جنيف 3 وتشتيت التركيز, الالهاء والاستنزاف

م.عاصم عمر 
 
ان ما قدمه الشعب السوري في سبيل حريته ,بلغة الأرقام والتضحيات وحجم المآسي وقوة المعنويات , ملحمة  ربما لم يسجل التاريخ أعظم منه من أجل انهاء الاستبداد.
مما لاشك فيه لدينا أن الأسد وحلفاؤه أجبروا الشعب السوري على حمل السلاح والدفاع عن كرامتهم حيث صادر حرية, ارادة و حياة الناس وأملاكهم  لصالح آلته الأمنية والعسكرية  هو ومن قبله أباه حيث أجبروا الشعب السوري الادمان على القائد الخالد(الاله) والحزب الواحد, ثم ليجبر الشعب السوري من ان يمثل بوجاهة سياسية من السياسيين الهواة ,غير منسجمة مع بعضها , ذو دوافع متنوعة ومن أسوئها حب الظهور والشهرة الاعلامية, لم يتمكنوا من أن يكونوا صادقين مع أنفسهم و لم يستطيعوا التخلص من الارث السياسي الثقافي والتربوي  الذي تغذوا عليه من النظام الدكتاتوري مدة ستة عقود, وحيث تقوم باجترار ما أدمن عليه  من فكر وثقافة البعث ( القوموي) والقائد الملهم و الفكر الشمولي,
 وهم في ذلك  يبدون انقلابيون أكثر من كونهم ثوريين , فقضيتهم المركزية لاتزال هي فلسطين , شماعة مآسيهم حيث اتخذ منها جميع السلاطين قميص عثمان الى سلطانه ليسيء الى القضية أكثر من اسرائيل نفسها , بينما النظام يعلن عمليا الشراكة معه في حراسة الحدود, وأمام أبواب جنيف 3 بدت المعارضة الوطنية التي كانت تتمتع باعتراف 116 دولة كممثل شرعي للانتفاضة والشعب السوري لم يبق منه فعليا الا… الديبلوماسيين  الذين لا يكفون عن النصح لتوجيههم دون تقديم أي دعم حقيقي يقي الداخل الثوري من قصف البراميل المتفجرة على السكان المدنيين, وبعد أن سجلوا انتصارهم الأول في جنيف 1 -و 2 كممثلين للشعب السوري, ولكن جنيف 3 أظهر تراجعا شديدا لهم وانحسارا في الدور وتغيرا في ترجمة مطالب الشعب, حتى باتوا يبدوا عليهم مفعلين بدلا من أن يكونوا فاعلين,حيث تمكنت القوى الدولية من سحب أوراق اللعبة من أياديهم واحدة فواحدة, وجعلوا من معظمهم طلبة يخضعون لدورات رفع مستوى بغية أستهلاك الوقت والتمكن من ترويضهم ,و حيث أصبح الآن مطلوبا من المعارضة السياسية تكليف الثوار بالتركيز على محاربة داعش  بدلا من محاربة بشار وهذا هو ما كان يخطط له الأسد وترجوه أيران ,بينما في المقابل حقق الأسد وبدعم من حلفائه  تقدما ملحوظا على مختلف المستويات اضافة الى اعداده لسيناريوهات عديدة وبدائل تفاضلية وكما يبدوا فان المجتمع الدولي قد تخلى وبالتدريج عن الثورة السورية وعن الثوار, وازداد معه التدخل الأيراني العسكري وكذلك الروسي الجوي خاصة وبشكل وحشي ,مع سكوت مطبق من قبل الأصدقاء, يبدو ان هناك خللا ما يستوجب مراجعة استراتيجيات الثورة والبحث عن بدائل…وأنه لا ثوابت في السياسة بل جملة متغيرات وانما يجب ملاحقة المستجدات والتعامل معها بفهم جديد .؟..والا..!.. أنه ناقوس الخطر ان لم تكونوا ترون أفلا تسمعون ,أعتقد انه لولا منظومة الفلسفة الاخلاقية في السياسة الدولية (خطة محاربة داعش) حيال الجرائم الكبرى التي ارتكبها النظام لكان الأسد بدعم من حلفائه قد أعلن نهاية الثورة السورية ,علما ان هناك من يعمل لإعادة تعويمه على المستوى العملي  حيث يرون فيه انه سوف يتمكن من اعادة تغطية هذه الجرائم وبتغطية من الروس أنفسهم وتسويتها اعلاميا أو تبريرها أو نكران وقوعها كما فعل أباه في حماه و…مدن اخرى  من سوريا في الثمانينات ” اضافة الى ضمان أمن اسرائيل “,علما ان الأسد رغم الدعم الهائل الذي قدم اليه من قبل حلفائه فانه لم يبق له ارضية في الداخل السوري تؤهله للاستمرار ,بل وسحب معه الطائفة العلوية بكامله الى الهاوية, ولا ننكر ان الثورة في سوريا تحول الى حرب أهلية, وصراع طائفي ,مذهبي ولم يبق مجالا لرأب الصدع بين المكونين العلوي والسني , بل تحول الى توجه  ودولي بامتياز(حيث وصفت بالحرب المقدسة-الكنيسة الروسية, وخطابات د .ترامب ..الخ) وبذلك أفلتت قضيتنا من أيدينا تقريبا واصبح خارج نطاق التحكم الى أيدي الدول الكبرى وعوامل رهانات منافساتهم على المصالح. وبذلك  لم يعد المصالحة الوطنية ممكنة, أو الاتفاق على أية تسوية بين  المعارضة وبشار لأنه تجاوز كل المسوغات , وكان يبدوا جليا ومنذ البداية انه كان قد حزم أمره في اعتماد الخطة B  الحسم العسكري ,وفي حال عدم نجاحه اعلان الانفصال  بسوريا المفيدة مؤقا والتحصن فيه والدفع بالباقي ومؤازرته لتكوين مقاطعات ,على الأمد القصير, معطيا المجال لأيران بالمناورة  ومتابعة التحرك الدولي سياسيا وعسكريا, وايران ذاتها صاحبة المشروع المستقبلي سوف تقوم بعمل المستحيل من أجل أن لا يسقط الأسد حتى وان ادى الى التدخل العسكري الواسع النطاق, وللحقيقة لم يبق أمامه أي خيار آخر طبقا لمخططه “الهلال الشيعي” أبدا كما انه لا يستطيع التخلي عن الكرسي فهو بالنسبة اليه وللطائفة موت أو حياة ,لأنه وأمام أية تسوية كانت فانه  ليس فقط الأحياء منهم بل أن بعض الموتى سوف يستدعون للحساب عاجلا أم آجلا وكذلك في حال سقوطه لذا لا يمكنه ولا أيران القبوا بأي حل آخر سوى الحسم العسكري وان كل المبادرات  السياسية التي تطرح الآن ليس الا مجرد مهلة يقدم للنظام من أجل تمكين نفسه ,وآخر حل يمكن له القبول به في حال فشله هو القبول بالفدرالية في سوريا المفيدة لأنه من الممكن استكمالها مع لبنان (حسب السيناريوهات الجارية) .والعمل على الانفصال التدريجي وترك السكة للمتابعة الأيرانية.
لا يخفى على الدارسين الاستراتيجيين أن الأسد وبدعم من أيران وروسيا وبالوكالة قد أبدع في انشاء حزب الله, الجهاديين ,الانتحاريين, وداعش , كما أنه تمكن بذات الدعم وبخطء استرتيجي من جانب الحكومات التركية المتعاقبة في حل القضية الكردية الى تشكيل الPKK في ثمانينات القرن الماضي والذي شكل وبالا على الأمة الكردية قبل الآخرين وحتى تاريخه , وقامت بتفعيله الآن أيضا حسب الحاجة ,وبنفس الخطأ الاستراتيجي التركي في انتاج توابعه من ال PYD  في الوقت الحاضر واللذان يدعيان تبنيهما للقضية الكردية ويسوقان لذلك في كل من سوريا وتركيا وفي حقيقة الأمر أنهما يقومان باضطهاد الأطراف القومية الكردية والكردستانية سياسيا اقليميا ودوليا أكثر من الأنظمة الحاكمة نفسها, هذه القوى مجتمعة تشكل الاطار الصحيح من قبل الأسد للاستمرار في حرب الاستنزاف ضد المعارضة وقوى الثورة والتي لا تستطيع تحمل حرب الاستنزاف استراتيجيا لولا الايمان ,اذ ان الأسد لم يبق أمامهم أية خيارات أخرى سوى الدفاع عن أنفسهم حتى الموت ,وان بشار الأسد قد أصبح بالنسبة للشعب السوري عموما ولهؤلاء المتمردين والثوريين أسوأ بكثير من  صناعته داعش .
 الملف السوري مشروع أيراني بامتياز وهو “الوصول بقوة الى البحر المتوسط” وقد استثمرت فيه ايران أموالا ضخمة  منذ قدوم الملالي , ولم تجن بعد أية فوائد ,وبالاتفاق مع الأب “حافظ” هيأت أيران المعالف(حزب الله) قبل وصول قوافل الخيول والذي يسير الينا في الطريق عبر العراق,لذا فان لأسد يتصرف بثقة  ويسعى مع حلفائه الى تحقيقه, و بتعهد روسي ,وبدليل أن روسيا تراجع في كل خطواتها صاحبة المشروع للاستشارة أو التوجيه, اضافة الى الغاية الروسية الثانية وهو اثبات وجودها عالميا واكتساب ثقة الشعوب الأخرى التي فقدها الغرب وأمريكا بشكل خاص, تدريب قواتها وتجريب أسلحتها ميدانيا والترويج لها تجاريا ,اضافة الى تشتيت أمريكا وأوروبا من تزعم القطبية السياسية الاقتصادية, بتتويج جارته ايران قوة عظمى فاعلة متمردة ضد الغرب, الى جانب قوى أخرى صاعدة تستطيع ان تقول “لا” لأمريكا ,اضافة الى أهداف بعيدة المدى , منها ماهو ظاهر مثل الحرب على التطرف والارهاب الاسلامي السني حاليا, وثانيا  تفتيت المشيخات والممالك العربية التي باتت منتهية الصلاحية حضاريا ولم يعد بإمكانها تأمين الاستقرار الاقتصادي عالميا, وحيث يبقى مهمة المجتمع الدولي المحافظة على توازن القوى المتحاربة “على مبدأ التوازن الطبيعي”the fitter survies  “معتمدين استخدام  حرب الاستنزاف البينية ومن ثم  فيبدوا انهم  جميعا اتفقوا مع المشروع الأيراني, لصالح خطتها الاستراتيجية. في الأفق القريب بالتمهيد لحصول تغيرات أقليمية.
لذلك لا يمكن للأسد القبول بأية خطة عمل جدية نحو تحقيق أية مصالحة سياسية في سوريا, ومنذ البداية كانت هذه الفرصة معدومة وما جنيف 3 الا عبارة عن فصل آخر من الدراما السورية, وحيث أن استمرار الأسد بمثل هذا السلوك الوحشي ,يزيد من قوة الطرد المركزية نحو داعش فالذين يهربون من آلته القمعية (المخابرات) يلتجئون الى داعش ,لذا فان بقاء الاسد هو ارواء لمزرعة داعش وحيث  أن كليهما يستمدان عوامل بقائهما من بعضهما, وحتى لو قضى الغرب على داعش فانه سيظهر بأشكال أخرى ,وذلك لأستمرارية السبب ,وفي حال الاستمرار في مفاوضات جنيف بالشكل الجاري فان المعارضة الوطنية تشترك في تنفيذ المشروع الأيراني دون ارادتها , ولم يبق أمام السوريين وأصدقائهم القليلين جدا ,الا الاستمرار في دفاعهم حتى النصر أو …,وفي حال عدم التمكن من تقديم المضادات  الجوية لقوى الثورة من قبل أصدقاء الشعب السوري من العرب و الحلفاء فعلى هذه القلة القليلة الباقية من الاصدقاء ان تحزم أمرها (بعد القضاء على الثورة الوطنية السورية) ان تدافع عن نفسها بالتسلسل لاحقا لأن “هرمز” قادم لا محالة.
ولكن مهما يكن فان بقاء واستمرارية هذا الرجل  (الأسد بعد كل هذه المجازر) دون محاسبة سيشكل فاجعة اخلاقية عالمية وتغيرا في المنظومة الفلسفية الاخلاقية ويعمق فكرة عبثية الحياة وصيرورة قانون الغاب لدى الاجيال الصاعدة ,وكما انه سيعطي فكرة عن الساسة انهم  أناس بلا قيم وأخلاق– وسيمهد الشعور العام نحو مفهوم عبثية الحياة والمجتمع واستهوان قيام  حرب نووية لأن الحياة قد أصبح عبثا .
أخيرا بما أن الأسد ومن ورائه المجتمع الدولي لم يبقوا للسوريين املا في الخلاص من الطاغية, فان السوريين مصرين على التمسك بالحرية و بكل ما يرمز الى الخلاص , وان المعارضة الوطنية السياسية والمتمثلة في الائتلاف الوطني السوري وهو بالنسبة اليهم يشكل هذا الرمز رغم المآخذ عليه.  
23.05.2016 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…

إبراهيم اليوسف إنَّ إشكالية العقل الأحادي تكمن في تجزئته للحقائق، وتعامله بانتقائية تخدم مصالحه الضيقة، متجاهلاً التعقيدات التي تصوغ واقع الشعوب. هذه الإشكالية تطفو على السطح بجلاء في الموقف من الكرد، حيث يُطلب من الكرد السوريين إدانة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وكأنهم هم من جاؤوا به، أو أنهم هم من تبنوه بإجماع مطلق. الحقيقة أن “ب ك ك”…

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…