إبراهيم اليوسف
من أهم سمات سلوك الآدمي، الاتعاظ من الدروس اليومية التي يتعرض لها، وهي تشكل عماد تجربته الشخصية التي يستعين بها في مسيرته الحياتية، كي تكون التجربة من عداد أعظم معلميه، يستعين بها، ويجعلها جزءاً من ذاكرته، وحتى ملكاته العقلية في ما يتأسس على الدربة والخبرة. وقد تبدو المفارقة كبيرة عندما ندرك أن الكثير من الكائنات الحية راكمت خبراتها هذه. كي يدخل في إطار طبيعتها تحاشي ما يؤذيها، والإقدام على كل ما يحقق غريزة بقائها…!.
وإنه لمن دواعي الألم الكبير أن هناك من بيننا من لما يستفد ليس من دروس السنوات التي تنيف عن الخمس- فحسب- وإنما من تراكمية تجربته التاريخية، والشخصية، على ضوء ما يكاد لا ينتهي من المحن والشدائد التي تعرض لها عبر دورة الزمن، وذلك لسبب بسيط وهو الإذعان أمام ثيمتين فقط: تورم الأنا وكثافة الحقد على الآخر المختلف، من خلال روح انتقامية، ثأرية، متخلفة. لم تعد ممكنة التماشي مع اللحظة الحرجة التي آلينا إليها..!.
وبعيداً عن التجديف في ما هو تنظيري، فإنه لما تزل جراحات مجزرة قامشلو مفتوحة، من دون أن تضمد، ولما يزل كردي المكان بعيداً عن الاتعاظ من الدرس القاسي الجديد الذي تعرض له، مادام أن العقل الحزبي يضع كوابحه المبرمجة وفق تكتيكاته، البرهية، على حساب ما هو استراتيجي. وهنا، مكمن محنته التي يمكن النظر إلى كل ما يجري على أنها تفاصيل لهذا العنوان الشامل الذي آن التخلص منه، والتأسيس لمرحلة أخرى، ينفتح فيها الكردي على نفسه. على الآخر الذي هو نفسه في نهاية المطاف.
ولرب قائل يقول هنا: ألا ترى أن الهوة قد اتسعت، وأن الخرق الواقعي اتسع على الراقع التنظيري. لاسيما أن ثمة كردياً خسر دمه على يد من يفترض أنه شقيقه، لمجرد أنه لم يوافقه على سياساته، ناهيك عمن اعتقل، أو خطف، أو هجر، وأن مكانه قد أصبح طللاً من ذكرياته، وتاريخه، وجغرافياه، بسبب سياسات هذا الشقيق التي انفرد بها، وألغى حضوره مادام أنه لا يضمحل ضمن مخططه، ما جعله يعتمد ربع القوة الممكنة في حماية الأهلين، ومواجهة أشكال الإرهاب، وغير ذلك الكثير..!
ويتابع القائل نفسه حديثه: كما إن من بين الطرف الآخر من عاش أحلام السلطة الوردية، أو راح يمارس جبروته على من حوله- ولو ضمن حدود ضئيلة من قبل فئة قليلة-. وإنه ربما كان- ومن خلال أسماء محددة- يستعيد، أو سيستعيد بعض هذا العسف بحق من لا يخضع له، وهناك-وأعني قلة القلة- من استخدم المال السياسي في سبيل مشروعه الحزبي أو حتى الشخصي، لبسط هيمنته عبر خصيصتي الترغيب والترهيب، كي تطول أيادي الموالين له، على حساب غير الموالين. ما أسهم في إحداث هوة أخرى ضمن هذا البيت، وجعله هزيلاً، مشتتاً، منهكاً. ما جعل هناك نقاط تسلل كثيرة للخروقات والانشقاقات، اعتماداً على عقل أمي غير منفتح حتى على ذاته، تمثله قلة القلة هاتيك….!.
كما إن سوء تصرف هذا الطرف- في عدد من الحالات- مع الحراك الثوري، محاولاً ابتلاعه بطريقة “ناعمة” على خلاف الطرف الأول الذي حاول وأده عبر آلة العنف-وهنا أيضاً نحن أمام القلة القليلة المتحكمة بكسر الحاء- كي يكون الطرفان شريكين- بهذا الشكل أو ذاك في ما انحدرنا إليه، لاسيما إن سلسلة السياسات الإجرائية والحلمية التي بدرت منه، في أوج لحظة تهميشه، أكدت طوباويتها، وخطلها، بل إن مزاعمه- والمؤسسة على طمأنات إقليمية أو فوردوية- في زوال الحالة بسقوط آلة النظام، بدت خاطئة، لأن ما تم ويتم سيظل يؤثر في حضور كردي المكان على مسرحه إلى ما بعد مئة سنة أخرى، بل إلى ما لانهاية..!.
لقد بدد هذا الطرف المنضوين تحت لواء خطه السياسي- كأفضل خيار على ضوء ما هو موجود- وبحكم عراقته التاريخية في حمل رسالة شعبه، وذلك من خلال مزاج غير ناجع، أثبت فشله، ناهيك عن أن هناك من لايزال يرى أن الخلاف مع الطرف الآخر لا يكمن إلا في حجم حصته من السلطة التي يستشعر أن الطرف الآخر اقتنصها منه، وكان ينبغي أن يستأثر “هو” بها، من دون غيره، من دون أن يعلم أنه يجسد مشروعاً متضاداً مع مشروع الطرف الآخر، في عمقه، وأدواته، ومآلاته، وغير ذلك الكثير.
ثمة عنف من نوع آخر، واجه به هذا- الأمي- كل من يختلف معه في مجرد تفاصيل صغيرة، بل إن هناك من راح يتصرف بروح آغالركية- وهو دونها إمكانات وواقعاً- معتمداً على تزكية طرف آخر له، لم يقرأه في عمق شخصيته، وجدواه، وهو عنف وإن كان معنوياً غير إنه عزز العنف الدموي الذي واجه به الآخر كل مختلف من حوله، حتى وصلنا إلى هذا الواقع التراجيدي المرير..!.
هذا الواقع الأليم جعل المشهد الكردي نهب حالتين: حضور تاريخي كبير لطرف متماسك، بات يتداعى، وحضور طرف آخر لديه وسائل توسعه، وتماسكه، عبر ما تفعله آلة الاستبداد-عادة- لاسيما عندما تنطلق من الشعار ، الجاذب، الذي سرعان ما يتداعى إليه من هم في انتظار مكاسبهم المعنوية أو المادية الملموسة، بالإضافة إلى من هو مبدئي. أي إننا- بالرغم من إيجاد ما يمكن وسمه بالمحور الثالث وهو محور غير خالص أو نهائي بسبب تداخلاته -من خلال وجهة نظري- لأنه مؤسس، في لحظته الانفعالية، كمتضرر من هذا الواقع الأليم، أو غير منسجم حتى مع نفسه، إلا إننا أمام مشروعين، متناقضين من حيث بنيتيهما. في ما يخص واقع الكردي، ومصيره، ولهذا فإن أية وحدة حال كردية في هذا المكان لابد لها من أن تنطلق من إمحاء حدود التباين، والانطلاق من رؤى محددة، يتم افتقادها، لأنها باتت تتعدد نتيجة تعدد أشكال التعبير عنها، وهنا مكمن ضعف شديد، بالنسبة إلى الكردي لابد من تجاوزه، هذا التجاوز الذي لن يتحقق إلا بعد تحييد كل من هو خارجي، دخيل على شخصيته، ولو في بعديها المتناقضين، لأن هذا التناقض غريب عن أخلاقياته، وكان من الممكن أن يتجاوزها بسهولة، لولا تعمق أدوات تشطيره الرؤيوي، بهذا الشكل الأليم الذي يكاد ينحدر إلى حده التناحر والتلاغي ..!.
لقد سعيت جاهداً، لأن أشخص المشهد بما هو مهم من خلال وجهة نظري، من الخطوط والعلامات الفارقة، في إطار تأكيدي أن لا خلاص للكردي في العيش فوق ترابه ب”سلام”- وإن بجزء ضئيل متبق منه نأمل التعاون الجماعي من أجل حضور أكثر بعد أن غدا في اغتراباته وغربته فريسة للأجندات الإقليمية والدولية- إلا عبر استعادة تماسكه، وتواشجه، وتوادده، ونبذه لما يحول دون تواصله مع ذاته. حيث لا حل للكردي إلا من خلال مراجعة الذات- كل من جهته وبحسب حجم خطئه أو خطله- لاسيما بعد تعميق هوة الخلاف بينه وبعض شركاء المكان، لا هؤلاء الذين حاولوا افتراسه بسبب عقد شوفينية، أو إسلاموية، منذ محاولات غزو “سري كانيي” إلى الآن، عبر مختلف الأدوات: المأجورين من فصائل الجيش الحر “و لا أعني الجيش الذي أسسه الضابط حسين هرموش فك الله أسره”، أو عبر النصرة/القاعدية، أو داعش الما بعد/قاعدي والما فوق إرهابي..!.
إن ساحة الشارع العام -شارع – طريق عامودا- الذي سالت عليه دماء شهيد يوم 2/11/2007 وهو عيسى خليل ملا حسن-ابن حي الهلالية والأسرة الفقيرين- والمحمدين الثلاثة ومن معهم من جرحانا عشية نوروز 2008، وهو-أي الشارع العام- للمصادفة أو غيرها ساحة مسيل الدم الكردي باليد الكردية، في نقطة التقائها ب”شارع الحرية” كما هي ساحة مجزرة داعش بحق الكردي جديرة بأن يتم تضميد جراحاتها، عبر نصب خيمة كردية/ كردية، لا أراها فكرة طوباوية، لاسيما بعد تشخيص تفاصيل الخطيئة- بشطريها المعنوي ولو الخفيف والمادي لدى كل طرف من الطرفين- أي عبر التنازل عن الاستشراطات الطارئة الدخيلة التي أصابت بنية تفكير ما هو راهني. هذا إن لم تكن الدعوة إلى-الوحدة- مجرد شعار، يفسرها هذا الطرف أو ذاك كدعوة إلى-الوحدة- أي “الواحدية” وهي-هنا- واحديته “هو” التي لا يمكن لها أن تتحقق، بالرغم من وجود خط- في تصوري- نابع من صميم حضور الكردي، وتاريخه، و جغرافياه. إنه الخط التقليدي الذي كان- قلعة الدفاع تاريخياً- عن ابن المكان، بالرغم مما آل إليه من ترهل، وتداع، وإنهاك، إلا إنه من خلال الكثير من أبنائه-لاسيما في الداخل- لما يزل يحافظ على ديمومته، بعيداً عن أي مشروع مغامر…!.