جان كورد
” إن بلداً يجد نفسه ديموقراطياً ويريد أن يصبح عضواً في الاتحاد الأوربي، لا يسجن الصحافيين الناقدين، لا يقيل الآلاف من القضاة بسهولة من مناصبهم، ولا يتحاور بصدد إعادة تنفيذ حكم الإعدام.”
هذا ما قاله الرئيس الألماني يواخيم غاوك الضنين على الإعلام بالكلام، في مقابلةٍ له يوم (20 تموز 2016) مع جريدة (بيلد – الصورة – Bild) الفائقة الانتشار في ألمانيا (الصفحتان 2 و 3)، أي بعد أقل من أسبوع من حدوث الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، ويبدو من كلامه هذا أنه وسواه من رؤساء وملوك ورؤساء وزراء دول الاتحاد الأوربي لن يدعموا السيد اردوغان في عملية التطهير الواسعة التي يستمر فيها، ويعتبرها خدمةً للديموقراطية كما قال في خطابه يوم 29/7/2016 أثناء حفل تكريم للشهداء والجرحى، في قاعة مؤتمرات الشعب ضمن المجمع الرئاسي بأنقره. وقد أكّد الرئيس الألماني على أن “الأوربيين لا يفصلون بين الديموقراطية وحكم دولة القانون، وأن ليس ثمة مجال لديهم لأسلوب حكم شمولي.”
كما نشر رؤساء أربعة روابط واتحادات للقضاة والأكاديميين والمحامين والإعلاميين يوم 30/7/2016 في جريدة (دي فيلت – العالم – Die Welt) على الصفحة (2) تحت عنوان (حيث يتم اضطهاد الحرية تموت الديموقراطية) بياناً مشتركاً ومطولاً، جاء فيه: “الديموقراطية تعيش حيث تكون المؤسسات المجتمعية والحكومية مستقلة عن بعضها. الديموقراطية الحية ترفض التدخل العشوائي للسلطة التنفيذية، وما يمكن مراقبته الآن في تركيا لا يقلق فحسب وإنما يسبب الألم.”
كان خطاب السيد أردوغان أمام الآلاف من المواطنين في 29/ 7 مشحوناً بالعواطف والحماسة القومية، واستشهد عدة مرات بالأشعار الوطنية والدينية، إلا أنه لم يتطرّق إلى المشاكل الأهم التي تعترض سبيل البلاد، داخلياً وخارجياً، وإنما شدد على أهمية معاني الشهادة ومكانة الشهيد عند الله وعند الشعب، وضرب على وتر الوحدة القومية التركية وعظمة الترك وتلاحم القوى السياسية التركية، وصب جام غضبه على الدول الأوربية وعلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتفادى أي تنويه إلى وقوف الشعب الكوردي مثل التركي إلى جانب الشرعية والديموقراطية ضد أنصار “الضربة” العسكرية ومن وراءها من قوى معادية أرادت القضاء على أردوغان وحكمه كلياً، بل وتصفيته جسدياً أيضاً. وعندما ذكر الأحزاب التركية التي اجتمعت في البرلمان لتعلن ولاءها للسلطة الشرعية المنتخبة استثنى ذكر حزب الشعوب الديموقراطية (أي حزب الكورد الناجح بأقلية هامة في البرلمان)، وقد وقف هذا الحزب مع الديموقراطية ضد الانقلابيين، إلا أن هذا لم يكن له شأن في خطاب الرئيس المفترض فيه أن يكون واسع الصدر ورئيس الأغلبية والأقلية في الوقت ذاته.
ورغم الهجوم الكاسح للسيد الرئيس على “الإرهابيين” عموماً واتهامه للدول الديموقراطية في أوروبا وامريكا التي تتحالف تركيا معها ضمن (حلف النيتو) بأنها لم تهب لنصرته وتهنئته ورؤية إصابات البرلمان التركي بقذائف الانقلابيين، فإن أردوغان يعلم جيداً أنه بحاجة ماسة إلى دول أوروبا وأمريكا، مثلما هي بحاجة إلى تركيا، إلا أنه يحاول التملص من قول الحقيقة بهذا الصدد، ويتناسى نقد الأوربيين والأمريكان، وبخاصة الموقف الموحد للاتحاد الأوربي حيال اعتقال الصحافيين واغلاق المراكز الإعلامية والقضاة والأكاديميين ومنع بعضهم عن السفر إلى خارج البلاد والدعوة الصريحة التي يطلقها لإعادة تطبيق حكم الإعدام في تركيا.
ولكن هذا لا يعني أن أهمية تركيا بالنسبة للاتحاد الأوربي وأمريكا قد انتهت، فالأوربيون في الماضي كانوا بحاجة إليها بسبب وفرة الأيدي العاملة التركية الرخيصة، وخاصة بعد أن قضت الحرب العالمية الثانية على الملايين من شباب أوروبا، كما أن الجيش التركي قد ازداد حجمه إلى أن أصبح ثاني أكبر جيش في حلف النيتو، بعد الجيش الأمريكي، وشكلت تركيا درعاً متيناً في وجه الاتحاد السوفييتي وسد الطريق أمامه للتوغل براً صوب المياه الدافئة والمشرق العربي. واليوم لاتزال أوروبا بحاجة ماسة لتركيا من أجل وقف زحف اللاجئين من بلدان العالم الثالث الذين يتخذون من مطاراتها محطة أساسية للاقتراب من حدود الاتحاد الأوربي، بعد أن زادت إيطاليا من حراستها لسواحلها الجنوبية، ومن أجل السياحة التي يستفيد منها الطرفان، الأوربي والتركي في الوقت ذاته، كما أن الولايات المتحدة بحاجة إلى المطارات التركية العسكرية وقوات حراس حدودها في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا) في كل من سوريا والعراق. فإن لتركيا أهمية استراتيجية كلاسيكية في حلف النيتو، وبإمكانها قلب موازين القوى، إن تحالفت مع روسيا وإيران بالخروج من الحلف.
إلا أن ما يثير السخرية، هو أن أوروبا قد أظهرت عدم ليونتها المعتادة حيال ما يقوم به السيد أردوغان الآن ضد الإنقلابيين وتنظيم السيد فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة والمطلوب من قبل الحكومة التركية رسميا كقائد عام لجنرالات الانقلاب الفاشل، في حين أن حلف النيتو الذي يجد نفسه رابطة ذات مثل وقيم إنسانية عظيمة (الديموقراطية، حقوق الإنسان، الحرية) لم يسكت طوال عهد الأحزاب الكلاسيكية التركية وعهود الانقلابات العسكرية، قبل وصول حزب العدالة والتنمية لأردوغان إلى السلطة، عما كان يعانيه الشعب الكوردي في تركيا من اضطهاد ومن إرهاب دولة ومن اقصاء شامل في شتى مجالات الحياة السياسية والثقافية والإعلامية فحسب، بل كان يدعم العسكريتاريا والطورانية التركية بكل أشكال الدعم السياسي والعسكري والمالي والاستخباراتي، وكان يغض الطرف عما يفعله الطورانيون العنصريون بهذا الشعب الذي لا يريد سوى التمتع بحقه في تقرير مصيره بنفسه، وهو حق مشروع دولياً.
لا أعتقد أن أمريكا ستقوم بأي إجراء ضد تركيا في حال عودة نظامها السياسي إلى تنفيذ حكم الإعدام، فأمريكا ذاتها تنفذ حكم الإعدام بالمجرمين والإرهابيين، إلا أن المشكلة الكبرى ستكون بين تركيا والاتحاد الأوروبي الذي سيغلق باب الحوار مع تركيا بصدد قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي، إلا أن المخاوف في أوروبا كبيرة من أن تتحالف تركيا مع روسيا وإيران (وهذا يعني مع العراق وسوريا أيضاً)، وأن تهمل تركيا حماية شواطئها من تسلل اللاجئين وحدودها من اختراقات الإرهابيين أو أن تدعم فصائل إسلامية سورية وعراقية لا تختلف كثيراً عن (داعش) و(جبهة فتح الشام)، وهذا سيحول المسافة بين أوروبا وتركيا إلى حقل متوتر للغاية، إلا أن العلاقات لن تنهار بينهما لأسباب استراتيجية واقتصادية وتشابك عجيب في المصالح المشتركة. ولن يبقى أمام الأمريكان والأوربيين سوى القيام بدعم الكورد عسكريا وأمنيا وماليا وسياسيا واعلاميا لخلق توازن ما في المنطقة ولإرغام تركيا على التراجع عن كثير من مواقفها المتصلبة اليوم.
وفي المقابل، فإن تركيا التي تخاف جداً من نشوء هكذا تحالف بين الكورد والغرب عموماً، فإنها ستقوم بالتهديد لهم والسعي لعرقلة مساعيهم من أجل الحرية والاستقلال، وستستمر في ضربهم بعضهم ببعض، وكما تقول العامة (ومن تحت لتحت) ستعمل على فتح بابٍ للحوار معهم، ليس بهدف التصالح والتوافق وإعطاء الحقوق لهم، وإنما للتضليل والتشويه وعرقلة أي تحالف كوردي جاد ومتين مع العالم الخارجي.
ولهذه النقطة يجب أن ينتبه زعماء الكورد، إن كانوا فعلاً يريدون تحقيق شيء لأمتهم المضطهدة المجزأة.
03 آب، 2016
kurdaxi@live.com http:/cankurd.wordpress.com facebook: Cankurd1