د. محمود عباس
لم يكن اعتباطيا عقد القمة في سان بطرسبورغ ما بين بوتين_ وأردوغان، مدينة القيصر، فيها من الملفات، والقاعات التي ستنبه وتذكر المتطبع لمسيرة السلاطين، بالتاريخ الماضي، والحروب التي دامت عقود على القرم وما حولها من جغرافيات، التي استعادها القيصر مؤخراً دون أن يكون للسلطان جرأة على الاعتراض عليها كما كان في القرون الماضية، كما وهي العاصمة القيصرية التي كانت تواجه أوروبا على مدى قرنين من الزمن، فمنها أوصل القيصر بوتين الرسالتين لأردوغان وللناتو. وبالمقابل، عرض أردوغان ذاته، في عاصمة سلاطينه (إستانبول-القسطنطينية) كالرجل القوي، قبل أن يمتثل بين يدي القيصر، عن طريق الاحتفالات الضخمة والتحشيد الهائل، وإحضار أمجاد الماضي، منتقصا من عاصمة أتاتورك العلمانية، مثلما فعلها بوتين بعاصمة لينين البلشفية.
القمة بعكس ما يعرض إعلاميا على أنها محاورات بين جارتين، سيتفقان على إعادة العلاقات الاقتصادية والسياسية إلى سابق عهدها، ولربما توسيعها، وليس حضور لضيف ضعيف يبحث عن ملاذ لإعادة الاعتبار الذي كان عليه قبل سنوات، قبل أن تتخلي عنه حلفائه الأوربيون والأمريكيون، بل يقف في مقدمة كل هذه، رد الفعل الأردوغاني على الانقلاب الذي يتهم بها الإدارة الأمريكية، وبأنها كانت ورائها، مثلما كانت روسيا سند له على إحباطها، عزز الاتهام، بتقديم إثباتات حول تورط ضباط أمريكيين كبار في التخطيط، اعتبرتها إدارته بانها دامغة ( سبق وبحثنا في هذه القضية في مقال سابق) كما وقد سبق الانقلاب انتقادات أمريكية لإدارته، حول انتهاكاتها لحرية الإعلام، والتضييق على الصحفيين، وغيرها من القضايا التي تنخر في البنية الديمقراطية التي تتحلى بها تركيا، والخلافات كانت قد بلغت حد الجفاء بينهما سابقاً، ودخلت مرحلة القطيعة بعد الانقلاب، والتحالف مع روسيا في معظمه رد فعل على ما جرى، ساندتها الرفض الأوربي المتتالي وعلى مدى العقود الماضية لقبوله ضمن الاتحاد، وآخرها كانت قضية الفيزا الأوروبية، كما ويدرك أردوغان أن تراجعاً يتم حول الصيت التركي في العالم العربي والإسلامي، ويتوقع بأنه ستليه تباعد في العلاقات، قد تشمل الاقتصاد، والعلاقات الاستراتيجية، ولا تستبعد تركيا بأن أمريكا وأوروبا ورائها، لإضعافه وبشكل خاص أضعاف إدارته وهيمنة حزبه الإسلامي، وبقوة إسلامية أكثر منه تشدداً.
توقعه لها خلفيات، فلا يستبعد جمود في العلاقات العسكرية، ومن ضمنها الناتو والقواعد الأمريكية ألـ 12 المترسخة منذ بدايات الحرب الباردة على الأراضي التركية، رغم صعوبة هذا المجال، والاقتصادية والتي ستعود بضرر غير قليل على تركيا، مع ذلك لن توقف محاولات القطيعة مع أمريكا، أو قبولها كما كانت سابقاً، صاحبة رأي وقرار ضمن العالمين العربي والإسلامي، فمهما توسعت مجالها الاقتصادي مع روسيا ودول الشرق الإسلامي فلن تبلغ ربع ما تضخه الاستثمارات الأوروبية الأمريكية إلى تركيا ومنها إلى العالم العربي والإسلامي، والبالغة في عدة سنوات متتالية قرابة 75% من الدخل الوطني التركي العام، ووصلت حدود 400 مليار دولار، حسب الإحصائيات الرسمية التابعة لهيئة الأمم وصندوق النقد العالمي.
لا يشك بأن الحوار بدأ بتقديم الاعتذار بمنطق الطاعة لهيمنة الاستراتيجية الروسية على المنطقة، مع كلمات الشكر والامتنان على ما قدمته روسيا من خدمات لإحباط الانقلاب العسكري، والتركيز على هذا الحيز لا بد وقد أحتل مجالا واسعاً، فهي القضية الأهم لإعطاء قرار البدء بالقطيعة مع الإمبراطورية الأمريكية والأوروبية. والتركيز على دور روسيا في حل القضية السورية لم يكن سوى قبول لاستراتيجيتها في المنطقة، وتفضيلها على الاستراتيجية الأمريكية، متناسيا هنا أنها استراتيجية متفقة عليها بين الإمبراطوريتين، وتركيا دارجة كغيرها من دول الشرق الأوسط ضمن هذه الاستراتيجية كتابع لقطب أو لأخر، والتغيرات التي يخلقها أردوغان في سياسته الخارجية، ليست سوى محاولة للانتقال من حضن إمبراطورية إلى أخرى، حتى ولو نجح فيها، سيبقى اعتباره عن الجهتين هو ذاته.
وتصريحات أردوغان الأخيرة للإعلام، والتي تتضمن تصعيدا غير مسبوق في سياسته، وبعضها يعد انقلاباً كلي على الماضي القريب، مثل طلبه بمشاركة روسيا في حل القضية السورية، والتي هي من ضمن عمليات التمويه، والتغطية على الانتكاسة والتراجع الذي حل به بعد الانقلاب، وعلى تناقص دوره مع الدول العربية، وإخفاء محاولات تقليص دعمه للمنظمات الإسلامية الراديكالية ومن ضمنها داعش. فذكره، في تصريحه الأخير، بانه يستطيع إدراج إيران كطرف ثالث في الحوارات المتعلقة بسوريا، غايتها إظهار ذاته أمام الإعلام بأنه لا يزال إحدى الأطراف الفاعلة في هذه المحاور. وإحضاره أسماء الدول العربية، تكتيك للإبقاء على خط الرجعة مع الدول العربية الإسلامية السنية، أعقبهما بإضافة غريبة، قائلاً (إذا اقتضى الأم فسنشرك إيران، ويمكننا أيضا أن ندعو كلا من قطر والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية) فما هي خلفيات تذكيره لأسم أمريكا وبهذه الطريقة وإدراجها مع أسم قطر! هل: أردوغان يرى بأن أمريكا خسرت هيبتها في المنطقة، وهي أضعف من أن تستطيع ردع المستهزئين بها وباستراتيجيتها في الشرق الأوسط، وتركيا لم تعد تعير أي اهتمام لتحالفها، علماً أنها دولة بثقل الدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، كمصر وإيران أو حتى ربما كالسعودية، ليس أكثر، وفي هذا المجال لا نستبعد أن يكون القيصر قد غرر به بخطوط حمراء ساذجة على مقاس تركيا. أو أنه تصريح ساذج متسرع يعكس رد الفعل على خلفية محاولة الانقلاب المتهم بها أمريكا، وما لاقاه من الجفاء الأمريكي الأوروبي! وعلى الأغلب، ذكر أمريكا وبهذه البساطة الإعلامية حتى ولو كان تهجم سياسي، لا يستبعد أنه سيدفع ثمنها مستقبلا. وتوقع العنجهية الساذجة الشخصية، في تصريحه هذا، أرجح من التهكم بقوة أمريكا في المنطقة، وذلك من خلال طريقة ذكره للقوى الأخرى الفاعلة والمحركة في القضية السورية بل وفي جميع مشاكل الشرق الأوسط، كإيران، والتي هي معروفة للبشرية جميعها دورها وتأثيرها على جميع مجريات الأحداث في المنطقة والساخنة منها بشكل خاص. وفي بعد آخر، قد يكون تصريح أردوغان مجرد دعاية إعلامية رخيصة للتذكير بتركيا السلطانية التي كانت تتحاور مع القيصر في مثل هذه القضايا دون العودة إلى المذكورين، أي عمليا نستطيع القول إن أردوغان ينتقل من الواقع المضطرب إلى أحلام الماضي.
روسيا تجمع بيدها معظم ملفات الشرق الأوسط، إن كانت على خلفية ضعف الإدارة الأمريكية تحت سيطرة الحزب الديمقراطي، أو بسبب عنجهية بوتين واستخدامه للقوة العسكرية الروسية، بشكل مباشر أو غير مباشر، أو المستندة على قوة الشخصية، أو ربما الاستراتيجية الأمريكية الحديثة والمعتمدة على التكنلوجيا وكسب الأرباح بصفر خسائر بشرية أمريكية. أياً كانت العوامل فروسيا الإمبراطورية التي جذبت تركيا إلى ذاتها، والتي يرى الجميع بأنها القادرة على حل قضية سوريا، وستتحمل تبعاتها، مقابل أرباح اقتصادية، بعد عودة العلاقات مع تركيا، وتنشيط قطاع سياحتها وإعادة العلاقات التي كانت قد تراجعت إلى حدود 6 مليارات من أصل 30 مليار دولار، ولكن الأهم في هذه القضية والتي يثيرها العديد من المحللين الاقتصاديين، إلى جانب عقد بناء محطة الكهرو ذرية، صفقة خطوط أنابيب الغاز إلى جنوب أوروبا عن طريق تركيا، وكان البعض من السياسيين، يرون أن أحد اهم مشاكل سوريا ناجمة من محاولة قطر الهيمنة عليها لمد خطوط أنابيب الغاز منها إلى أوروبا عن طريق سوريا، فهل تركيا غيرت مسارها أو ستغيرها بشكل تام من أجل مصالحها الاقتصادية، والحصول على الصفقة مع روسيا، وضرب العلاقة العربية الإسلامية عرض الحائط؟ وجميع المحللين الاقتصاديين يؤكدون أن مصالحها أفضل مع الحلف الأمريكي، إذا فالسبب الرئيس في القطيعة مع الحلف الأمريكي والركض إلى سان بطرسبورغ ليست سوى رد فعل على خلفية محاولة الانقلاب والخوف من خسارة السلطة، ويتوقع بعض المراقبين السياسيين جذب الاستراتيجية الروسية عدد من الدول العربية والإسلامية أيضا إلى قطبها، وهنا تغمض الأعين عن التحرك الأمريكي واستراتيجيتها الحديثة وأساليب بحثها عن مصالح إمبراطورتيها، وتبقى بدون تحليل كاف!