتو السياسي، بعد أسبوع يشارك في اجتماع حزبي * دون برنامج ولا تنظيم سوى الدعاية والأعلان للحزب الذي دخل فيه جتو* لكن لا يهم، جتو يسمع و يوقع على ورقة أخرى، الأنتساب إلى جمعية، انشئت على الأرجح بعد الحوادث العفوية، أو لنرضي الجميع انتفاضة آذار المجيدة، ثم يدفع بعضا من اليوروهات كأشتراك رسمي.
جتو، حفظ قصته الجديدة، يسردها هنا و هناك، ويقويها ببعض من العبارات الوطنية المتلهبة، ثم يتحمس للمشاركة في المظاهرة القادمة، و يفضل أن يكون ذلك بأسرع وقت ممكن، فجتو يحتاج للصور كدليل يقدمه في المحكمة لمشاركته في المظاهرة، التي قد تكون الأولى في حياته السياسية الجديدة!
جتو، لا يسأل نفسه، من الذي نظم المظاهرة؟ ماهي أهدافها؟ هل من موعد رسمي مع الجهة الرسمية اللتي سنقوم بالتظاهر أمامها؟ ماذا يفكر الآخرون هنا أصحاب البلد المضيف عنه و عن جماعته في الشارع؟ كم من النفر سيشاركون؟ هل بالفعل للمظاهرة وزن على الشارع؟ كلها أسئلة لا تراود فكر جتو، إنما أسئلة أخرى تهمه أكثر، من سيصور المظاهرة؟ هل له صديق عنده كاميرا؟ يفضل أن يحمل لافتة مكتوب عليها شعار براق؟ لا هم أن راعت ظروف بلده أو أهله هناك؟ لا هم أن كان الشعار واقعيا أم حلما؟ ما هي آثار هكذا شعار؟ كل ذلك غير جدير بالتفكير فيه، المهم أن جتو يشارك.
نعم يشارك، و يتمايل لتصوير نفسه من كل الجهات، بيده علم، شعار، يفضل الأثنان معا، يصرخ بصوت عالي، الحرية لنا والوطن لنا، يا أبناء ال……! ثم يردد ما يسمعه أيضا من الآخرين بلغة جديدة متلكأة، لا يفهم ما يقولون، ولكن يتابع، ينسى ظلم السنين الطويلة هناك، و ما من يد ستطاله هنا، فيقول كل ما يقول.
يعود جتو من المظاهرة، يتصل سريعا بأمه في البلد هناك، لقد تظاهرنا و فعلنا كذا و كذا، انا ابنكم، سترون صورتي غدا في مواقع عديدة على الأنترنت، و صاحب الموقع حتى أنني تعرفت عليه، قد تكتب وقائع المقالة باسمي أيضا، ابشروا و استبشروا، ابنكم صار بطل سياسي، لن نخاف أبدا، سنقوم بنشاطات أخرى و أخرى، في الشوارع، في الصالات، ندوات و مظاهرات، كلمات و نشاطات! لايهمك يا أمي لقد أنجبت بطلا لأمته.
بعد فترة قصيرة، يحدد موعد محكمة لجوء جديدة لجتو، يدخل على الحاكم، محملا بمصدقة حزب كردي سوري سياسي، و مصدقة جمعية وطنية، و صور ما هب و ما دب من مظاهرات أمام السفارات والوزارات، كلها في وقت قصير، ثم يجلس منتصبا ظهره على كرسي، و يناقش حتى مع الحاكم والمترجم، أهداف حزبنا ليست فقط مساوتنا مع الشعوب الأخرى في بلدنا، ولا حقوق ثقافية واجتماعية و سياسية و لا فقط عدالة، إنما عليكم أن تعرفوا، نحن نناضل من أجل وطن مستقل لنا، و أضعف الأحتمالات هي الحكم الذاتي، و و على الأرجح سأستلم وزارة من وزارات الوطن الجديد، ولما لا، فلي تاريخ سياسي و أنا معروف من قبل كل الوسائل الأعلامية، والأنترنت خاصة.
الحاكم لا يسأل جتو كثير عن أسباب خروجه من بلده * هروبه * إنما يقول لجتو: اسمع يا سيد جتو، أعرف تماما هدفك هنا، وليس لديك أسباب لجوء مقنعة، و حتى أن اسمك مزور و بطاقتك، سننظر بعين الرحمة لمشاركتك في المظاهرة هنا كعائق يعيق ترحيلك إلى بلدك الأم، لأنه لدينا تقارير خاصة تقول أن من شارك في بلاد أجنبية بمظاهرة ضد بلده الأم، يتشكل خطر على ترحيله، لسجنه هناك، مع العلم أنني شخصيا غير مقتنع بكل هذا، ولكن هذا البند من القانون مازال ساريا و لفترة وجيزة، سيتغير في المستقبل القريب، فلك منا حق الحماية والإقامة هنا، فحاول احترام بلدنا وقوانينه.
منح لجتو حق اللجوء السياسي، لقد صار لاجئا سياسيا، يفهم كل السياسات في العالم و ليس فقط في بلده.
جتو يفتخر بنفسه و إنجازاته في وقت قصير، ولكن على ما يبدو أن رفاق الحزب بدأوا يزعجونه، بمشاركتهم في اجتماعات و نشاطات و دفع اشتراكات مالية، يفكر جتو جديا في الموضوع في تقديم استقالته من الحزب والجمعية أيضا، فقد قضي الأمر، انتهت المصلحة و لكن قد يبقى مشاركا لبعض من الشهور أو السنين القصيرة للحفاظ على اسمه السياسي، و مركزه المهم في الحزب و ما بين الأصدقاء.
أنا بطل سياسي، دخلت السجون، كتبت الكتب السياسية، ناضلت سنينا مريرة، شاركت في النشاطات السياسية دائما، كنت وطنيا فوق العادة، أكثر من الآخرين، أنا جتو البطل السياسي.
على فكرة نسيناأن أصدقاء جتو ينادونه الآن، مموستا جتو! و سينال لقب دكتور قريبا، دون دراسة فقط يحتاج لتسجيل نفسه في أحد الجامعات، فهل يتنازل؟
——-
* مترجم، مرشد اجتماعي.
النمسا.
النمسا.