كوردستان في خطر

جان كورد 
كوردستان المجزأة تمخر بحراً أمواجه متلاطمة منذ قرنٍ من الزمان، إلا أنها صمدت في وجه الرياح العاتية وهجمات القراصنة، رغم تكسرها وتبعثر أشيائها وفقدانها لكثيرين من رجالها الأشداء. إلا أنها الآن في خطر، وجميع من فيها من البشر أيضاً، وليس مصدر الخطر الأكبر هو ما يجري فيما حولها من نزاعاتٍ وحروبٍ ومشاكل، وانما يأتي مما يحدث في سفينة الكورد ذاتها، وهي تكاد تصل الى شاطىء الامان وتستقر حيثما تريد، في الحرية والأمن والسلام.
لقد نشبت حروب عديدة في المنطقة منذ تجزئة كوردستان والى اليوم، وقد أجاب العالم الشهير سعيد حوى (رحمه الله) الكوردي الأصل مرةً عن سؤال عما اذا كان هناك أمل أو مجال لدولة كوردية مستقلة، قائلا: هذا ممكن فقط في حال اندلاع حرب عالمية ثالثة أو حرب في المنطقة بمواصفات الحرب العالمية.
ورغم كل تلك الحروب، ومنها ما اندلع بين العرب واسرائيل في أعوام ١٩٤٨ و ١٩٦٧ و ١٩٧٣، وحرب لبنان وحرب الخليج الأولى التي دامت سنوات مدمرة لكل من العراق وايران وحرب الكويت وحرب اليمن قديماً وحديثا وحرب صدام حسين (الأنفال) ضد الشعب الكوردي، ورغم ما يجري الآن في كل من العراق وسوريا وغيرهما، فإن الكورد لم يحظوا بالمجال أو الفرصة لكسب تعاطف العالم مثلما يحظون به اليوم، والعالم الذي كان يدعم مستعمريهم وجلاديهم بدأ يتحدث عنهم ويساعدهم ويعطيهم السلاح المتقدم، إلا أن هذا لا يعني أن كوردستان آمنة وغير معرضة للخطر، فما هذا الدعم إلا بسبب انهم يقاتلون ببسالةٍ نادرة ضد أهم وأخطر أعداء العالم: تنظيم الدولة (داعش) الذي يهدد امنهم وراحتهم ويقلق بالهم. بل انهم جعلوا الكورد رأس حربة لعالمهم “الحر الديموقراطي”، بعد أن ظلوا لقرونٍ عديدة رأس الحربة الإسلامية ويتامى المسلمين، حسب وصف العالم المصري الراحل، الدكتور كامل الشناوي. وهنا مكمن من مكامن الخطر على الكورد وكوردستان الثرية بالنفط والثروات المائية والمعدنية والغاز. وهي خيرات يسيل لها لعاب الأقربين والابعدين. وكل القوى الداعمة للإرهاب قد تضع الكورد في اولويات اهدافها الارهابية والاستراتيجية، فتشن عليها الهجمات من جهاتٍ مختلفة، وهي مدعومة من أعداء الكورد الذين لا يتوانون عن التعاون والتنسيق مع الإرهابيين والقتلة لإلحاق الضرر والأذى بالشعب الذي لم يتمكنوا من صهره بكل ما لديهم من قوى مادية وسياسية مدمرة.
ولكن يظل أشرس الأخطار ما هو داخلي ومتعلق بطبيعة المحاور المتناقضة والمتقاطعة ظلالها على كوردستان: المحور الايراني والمحور التركي والمحور الاسلامي – العربي.  والمحاور تتشكل وتنعقد بين طرفين أو أكثر من القوى المختلفة، على أساس المنفعة المتبادلة وتقارب الاستراتيجيات في مراحل معينة من التاريخ، إلاّ أن الجهات الأقوى فيها هي التي تحدد قواعد اللعبة وتتحكم في مسارات العمل، على الرغم من حرصها الإعلامي – السياسي الكبير على إظهار التحالف وكأنه بين طرفين أو أطراف على مستوى واحد وأفق مشترك. 
كان التحالف بين الشاه الإيراني وقيادة ثورة أيلول المجيدة (1961-1975) على أساس المنفعة المتبادلة، فالشاه كان عدو صدام حسين واحتاج للكورد “الأعداء”  لإشغاله بمشاكل داخلية، وللمساومة بهم فيما بعد من أجل إبعاد خطر نظامه على إقليم عربستان في إيران، ولانتزاع حقول نفطية من العراق، في حين  أن المنفذ الوحيد إلى العالم الخارجي للثورة الكوردية كانت تلك العلاقة القائمة مع الشاه، وعندما تحقق للشاه ما يريده، لم يتخلَّ عنهم فحسب، وإنما وقّع في عام 1975 اتفاقية الجزائر المشؤومة مع صدام حسين، وكات تنص عل تعاون البلدين ضد الحركة القومية الكوردية ومختلف الحركات التي تقلق أمن واستقرار البلدين، كما نصت على تنازلات عراقية لإيران في الخليج وفي جنوب العراق. 
والتحالف بين نظام الأسد الراحل وحزب العمال الكوردستاني فيما بعد لم يختلف في الأهداف والوسائل، كما لم يختلف في النتائج السلبية الخطيرة على حركة التحرر الوطني الكوردستانية.  
في ظل هذه التحالفات، تنامى خطر التمزّق السياسي في المجتمع الكوردستاني بأسره، بل وصل هذا التنازع إلى حد اندلاع حروب كوردية – كوردية بين فصائل كان الأجدر بها أن تتحد للقيام بمسؤولياتها القومية لا أن تتحارب، كما جرى في الذات الكوردية انفصام بين الشخصية السياسية والشخصية الاجتماعية، فتباعد الحراك المنظم عن الجماهير التي صارت تتفرّج على تمزّقاته وكأنها تقول له: “اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هنا قاعدون!”. إضافة إلى ظهور واضح وصارخ للنتائج السلبية الخطيرة للتعريب الطوعي والتفريس والتتريك، من قبل الملايين من شباب الكورد، لدرجة أن الجيل الذي ما بين ال18 و 30 عاماً لا يتكلّم بالكوردية في غالبيته، وحتى في بلاد المهجر  نرى أن اللغة الكوردية تكاد تضمحل في داخل الأسر الكوردية، واستخدام لغات الدول المستبدة بشعبنا (العربية والفارسية والتركية) هو السائد بين الشباب في تواصلهم وتحادثهم وتجمعاتهم، بين أفراد العائلة، آباءً وأمهاتٍ وأولاداً، بل بين المثقفين الذين نجد معظمهم يكتبون أشعارهم (من الشعور) بغير اللغة الكوردية…
وهل هناك خطر أعظم من إهمال أمةٍ من الأمم للغتها والتمسك بلغة المستبدين بها؟
كوردستان في خطر، رغم الانتصارات والإنجازات، لأن هذه الأحلاف التي تصب في خدمة المستحكمين بمصير أمتنا قد خلقت جيلاً من السياسيين المستعدين لتحطيم كل ما هو كوردي، فيتنكر لحق هذا الشعب في تقرير مصيره، بل يزعم كذباً ودجلاً أن زمن الدولة القومية قد ولى، ولا يخجل من القول علانية بأن الدعوة لاستقلال الكورد ليست من خلقياته ومن سياسة حزبه، أو  يهدد بتحويل إقليم جنوب كوردستان إلى بحيرة دم في حال اقدام حكومة الإقليم على طرح مسألة الاستفتاء بصدد الاستقلال أو عدمه على الشعب الكوردي، فيلتقي في موقفه مع موقف أهم وأكبر أعداء حزبه، بل من هذا الجيل المدجن من قبل مقتسمي كوردستان، من هو سياسي معارض في إقليم جنوب كوردستان إلا أنه مستعد لاقتطاع محافظة كوردية بأكملها وضمها إلى دولة مجاورة لقاء ثمنٍ سياسي ومالي بخس… ومحافظ في مدينة كوردستانية يعلن بكل صفاقة أنه يطالب بوضع مميز لمدينته ويرفض كونها جزء من كوردستان، وآخر يريد سلخ منطقة كاملة عن وطنه الأم بهدف تحقيق مصالح حزبية آنية مع حكومة من حكومات الدول السائدة في كوردستان… و… و… و… 
الخطر الذي ألحقه تنظيم الدولة “داعش” بالشعب الكوردي وبكوردستان تحوّل بفضل الله وبقوة البيشمركة ودماء الكورد وقائدهم الكبير ، السيد مسعود البارزاني، إلى نصر مؤزر ، في جبهات القتال وعلى الصعيد العالمي، رغم أنف الذين صرخوا حتى في داخل برلمان دولة أوربية مطالبين بمنع المساعدات العسكرية عن بيشمركة وطنهم، ورغم أنف الذين وقفوا وراء تلك المؤامرات ولا يزالون يحرضون ليل نهار كل مرتزق وخائن للوقوف ضد القيادة الحكيمة المؤمنة بالكورد وكوردستان، قيادة الرئيس البارزاني التي تلقى الاحترام والدعم من قبل كل دول العالم الحر الديموقراطي وحلفائها جميعاً. 
وبهذا يمكن تصنيف الخطر المحيط بالكورد وكوردستان بهذه النقاط:
خطر الهجوم الخارجي من قبل الدول المحتلة لكوردستان والتعاون والتنسيق فيما بينها ضد الكورد عموماً، سياسياً واقتصادياً، بل وعسكرياً، بصورة مباشرة أو غير مباشرة
خطر المنظمات الإرهابية المدعومة من قبل هذه حكومات هذه الدول
خطر التشبث بالأحلاف الإقليمية من قبل الأحزاب الكوردية المتنازعة على القيادة والسلطة، بحيث يستمر التمزّق والتشتت في المجتمع الكوردي ولا تزول آثار سايكس – بيكو بسهولة
خطر الانصهار الذاتي في أحضان اللغات والثقافات المستبدة بشعبنا، لغوياً وثقافياً، حتى في المهاجر البعيدة
خطر استمرار تواجد عملاء خونة في قيادات الحركة الوطنية الكوردية والتساهل معهم لأسباب اضطرارية وعدم محاسبتهم على خياناتهم وانحرافهم عن مسار الأمة الكوردية
خطر التصريحات المتتالية لبعض القيادات المنحرفة ضد طموحات الأمة الكوردية، فتمنح الأعداء صكوك وسندات بعدم وجود حق كوردي في استقلاله وتقرير مصيره بنفسه، مقابل مصالح حزبية ضيقة
خطر الانزلاق إلى حرب كوردية – كوردية على غرار ما حدث في التاريخ مراراً وتكراراً بسبب عدم وجود تأثير فعال لمنظمات المجتمع المدني والإعلام الكوردي والهيئات الوطنية المكافحة من أجل لجم السياسات المنحرفة والخاطئة في كوردستان، وبخاصة تلك التي تصب في طواحين أعداء الكورد وكوردستان. 
وبالتأكيد هناك مزالق خطيرة أخرى، أرجو أن نتشارك في إلقاء الضوء عليها وتنبيه جماهيرنا إليها والعمل معاً في سبيل الحد من خطورتها على قضيتنا القومية العادلة… والله من وراء القصد.
‏20‏ حزيران‏، 2016

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…