لعنة جنيف

د. محمود عباس
  نقلت إلى جنيف كل أوبئة النظام السوري، نتجت عنها أنواع غريبة من النفاق السياسي، وتمخضت عنها لعنات، ومن بينها المرمية على المجتمع السوري. فالمحاورات التي جرت والقادمة حول القضية السورية، وفي أروقة تلك المدينة تتلوث بالكبائر، لكنها محمية وراء أبواب موصده، لئلا تنتشر بين شعب سويسرا، فهي بضاعة فاسدة مخصصة لسوريا، شاركت في طبخها جميع الشرائح، من أخبث المنافقين، والانتهازيين وتجار الحروب، من السلطة إلى أقسام من المعارضة، وغيب عنهم الوطنيون، ممثلي الشعب السوري الحقيقيين، وأولياء الجرحى والشهداء، وممثلي المخيمات المتناثرة في الأصقاع، استولت عليها المتكالبون على السلطة، رافعي الشعارات المحرضة على تدمير ما تبقى من المدن، وتهجير البقية الباقية من الصامدين أمام المعاناة والكوارث. 
يحاور سلطة بشار الأسد، مجموعة معظمهم كانوا حتى البارحة خدمها وموظفيها الطائعين والمؤمنين بها وبسيادة الأسد، يجرون ورائهم مجموعة وطنية لا صوت لها ولا قوة على إخماد اللعنة، تحرصهم جميعا روسيا وأمريكا، بكل صفاقة، ولم تعزل منهم أحداً إلا الأنقياء من المجتمع، بناءً على أحقاد بعض السلطات الفاسدة والتي لها تأثير على مجريات تضخيم اللعنة. والأكبر منها هي أنه لا بديل عن هذه الحفنة، المدعية بالخبرة في الحوارات ومعرفة أروقة النفاق السياسي، كعباءة لطمس شريحة المعارضة الثورية والوطنية. 
 جنيف مدينة مؤتمرات السلام، ومركز عصبة الأمم، والمحكمة الدائمة للعدل الدولي، والمحتضنة ومنذ قرن وأكثر أغرب وأبشع أسرار العالم السياسي، ونفاقه، وتحت هيمنة الدول الكبرى. ما يجري في أرقة فنادقها، ومنذ سنوات، تحت غطاء إيجاد حل سياسي للقضية السورية أو إنقاذ  مجتمعها، بمؤتمرات تنسخ ذاتها، والتي ستضاف عليهم أرقام جديدة لا أكثر، دون أن يتخلص السوري من جزء من معاناته، ويحصل، على الأقل، على هدوء ما في بيته أو ما حولها، لأن الحوارات بعمقها تصطدم بين سلطة لا ترى في الطرف الأخر سوى أقزام كانوا في خدمتها حتى البارحة واليوم يطالبونها بالتنحي، وهؤلاء بدورهم لا يزالون تحت تأثير الرهبة التي كانت سلطة الأسد الأب والأبن يلقنونها لهم، ولا يتجرؤون على عرض مطالب الشعب بالمنطق المطلوب، ولا بتبيان ما يجب أن تكون عليها سوريا القادمة، محتمين وراء الشعارات الدينية والإسلام السياسي التكفيري لمواجهة السلطة ومطالب الشعب معاً وبمنطق واحد، ودون أن تكون لهم الجرأة لعرض الحكم الواقعي على مجرم كبشار الأسد، بدلاً من عزله، ومعه كل الذين كانوا السبب فيما تحصل لسوريا، ومن ضمنهم جماعات من الذين يسمون ذاتهم بالمعارضة. سوريا أمام مسيرة تاريخية تعيد الماضي الملوث، وسيخرج المجرم في القادم من الزمن على صفحات التاريخ العربي كبطل قومي، والمنظمات الإرهابية كقوة إسلامية كانت تعمل على نشر الإسلام!
 حوارات جنيف الثالثة والرابعة وما ستليهم ستستأنف قريبا، وقد مهد لها بما يكفي من التدمير الممنهج لمدينة حلب، رغم الهدنة المزعومة، وما يجري فيها على مسمع ومرأى أمريكا وروسيا، وبموافقة ضمنية، أو حتى مشاركة مباشرة من القوى والدول الداعمة لقوات سلطة بشار الأسد وطيرانه، ومن منظمتي النصرة وداعش وما حولهما كأحرار الشام، بما يطرحونه ويفعلونه على الساحة، ومن خلفهم الدول التي لم تعد ترى السوري إنسانا، أمثال تركيا والسعودية وقطر. لتنضج اللعنة ضمن قاعات الحوارات القادمة، وقد مهدت للجنيفات القادمة، عملية استلام وتسليم جغرافيات ضمن المنطق المسيطرة عليها السلطة وداعش، كإعادة تدمر، والتي توجت بالسمفونية الروسية الكلاسيكية، والتي كانت اللعنة الحقيقية على ضمير الإنسانية، واستهزاءً بكل القيم الأخلاقية، متغاضين عن سمفونية الجحيم المهيمنة على المدن والمجتمع السوري، ليعرضوا فرقتهم وبكل وقاحة في مدينة تدمر الأثرية، ذات الصفقة العجيبة الغريبة بين السلطة وداعش، والتي ارتزقت منها المنظمة وتجار الحروب من سلطة بشار الأسد في بيع آثارها، وجزء من متحفها، بعد تغطية منافقة للسلطة بأنها تمكنت من نقلها إلى مكان آمن، ولم تستطع نقل مخازن الأسلحة الهائلة التي استولت عليها داعش، بعملية مشابهة للتي سلمتها لهم في الموصل نوري المالكي، رئيس وزراء العراق والباقي ضمن السلطة حتى اللحظة. 
  تسليم تلك المدينة وتحفها وآثارها، مقابل ما دمرته روسيا بطيرانه في بدايات القصف، للتغطية على ما ستفعله بالقوى الإسلامية المعارضة الأخرى، ومن بينهم قوات الثورة السورية الحقيقية، ولتعاد بعد سنة ونيف المدينة مقابل صفقة جديد يحتاجونها بشكل عاجل، وهي كمية هائلة من الأسلحة والذخيرة التي بدأت تفتقدها داعش، والمجمعة لهم حول حقل (الشاعر) الغازي، ومعها الحقل ذاته، ولم تتحرك روسيا ولا طيران السلطة ساكنا إلا في مناوشات شكلية، رغم أنها في منطقة منبسطة وخالية من المراكز السكنية، وبإمكان طيران الاستطلاع الروسي أن ترى فأراً على بعد كيلومترات! وبالمقابل كان الأهم لهم تدمير عدة مستشفيات في قلب مدينة حلب المدمرة أصلاً، وقتل الأطباء والجرحى والمرضى فيهم، عوضا عن أمراء داعش الذين كانوا يفرغون في نفس اليوم المستودعات المتبرعة بها سلطة بشار الأسد! وعلى أثرها استطاعت داعش، وبعد أسبوع من استلام الصفقة، أن تهاجم على عدة جبهات، في العراق على الجيش العراقي وعلى البيشمركة، وتهاجم قوات الحماية الشعبية في جنوب الحسكة، وتضرب المعارضة السورية في شمال حلب، وتقوم بمسرحية هزيلة سخيفة مع تركيا بتراشق في الأسلحة على طرفي الحدود. 
  لا شك أنها مهزلة التاريخ والدول الكبرى ينظرون إليها ببسمة الاستهزاء، والذين سيحاورون السلطة يغرقون في ظلمات الصراع المقيت، وما يطالبون به من السلطة في كل مرحلة تقل عن سابقاتها، باستثناء طرح تخصهم دون الثورة والشعب، وهي تنحية بشار الأسد، وما يقال حول المساعدات الإنسانية وإطلاق سراح السجناء هي مطالب القوى والمنظمات الإنسانية المدافعة عن حقوق الإنسان قبل أن تكون مطالب هذه المعارضة.
 جنيف هادئة ومنذ أسابيع، والسلطة تفعل ما تريد، كالمنتصرة على الأرض وضمن أروقة جنيف، والحديث حول حواراتها القادمة، تجول في غرف مغلقة، والاتصالات مستمرة، والتصعيد في الداخل على قدم وساق، ولقاءات جون كيري وسيرغي لافروف لا تقف، إما شخصيا أو بالاتصالات، وذلك على حساب المزيد من إراقة الدم السوري، وتدمير الأكثر من الأبنية التحتية وتهجير قوافل أخرى من البشر، والذين لم يعد ينظر إليهم كبشر، بل عالة على الدول المستفيدة منهم والتي تتاجر بهم، كصفقة 6 مليارات دولار التي دفعت لأردوغان، ومليارات أخرى ضاعت وذابت بين أيدي دول أخرى وتجار الحروب. وكلما طالت مدة الانتظار كلما أزداد عدد الشهداء، وثبتت السلطة في مكانها، فها هي روسيا تبني مطار آخر في تدمر بعدما أنهت فرقتها الموسيقية معزوفتها الكلاسيكية هناك، وهناك من يضحون بحياة أبنائهم لهيمنة مذهبية قبل أن تكون خدمة لبشار الأسد وهي نفسها التي صرحت بها فلاديمير بوتين مؤخراً!
 عبيد سلطة بشار الأسد ووالده، ومشوهي ثقافة البعث يحاورون سلطة الإجرام، والنتيجة ستكون لعنة متفاقمة على السوريين، وستنتقل سوريا من تدمير فاجر إلى تدمير بنفاق، وستزيد من انهيارها، فالطرفين المتحاورين، هم من نفس البنية الفكرية، وتعلم روسيا وأمريكا بما يجول في ثناياهم ومن يرشدهم، وما يلقن لهم قبل وصولهم إلى قاعة الحوارات، لأنهما يلقنانها لملقنيهم، وكل الإملاءات ليست في صالح المجتمع السوري، فهم بضاعة بين عدة بضائع أخرى يتجارون بها. ولخلق تحريك مغاير، لا بد من تبديل الشريحة المحاورة المعارضة، والتي تصرخ في الإعلام أكثر مما تفعل، وتبيع الوطنيات أكثر ما تؤمن بها وتفعله، وترضخ لإملاءات القوى الإقليمية بقدر ما تربيها، ومهما كانت النتائج فإنها ستؤدي إلى ظهور المعارض الأخر والأخر، وسيصبح الحالي في مكان السلطة ذاتها، وبالتالي سوريا ستبقى منجرفة إلى الدمار والمزيد من القتل والصراع، وبمقدار جرائم السلطة ومسوغاتها في تدمير سوريا وقتل الشعب، فلهذه المعارضة المحاورة دور في تفاقمها، وتشارك على تحرير اللعنة من جنيف، فلا بد من أسقاط النظام، والنظام يعني سلطة بشار الأسد والبعث ومن يمثلونه ومعهم الإسلام السياسي التكفيري والليبرالي ضمن المعارضة.
   اللعنة طبخت ومنذ سنوات، ولم تتوقف بالسقوط على سوريا ومجتمعها، منذ سنوات، وليس من السهل تغيير مفتعليها، من الجهتين، ولكل طرف قوته وداعميه، وحججهم، يدعون بأنهم يمثلون الشعب، والشعب أنهك ودمر وقتل وشرد وهم لا يزالون يتاجرون به، وبديلهما غائب عن الساحة، هزيل الإرادة والقوة، ولا أحد يريده، منفي من جميع القوى المتصارعة على أرض الواقع، وهنا تبقى كل الحلول والتحاليل في حكم اللعنة ذاتها، لأنها لا تؤدي سوى إلى المزيد من الحسرة والآهات على ما تفعله الشرائح المنافقة والانتهازية وتجار الحروب وعلى رأسهم أو معهم سلطة بشار الأسد المجرمة، ويبقى الأمل في قادم يضع نهاية لعصر الظلمات هذه، المقتربة من نهاياتها، فالشرق في ثورة ثمنها باهظ وبفترة أقصر من غيرها، وهي لا تقل عن الأثمان التي دفعتها الشعوب الأوروبية على مدى قرون متتالية.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
11/5/2016م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف تعود سوريا اليوم إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية كأرض مستباحة وميدان لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والإقليمية. هذه الصراعات لم تقتصر على الخارج فقط، بل امتدت داخليًا حيث تتشابك المصالح والأجندات للفصائل العسكرية التي أسستها أطراف مختلفة، وأخرى تعمل كأذرع لدول مثل تركيا، التي أسست مجموعات كان هدفها الأساسي مواجهة وجود الشعب الكردي، خارج حدود تركيا،…

روني آل خليل   إن الواقع السوري المعقد الذي أفرزته سنوات الحرب والصراعات الداخلية أظهر بشكل جلي أن هناك إشكاليات بنيوية عميقة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد. سوريا ليست مجرد دولة ذات حدود جغرافية مرسومة؛ بل هي نسيج متشابك من الهويات القومية والدينية والطائفية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل للأسف إلى وقود للصراع بسبب…

خالد حسو الواقع الجميل الذي نفتخر به جميعًا هو أن سوريا تشكّلت وتطوّرت عبر تاريخها بأيدٍ مشتركة ومساهمات متنوعة، لتصبح أشبه ببستان يزدهر بألوانه وأريجه. هذه الأرض جمعت الكرد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والأيزيديين والآشوريين والسريان وغيرهم، ليبنوا معًا وطنًا غنيًا بتنوعه الثقافي والديني والإنساني. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب من العقلاء والأوفياء تعزيز المساواة الحقيقية وصون كرامة…

إلى أبناء شعبنا الكُردي وجميع السوريين الأحرار، والقوى الوطنية والديمقراطية في الداخل والخارج، من منطلق مسؤولياتنا تجاه شعبنا الكُردي، وفي ظل التحولات التي تشهدها سوريا على كافة الأصعدة، نعلن بكل فخر عن تحولنا من إطار المجتمع المدني إلى إطار سياسي تحت اسم “التجمع الوطني لبناء عفرين”. لقد عملنا سابقاً ضمن المجتمع المدني لدعم صمود أهلنا في وجه المعاناة الإنسانية والاجتماعية…