درويش محما
فجأة، وخلال أشهر قليلة، تحولت مدن كبيرة عامرة مثل نصيبين وجزرة وشرناخ وجولمرك وسلوبي وسور التاريخية، من مدن أمنة هادئة مفعمة بالحياة، الى مدن خراب وبقايا دمار وانقاض، ولان الحدث جلل ولا يصدق، يحق للمرء ان يتساءل، من فعل ذلك, ولصالح من؟ صدف وكنت في مدينة نصيبين يوم اعلان نتائج الانتخابات النيابية التركية العام الماضي، وفور التأكد من فوز حزب الشعوب الديمقراطية بنسبة 13 في المئة، عمت الاحتفالات المدينة التي سكنها أكثر من مئة ألف كردي قبل الاحداث، واليوم يسكنها العدد صفر من اهلها، لم تنم نصيبين ابتهاجا وفرحا لمدة ثلاثة ايام بلياليها، واصوات الرصاص لم تصمت كذلك احتفاء بالنصر المبين، وحين سألت أحدهم، ان كانت اصوات الرصاص تلك تطلق من اسلحة رشاشة؟ قال: بلا، وحين سألته من جديد: غريب أن الشرطة التركية لا تأبه للأمر؟ رد علي: وهل تتجرأ الشرطة التركية، سنواجههم بسلاح أكثر ثقلا، وأعلى صوتا، وأشد ايلاما. لا اخفيكم، عند سماع ذلك، ادركت ان الامور ليست على ما يرام، وانتابني خوف شديد على مصير مدينة نصيبين وأهلها، بوجود هذا الكم الهائل من السلاح داخلها، واخافني أكثر صمت الحكومة التركية المريب حيال ذلك.
من تسبب بهذه الحرب واشعل فتيلها، أمر معروف ولا يحتاج للنقاش، فالاعلان عن الإدارة الذاتية الديمقراطية من طرف واحد، وتسليح الشباب الكردي داخل تلك المدن التي سبق ذكرها، وإغلاقها بوجه السلطات التركية بعد حفر الخنادق وبناء المتاريس فيها، وعمليات القتل التي استهدفت رجال الشرطة التركية، الا يعتبر كل ذلك، بمثابة إعلان صريح للحرب، وبالتالي تحديد الطرف الذي يتحمل مسؤولية هذه الحرب بنتائجها وتبعاتها؟ اما عن المستفيد من الحرب الجارية اليوم في مدن كردستان تركيا، قطعا وبكل تأكيد، لن يكون الكردي ـ التركي هو المستفيد منها، بل هي ضد مصالحه وبشكل فاضح، ففي مناطقه تجري هذه الحرب، وهو الذي يعاني من ويلاتها اكثر من غيره، فمنزله هو الذي هدم، ومدنه وقراه هي التي دمرت، واعماله ومصالحه هي التي توقفت، واطفاله وشبابه هم من تغيبوا عن دراستهم، وحصته من القتل والموت هي الاكبر، ونصيبه من الهجرة هي الاكثر. واذا لم يكن الطرف الكردي ـ التركي هو المستفيد من هذه الحرب التي افتعلها حزب “البي كي كي”، فمن الطبيعي ان يكون الطرف الاخر هو المستفيد، بكل تأكيد، حكومة “العدالة والتنمية” هي المستفيدة من هذه الحرب، هي وحدها، فمدينة نصيبين التي صوتت لحزب الشعوب الديمقراطية الجناح السياسي لحزب “البي كي كي”، بنسبة تجاوزت الـ 80 في المئة، والتي رضخت لأوامر قنديل بحفر الخنادق وبناء المتاريس وحمل السلاح، هذه المدينة تحترق اليوم، اما المدن الجارة والقريبة منها, مثل ماردين ومدياد وباتمان، والتي لم تحذو حذوها، فهي تنعم بالسلام والامان التام، فمن غير المنطق والمعقول ان لا يغير ابن نصيبين ما بنفسه، وان لا يغير من ميوله لصالح الحكومة التركية، وخصوصا، بعد ان تقوم تلك الحكومة بالقضاء على “التمرد” داخل المدينة، وبناء ما دمرته قواته، فتظهر كالمنقذ المخلص. ليس بعيدا عن مدينة نصيبين المحطمة اليوم، وقبل أكثر من ألفين وخمسمئة عام، خرج ملك الليديين كرويسوس لمحاربة كوروش ملك فارس، فهزم كرويسوس شر هزيمة، وقبض عليه واسر، وجلب ليحضر امام كوروش، وحين سأله هذا الاخير عن سبب جنوحه للحرب بدل السلم، قال كرويسوس: «قد كان ما أتيت به، أيها الملك، أمرا في صالحك، ونكبة لي. وإذا كان ثمة لوم في هذا، فقد حق على اله الإغريق الذي زين لي الحرب. وليس هناك من يبلغ به الحمق ليؤثر الحرب على السلم، حيث يدفن الآباء أبناءهم، بدلا من أن يكون الأبناء من يدفنون الآباء». يا الله، ما اشبه اليوم بالبارحة، لكن اذا سئل امراء الحرب الخاسرة في جبال قنديل، السادة “بايق وكالكان وقره يلان” عن فعلتهم، على من سيلقون باللوم في غياب اله الاغريق، يا هل ترى؟
السياسة الكويتية