صالح بوزان
لن أدخل هنا في نقاش فكري واسع حول المعتقد الإسلامي بحد ذاته. فرغم تقديري لكل المعتقدات الدينية والنأي عن الإساءة إليها، إلا أن جميع الديانات مجرد فكر بشري منذ عهد تعدد الآلهة في زمن السومريين والإغريق والفراعنة(وما قبلهم). وتطورت فكرة الإله عند البشر مع تطورهم الفكري والاجتماعي. هذا الفكر الديني ولد ابن زمنه وبيئته، وخرج من تراث شعب هذه البيئة أو تلك.* كان من المستحيل أن تظهر فكرة الإله الأوحد في ذلك الزمن السحيق. ليس لأن الإله الأوحد لم يرسل أنبياءه إلى البشر عندئذ، بل لأن الآلهة جميعها كانت على الأرض ولم تصعد بعد إلى السماء لتنصهر في إله واحد. ونتيجة للارتباط الجدلي لهذه الديانات بالسياسة والنفوذ عبر التاريخ انقرض الكثير منها، وتغيرت ما بقيت مع الزمن، بل انقسمت إلى مذاهب وطوائف على أرضية صراع المصالح.** لأن النص الديني كان عاجزاً عن مواكبة سيلان الزمن والتنوع الذي لم يستطع أي تفكير ديني من خنقه في إطار الوحدانية.
لم ينتشر أي دين في العالم بالتبشير والإقناع ، بل انتشر أغلبها، إذا لم نقل جميعها، بالسياسة وبالسيف والاحتلال. كان لتكتيك العقل البشري له الدور الأساس في هذا الانتشار. فمن كان يتخذ على عاتقه نشر دين ما كان قائداً عسكرياً وسياسياً بارزاً. وليس غريباً أن نجد أغلب الجرائم والمجازر والإبادات الكبرى في تاريخ البشرية من صنع الديانات.
الديانة الإسلامية لها خصوصية تختلف نسبياً عن جميع الديانات الأخرى. فهي قد جعلت من محمد خاتم الأنبياء. وبالتالي قطعت العلاقة بين البشر والإله خارج الدين الإسلامي. أقصد أن الإسلام قطع العلاقة المستقبلية بين الله والبشر. فالله لن يقبل من البشر أي شكوى أو دعاء ليس من خلال خاتمة الأديان. وكأننا هنا أمام مرحلة من التاريخ انتهت فيها وظيفة الله تجاه البشر. فكل ما استطاع الله أن يقدمه للبشر اختزله في القرآن ووكل نبيه محمد بشؤونه وشؤون البشر، وذهب ليستريح إلى يوم القيامة. في العقيدة الإسلامية لا أهمية لشيء قبل محمد (أساطير الأولين) ولا شيء ممكن أن يأتي مخالفاً لمحمد. فهو المطلق كإلهه. وبالتالي فأي تطور فكري واجتماعي واقتصادي خارج النص هو مخالف للإسلام ويجب تكفيره وقطع سلسلته.
دعا محمد لتأسيس “أمة الإسلام”. ومن أصبح في ظل هذه الأمة عليه أن يجبّ ما قبل إسلامه في شخصيته وتفكيره وانتمائه لخصوصيته فرداً كان أو شعباً أو أمة. وبالتالي عليه أن ينصهر في الإسلام سواء بالقوة أو برضاه. من هنا بدأت مصيبة الكردي كفرد وكشعب وكأمة مع الإسلام.
* * *
منذ دخول الكرد في الإسلام عنوة، بدأ مسار المجتمع الكردي يأخذ منحاً آخر. منحاً يعرقل شروط النمو الطبيعي للأمة واستكمال تكوين عناصرها. فالسلطة الإسلامية المحتلة أدخلت عوامل خارجية إلى بنية هذا المجتمع تتعارض مع سيرورة تطوره الطبيعي. وأصبح هذا العامل الخارجي أكثر فاعلية من العوامل الداخلية مجتمعة. لقد انقطع مسار الأمة الكردية هنا وانحرف عن مساره.
السلطات الإسلامية منذ الخلفاء الراشدين اعتبرت كل المناطق المحتلة نتيجة الغزو هي ملكية لها أرضاً وسكاناً. وبالتالي فرض العرب المسلمون قوانينهم القبلية والدينية على كل الشعوب التي أجبروها في الدخول إلى الإسلام. ولا سيما تلك الشعوب التي كانت أكثر تقدماً من العرب مثل سكان الامبراطوريتين الفارسية والرومانية. هناك خاصية للغزو العربي الإسلامي. وهي أن العرب لم يبدؤوا ببناء إمبراطوريتهم الإسلامية من حيث انتهت الإمبراطورية الرومانية والفارسية. حدث هذا في جغرافية ما سميت لاحقاً ببلاد الشام وجغرافية الإمبراطورية الساسانية في بلاد فارس، وجاؤوا بتفكيرهم البدوي والقبلي من الجزيرة العربية ليهدموا هاتين الحضارتين ويبدؤوا من الصفر.
قامت الخلافة الأموية في بلد كان له تاريخ عريق في الحضارة البشرية. كانت الشعوب الساكنة في بلاد الشام، ولا سيما الشعب الآرامي الذي كانت له حضارته وتراثه الثقافي والعمراني. هذه الحضارة التي تركت بصماتها على كل شعوب المنطقة. زد على ذلك كانت هذه الشعوب متلاصقة بالثقافة والحضارة الرومانية العريقة. تأثر سكان بلاد الشام وآسيا الصغرى بهذه الحضارة عبر التاريخ. وتعلمت لغة الرومان وثقافتهم وآدابهم، ولعل الآثار الرومانية ولا سيما المسارح الحجرية خير دليل على ذلك. كانت لغة الإدارة في دمشق اللاتينية. وكانت لدى النخب المتعلمة والتجار علاقات مباشرة مع عاصمة الإمبراطورية مدينة روما التي كانت أشهر مركز حضاري في العالم حينها.
أقامت الخلافة الأموية دولة بدوية مبنية على سلوك وأخلاق وتراث وقوانين الجزيرة العربية بكل همجيتها الصحراوية وصراعاتها القبلية التي لم ينهيها الإسلام. بل اتخذت هذه المرة طابع الصراع الإسلامي- الإسلامي الداخلي. حدث الشيء نفسه على جغرافية الإمبراطورية الفارسية. كانت شعوب هذه الإمبراطورية المنهارة شعوباً متحضرة. فقد كانت شعوباً مدينية وزراعية، وعمرانية. وفجأة أصبحت تحت حكم محتل أجنبي بدوي. بدوي في تفكيره وسلوكه وأخلاقه وتعامله مع الآخرين. وفوق ذلك كله جعل هذا البدوي من نفسه النموذج الذي يجب أن تقتدي به الشعوب المستعمَرة.(ممكن العودة إلى كتاب أحمد أمين، فجر الإسلام، القاهرة، 1987. وخاصة ما يتعلق بالفرق الحضاري بين العرب الغزاة وشعوب بلاد فارس).
كان الكرد في ظل الإمبراطورية الساسانية أكثر تقدماً من العرب. كانت لديهم مدن عامرة مثل أية مدينة فارسية. كانوا يعملون في الزراعة والحرف إلى جانب قبائلهم الرعوية الجبلية. والأهم من ذلك، كانت لديهم الديانة الزردشتية التي ولدت في بيئة اجتماعية وجغرافية تختلف كلياً عن بيئة الإسلام البدوية الصحراوية القاحلة.
سبق القول أن الغزاة العرب المسلمون أينما حلوا واحتلوا اعتبروا الأرض وما عليها من البشر والحيوانات مغنماً لهم. هذه كانت ثقافتهم البدوية، وتعززت من خلال تشريع دينهم الجديد الذي أعطى تبريراً إلهياً لكل ما يفعلون. بعد السلب والنهب وأخذ النساء سبايا ومحظيات، وبعد أن أجبروا الكرد على الإسلام، واستقر لهم الأمر، بدؤوا بترسيخ إستراتيجيتهم البدوية والدينية على الكرد. جوهر هذه الإستراتيجية هو أن كل من أسلم فرداً أو شعباً لم يعد ينتمي لخصوصيته، بل ينتمي فقط للإسلام العربي حصراً.
لم تنظر السلطة العربية الإسلامية إلى الكرد كشعب. لأن الإسلام هو الأمة. ولا توجد أمم أخرى في ظل الإسلام. ربما هنا انتصر الطابع البدوي على النص القرآني (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا…). الأهم من ذلك، أن العرب جعلوا الإسلام وسيلة لصهر الكرد(وغير الكرد) في مدار قوميتهم الحاكمة، وتوظيفهم كقوة إضافية في غزواتهم الجديدة وصراعاتهم البينية. وهذا ما اعتبره القوميون العرب المعاصرون بالصهر “الطبيعي” ويؤيدهم في ذلك المسلمون العرب المعاصرون.
صحيح أن المختصون في التاريخ الكردي يؤكدون أن الكرد لم يهدؤوا يوماً ضد الاحتلال الأجنبي الإسلامي بعد أن صاروا مسلمين. ويستشهدون بالوقائع أن تاريخهم مليء بالثورات والانتفاضات التي انتهت كلها بأنهار من الدماء.(خلال الخلافة الراشدية والأموية فقط قام الأكراد بـ14 ثورة وانتفاضة ضد العرب المسلمين). لكن استيطان الإسلام، كعقيدة في ذهنية الكردي كان أكبر كارثة للمجتمع الكردي لم ينتبه لها العلماء والمفكرون الكرد عبر التاريخ الإسلامي، وسيما المثقفون الكرد في العصر الراهن.
لم يعترف الإسلام بالديانة الزردشتية. وحاربها بقسوة. وإذا كان الغزاة المسلمون العرب في احتلالهم اهتموا بالمال والممتلكات والنساء والغلمان، فإنهم لم يكونوا بحاجة لبقاء الديانة الزردشتية وثقافتها. بل اعتبروا بقاءها تهديداً لوجودهم ولدينهم، وقوة كامنة في النفوس ستحرّض الكرد والفرس ضدهم في المستقبل. يكشف لنا التاريخ كيف دمر هؤلاء الغزاة كل المعابد الزردشتية، وجعلوها أثراً بعد عين. وباجتثاث الإسلام للزردشتية من المجتمع الكردي أرادوا اجتثاث أهم عنصر من عناصر هوية المجتمع الكردي الذي كانت الزردشية تكوينه الروحي والثقافي. أدرك الكردي أنه ليس كفرد وكأمة أصبح مهزوماً، بل أن إلههم “أهورامزدا” أيضاً انهزم. فهو الآخر قُتل مع مقاتليهم في ساحة المعركة ولم يعد موجوداً. نعلم أن الديانة كانت العنصر الأساسي في تكوين ذهنية وثقافة الشعوب في العصور القديمة، بغض النظر عن طابعها الأسطوري. كانت كل قبيلة وكل دولة مدينية لها إلهها الذي يحميها. وكانت الحروب التي تجري بين القبائل ودول المدن هي حروب لها أسبابها الاقتصادية في المقام الأول، لكنها كانت تتخذ ستاراً دينياً غالباً. كان المهاجمون أول ما يقومون به بعد الانتصار هو تحطيم تمثال أو رمز إله من يغزونهم. وبهذا العمل يقضون على العامل النفسي الذي يوحدهم وعلى القوة الروحية لمقاومتهم. فماذا تستطيع أن تفعل هذه القبيلة أو الدولة المدينية ما دام إلهها قد استسلم للعدو ولم يستطع حمايتها.
علينا تصور سيكولوجية الكردي بعد أن دخل الإسلام. أهم مسألة على هذا الصعيد أنه أصبح متحداً مع الأجنبي أكثر من اتحاده مع بني جلدته. لأن عقيدة الإسلام تعتبر من يؤمن بها مسؤولاً أمام الله وأمام أولي الأمر كفرد. وبالتالي لا يمكن أن يحتمي بالعائلة أو القبيلة أو الأمة. الآية السابقة التي تقول لقد خلقناكم شعوباً وقبائل، هي تتحدث بالأساس عن تاريخ الخلق، ولا تسن قانوناً على المسلمين للالتزام به (في كل الأحوال لم يلتزم العرب بهذه الآية منذ البداية). لم يعترف المسلمون العرب بأي شعب ولم يسمح أن يبقى كياناً قائماً بذاته. كان الخليفة الراشدي والأموي والعباسي يعين أحداً من حاشية محمد أو حاشيته (المهم من زعماء قبائل المكة والمدينة) أمراء على تلك البلدان والأقوام التي ضموها تحت سلطتهم. وهذا يكشف عن طبيعتهم كمحتلين وليسوا كمبشرين بديانة جديدة جاءت “رحمة للعالمين”. (ممكن العودة إلى كتاب السيد القمني، حروب دولة الرسول).
القضاء على الديانة الزردشتية كان بمثابة قطع رأس الكردي ووضع رأس آخر على جسده، أو غسل دماغه كما نقول في زمننا المعاصر. وبالتالي أصبح الكردي غير الكردي. هو لا يملك سوى عقل الآخر وتفكير الآخر ويعمل لصالح الآخر. بالتالي كان مفروضاً عليه، حسب المعتقد الجديد، أن يتخلى ذاتياً (وبحماس)عن ثقافته وتقاليده وتراثه ليثبت ولاءه لديانة الأجنبي وثقافته (وكان رجال الدين الكرد النموذج الأبرز). جرى تبديل إله الكردي الزراعي والرعوي ورموز ديانته المتجسدة بتماثيل جدارية عظيمة، هذا الدين الذي يحث على التفكير الخيّر والعمل الخيًر والقول الخيًر بإله تجاري غاز يحض على النهب والسلب والقتل، كما هو وارد في النص القرآني. إنه إله يتحصّن في الغيب، وقاس يستحوذ على كل صفات قسوة البادية من قوة وجبروت وقهر وحسد وغيرة، ومكر. حتى العقوبة في الآخرة تتخذ الطابع البدوية الصحراوي التي ترهب كلماتها المستمع قبل أن يتعرض لها. وهكذا أصبح الكردي محتلاً على الأرض ومن السماء. (بما يتعلق بخصوصية الديانة الزردشتية ممكن العودة إلى كتاب هيغل”العالم الشرقي”).
عندما ينتقل فرد أو شعب ما إلى ديانة غير ديانة أسلافه يشعر وكأن كل تاريخه السابق كان وهماً. لأن الديانة الجديدة هكذا تقول. ولا يمكن أن تنتصر أية ديانة على ديانة أخرى إذا لم تقم باجتثاث هذا التراث القديم وتسفيهه. في هذه الحالة يتكون لدى هذا الفرد أو الشعب الذي غير دينه، إحساس لا إرادي أنه الأدنى مقارنة بمن أجبره أو أقنعه بدينه. لا تخفّ أو تزول هذه الدونية إلا في حال أسس هذا الشعب دولته الخاصة على الديانة الجديدة. فكل الشعوب التي دخلت الإسلام سلماً أو عنوة، واستطاعت أن تشكل دولتها على أساس الإسلام فيما بعد حافظت على تكوينها القومي ما عدى الشعب الكردي الذي لم يستطع تكوين دولته على هذا الدين. ومع ذلك وجدنا في التاريخ أن هذه الشعوب تجاهلت ثقافتها التاريخية القديمة. الشعوب الأوروبية همشت الثقافة الاغريقية واليونانية القديمة ومسحت من ذاكرتها سقراط وأفلاطون وأرسطو بعد أن أصبحت مسيحية. وتعرفت على هؤلاء العمالقة من جديد خلال النهضة الفكرية الأوروبية في عهد التنوير. المؤرخون الإسلاميون العرب مازالوا حتى الآن يسفهون تاريخ العرب ما قبل الإسلام ويصفونه بالجاهلية. كما أن المؤرخون الفرس الخمينيون يتجنبون التعرض لتاريخ أمتهم قبل الإسلام.(ممكن العودة إلى رواية آذر نفيسي”أن تقرأ لوليتا في طهران”. بغداد – بيروت 2009).
هذا ما فعل الإسلام بالكردي. لقد قطعه مع جذوره التاريخية وشتته فكرياً ونفسياً. وبالتالي جعله أكثر تبعيةً للمحتل العربي الإسلامي وفيما بعد للفارسي الإسلامي والتركي الإسلامي عبر التاريخ وإلى يومنا هذا. ولهذا بقي الكرد طيلة هذا التاريخ مجرد قوة قتالية، من حيث العدد والشجاعة، بيد غيرهم ولأهداف غيرهم ولمصالح غيرهم.
العباسيون استخدموا الكرد لإقامة خلافتهم في بغداد وتوسعهم. الصفويون استخدموهم في إقامة دولتهم وفي صراعاتهم الإقليمية ولا سيما ضد العثمانيين. العثمايون كانوا أكثر نجاحاً في استخدام الكرد ضد الصفويين وفي غزواتهم جنوباً وغرباً وشمالاً. السر وراء كل هذ هو أن العقيدة الإسلامية جعلت جوهر الإيمان عند الكردي ذهنياً وعملياً الولاء لأولي الأمر والتماهي معه. كان ملفتاً للانتباه أن هؤلاء، أولي الأمر، تعاملوا مع أي توجه كردي ذاتي بقساوة ووحشية. لأنهم اعتبروا هكذا توجه هو خروج عن الجماعة وعن “الأمة الإسلامية”؛ عن الأمة الإسلامية العربية والأمة الإسلامية الفارسية والأمة الإسلامية العثمانية. لأنهم هكذا تعودوا أن يكون الكردي قوة لأهدافهم ومصالحهم وليس لذاته.
حين ننظر اليوم إلى المجتمعات الكردية في أجزاء كردستان الأربعة، نجد أن الإسلام هو المعرقل الأساسي في بناء الشخصية المستقلة للأمة الكردية المعاصرة. في تركيا الكردي هو مسلم تركي، وفي إيران هو مسلم فارسي، وفي العراق وسوريا هو مسلم عربي (بالمناسبة لا يوجد كردي يقرأ القرآن بلغته الأم مثل التركي والفارسي والاندونيسي إلا ما ندر). بل ممكن القول أن الإسلام كان ومازال هو الأداة الأكثر تأثيراً في إخضاع الكردي لهذه القوميات نفسياً.
في اليقظة الكردية المعاصرة يشعر الكردي بمرارة شديدة أن رجال الدين الكرد لعبوا دور الوكيل الأمين لترسيخ ثقافة المحتل الأجنبي الإسلامية في الذاكرة العامة للشعب الكردي؛ ثقافة المحتل العربي والمحتل التركي والمحتل الفارسي، سواء عن وعي أو بدون وعي. بل لعب رجال الدين الكرد دوراً كارثياً على هذا الصعيد. العديد من كبار علماء الدين في هذه البلدان كانوا ومازالوا من الكرد. وكان دورهم الأساسي في المجتمع هو جعل إسلام السلطة الأجنبية ركناً أساسياً في ذاكرة الكردي وثقافته اليومية. هم منصهرون في إسلام الدولة ويسعون، بكل حماس، أن يجعلوا من أنفسهم قدوة لكل كردي مسلم. لقد كانت أكبر كذبة يقولها المحتل للكردي، ويكررها رجال الدين الكرد “نحن إخوة في الإسلام”. لم يستيقظ الكردي حتى اليوم ليرد على هذا القول بقول آخر أكثر دقة “لا..أنا مجرد عبد لك في الإسلام”.
لو رجعنا إلى سيرة أغلب رجال الدين الكرد تاريخياً وحتى اليوم، نجد أن 90% منهم كتبوا بلغة إسلام السلطة العربية والفارسية والتركية، ولعبوا دوراً أساسياً في صهر الكردي في قومية إسلام السلطة ذهنياً. ممكن أن نذكر هنا على سبيل المثال بعض مشاهير هؤلاء الرجال الدين مثل ابن الأثير والشهرزوري والسهروردي وابن خلكان والدينوري وابن تيمية(منظر الإرهاب الإسلامي) والقائمة طويلة. الطامة الكبرى ظهرت في عصرنا الراهن. فعلى صعيد سوريا، على سبيل المثال، نجد قائمة طويلة من علماء الدين الكرد قاموا بهذه المهمة عن جدارة. مثل محمد كرد علي والشيخ كفتارو ومروان شيخو والبوطي والدكتور محمد حبش وغيرهم. هؤلاء هم الذين أسسوا ذهنية الاغتراب القومي الحديث عند الكردي السوري. ذهنية تبديل الذات بالآخر. كان محمد كرد علي يدعو جهاراً السلطات في سوريا إلى صهر الكرد في بوتقة العروبة، لأنه كان يجد الإسلام والعروبة شيء واحد. وضع البوطي هويته القومية تحت حذائه مناصرة للنظام السوري.
لننظر إلى سيرة شخصية كردية تاريخية مثل صلاح الدين الأيوبي، مؤسس دولة امتدت من تركيا الحالية إلى اليمن ومصر والسودان. لا توجد في سيرته أية دلالة كردية. لقد كان منصهراً ذهنياً ونفسياً في الإسلام كخادم أمين لديانة تعود ملكيتها للآخر.
الدولة الراشدية والأموية والعباسية كانت عربية إسلامية. والدولة الصفوية كانت فارسية إسلامية. والدولة العثمانية كانت تركية إسلامية. والسؤال الذي يحيّر الكردي المعاصر ماذا كانت هوية الدولة الأيوبية؟ لقد كانت إسلامية فقط. لأن صلاح الدين الأيوبي المستلب ذهنياً من قبل المحتل التاريخي العربي وغير العربي لم يتجرأ التمرد على هذه الذهنية المستلبة بالرغم من أنه على رأس إمبراطورية شكلها بحنكته السياسية وشجاعته النادرة. هل كان صلاح الدين الأيوبي لا يعرف أنه كردي مسلم وليس مسلم كردي؟ وبالتالي كان عليه أن يعطي الطابع الكردي لدولته الإسلامية. هل كان يكره لغته الكردية وهو يتكلم بها مع أولاده وإخوته ويتحدث مع قادته من خلال مترجم حسب بعض الادعاءات الكردية؟ لماذا لم يفكر أن يجعل من لغته لغة دولته مثلما فعل الفرس والعثمانيون؟.
لو نظرنا إلى سيرة رجل سوريا الأول يوسف العظمة. بالرغم من أنه لم يكن رجل دين، لكنه كان متديناً ومتمسكاً بإسلامه، مؤدياً لصلاته، وصائماً أيام الصوم، ومحافظاً على شعائر الإسلام.(كان يتكلم الكردية والعربية والتركية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإنكليزية حسب بعض المراجع). هذا الكردي لم يخرج من ذاكرة الاغتراب الإسلامي المستوطنة في عقله. لقد جعله الإسلام خادماً أميناً في الجيش العثماني وقاتل في حروب السلطان. وعندما انفصلت سوريا عن الدولة العثمانية غير اتجاه خدمته ليقاتل ضد الفرنسيين ببطولة نادرة حتى استشهد، بينما هرب مليكه المسلم العربي السني إلى العراق لينصّبه الانكليز ملكاً على الأغلبية الشيعية.
كان إبراهيم هنانو أحد أهم زعماء الثورة السورية ضد الفرنسيين. هو الآخر من عائلة كردية عريقة. كان مثل يوسف العظمة خادماً أميناً للباب العالي قبل انفصال سوريا عن العثمانيين. في سيرته الذاتية لا نجد أنه يفرق بين الإسلام والعروبة . فيقول أنا مسلم، ويقول أنا عربي. لكن لا توجد معلومات تاريخية تشير إلى أنه في محفل ما أو اجتماع ما قال أنا كردي أو تحدث عن أبسط حقوق الكرد في الدولة السورية الحديثة. ومثله محمد العابد رئيس سوريا الأول وغيرهم.
هناك سبب واحد لكل هذه النماذج الكردية عبر التاريخ وإلى اليوم. وهو أن الإسلام استلبهم من الداخل وقضى على ذهنيتهم وخصوصيتهم الكردية. هم جنود الإسلام فكرياً وروحياً. وبالتالي هم جنود المالك الحقيقي للإسلام، الذي هو بالتأكيد غير الكردي. ولهذا نجد الإخوان المسلمون السوريون يمجدون إسلام الكردي.
المجتمعات الكردية اليوم مازالت تعاني من هذا التراث رغم النهضة القومية والثورات التي قام بها الكرد من أجل حقوقهم في العصر الحديث وغزارة الدماء التي سكبوها في طريق حريتهم. الثغرة الكبيرة في كل هذه النهضة أنها لم تبدأ بالمهمة الجوهرية، وهي تحرير عقل الكردي من إسلام المحتل كعقيدة وكتراث يعود ملكيته للآخر. مازال هذا التراث هو المعرقل الأساسي أمام ترسيخ وتعزيز الهوية القومية. الكردي اليوم، هو أكثر من السابق محتلاً من الداخل ومغترباً عن هويته. أغلب الكرد العلويين في تركيا يستخدمون مصطلح الشعب العلوي، ولا يقولون نحن كرد من الطائفة العلوية. أغلب الكرد الإيزيدون يستخدمون مصطلح الشعب اليزيدي كرد فعل ضد كل المسلمين، بما فيهم المسلمين الكرد، لما عانوا من جرائم إبادة ضدهم باسم الإسلام. الكرد الشيعة يدورون في فلك المراجع الشيعية في إيران والعراق. والكرد السنة أكثر تبعية للمراكز السنية العربية والتركية. ففي تركيا تجد الكردي السني يقف ذليلاً أمام التركي السني.
لندقق أكثر في الكارثة الكردية الحديثة. استطاعت السلطات الحاكمة في إيران تطويع أغلب الكرد لصالح النظام الشيعي الخميني من خلال أيديولوجيا الإسلام. في ثورة خميني وقف الكرد مع الثورة سواء المتدينون منهم أو العلمانيون. وبمجرد انتصار الثورة وإعلان الجمهورية الإسلامية أقيمت مجازر لأولئك الكرد الذين وقفوا مع الثورة. أغلب الكرد اللور في إيران، نتيجة انتمائهم للمذهب الشيعي، لا يعترفون بكرديتهم. في العراق نجد الكرد الفيليون والشبك، وهم على مذهب الشيعة، يميلون إلى سلطة الشيعة أكثر من ولائهم لسلطة إقليم كردستان العراق. بل هناك خطر إسلامي سني كبير على إقليم كردستان العراق نفسه. فبالرغم من أن السلطة الحاكمة في الإقليم قائمة على فصل الدين عن الدولة، لكن التوجه الإسلامي السني في ازدياد. الجوامع تتحكم بذهنية المواطن الكردي العادي أكثر من أية مؤسسة أخرى. هناك في قرى نائية لا توجد فيها مدارس ولا مستوصفات ولكن توجد فيها جوامع. الإعلام الرسمي لا يقبل نقد الدين. مما يفسح المجال أن يتمكن رجال الدين الكرد بعقلية الشبيبة وتغيير وجهتها سياسياً وفكرياً واجتماعياً. إنهم يكررون تجربة أسلافهم من رجال الدين الكرد بإعادة المحتل الأجنبي كفكر وكترات وعادات وتقاليد وترسيخها في ذهن الكردي. وبالتالي عرقلة نمو الطابع القومي في المجتمع، وإغلاق باب الحضارة المعاصرة في وجه الشعب. كان ملفتاً للانتباه انضمام العديد من كرد الإقليم إلى داعش وارتكاب جرائم ضد بني جلدتهم يندى لها جبين الكرد قبل جبين العالم. هؤلاء الكرد الدواعش كانوا من نتاج رجال الدين الكرد حصراً. يضاف إلى ذلك أن هناك في الإقليم عداء ديني شعبوي سافر ضد الكرد الأزيديين، يعزز هذا العداء رجال الدين السنة. السلطة الكردية العلمانية لم تساهم في تخفيف هذا العداء. كما أن المثقفون لم يقوموا بثورة فكرية في الإقليم لتغيير هذه الذهنية الشعبوية. هذا هو الخطر الأكبر على الهوية القومية في هذا الإقليم الكردي بعد أن أصبح إقليماً فدرالياً، سواء اعترف به الحكام في أربيل والسليمانية أو لم يعترفوا.
في تركيا الحديثة تم استخدام الإسلام لحشد الكرد من أجل إقامة الجمهورية الآتاتوركية. وعندما انتصر مصطفى كمال وأقام جمهوريته العلمانية بدأ بسلسلة من المجازر الدموية ضد الكرد. والحال مستمرة حتى اليوم. فتعثر الحركة الكردية المعاصرة في تركيا يعود إلى أن أكراد اردوغان وفتح الله كولن أضعاف وأضعاف كرد حزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطية.
قد يكون وضع الكرد في سوريا أفضل نسبياً. فحركة الإخوان المسلمين وبقية الحركات الإسلامية لم تستطع التغلغل في المجتمع الكردي. ومع ذلك نجد أن أغلب علماء الدين الكرد هم في خدمة النظام، ليس كسلطة فقط، بل كذلك كولاء للعروبة كما أسلفنا. (استثنى من بينهم الشيخ معشوق الخزنوي فقتلته السلطة).
الخاتمة
لم يقف المثقف الكردي المعاصر على دور الإسلام ومذاهبه في تفتيت المجتمع الكردي. هناك دراسات قليلة في هذا المجال. وهي دراسات خجولة، بل أستطيع القول أنها سطحية، ومبعثها سياسي أكثر مما هو فكري تأريخي. أغلبهم يسعون لتبرئة الإسلام عما لحق بالأمة الكردية. بل هناك من يحوّر التاريخ عندما يدعي بأن الكرد دخلوا الإسلام سلماً.
المجتمع الكردي بحاجة إلى ثورة في بنيته الفكرية والاجتماعية. ولنقل بحاجة إلى حركة تنويرية تتعرض إلى الذهنية التاريخية للشعب الكردي. هذه المهمة تقع على عاتق النخب الثقافية حصراً. لأن الساسة يعتبرون انجاز الحقوق القومية لها الأولوية. ربما في قولهم شيء من الحقيقة. لكن على الصعيد الفكري لا توجد مسائل مؤجلة. العمل الفكري يبدأ غالباً قبل العمل السياسي كما هو معروف. أتمنى أن يتفرغ كتابنا ومثقفونا لهذه المهمة الجليلة.
———————————
* عند قراءة المعراج الزردشتي والمعراج الاسلامي تجد خلافاً كبيراً في أساليب التعذيب في العالم الآخر. فوسائل التعذيب الإسلامية هي وسائل صحراوية بدوية، بينما وسائل التعذيب الزردشتي هي وسائل بيئة زراعية.
** هذا دليل فكري وعملي بأن القرآن ليس صالحاً لكل زمان ومكان.