د. محمود عباس
تفصل مسافات لا أخلاقية، بين الضمير المتكلم الفاسد، سلطة بشار الأسد والبعض من المعارضة السورية ضمن محادثات جنيف، والضمير الغائب المستبد الذي تمثله القوى الكبرى، والضمير الحاضر والحائر المنسي حيث الشعوب السورية. وما بين لقاءات الأولين تنتهك القيم والأعراض، ويذبح الطفل على قارعة الطريق، وتحت أنقاض المدن تموت الذكريات والأحلام، وتنتحب الأم السورية، ويتهالك الكهل المهجر عنوة أمام الأسلاك الشائكة بين الدول، حيث الحراس الذين ينتظرون بحسرة على ما سيفعلونه بالكتل البشرية المرمية أمامهم في العراء.
الملايين المهجرة من السوريين، لم تعد تسأل ما يجري في قاعات جنيف، وما سيتمخض عنها من نتائج، مقتنعة بأنه نفاق وصراع حثالات على سلطة وسيادة، وتجار حروب، والألاف من الشهداء لم يكونوا سوى سلع يعرضونهم ضمن الصفقات التي يتحاورون عليهم، فمثلما يتاجر بهم أردوغان في القاعات الأوروبية، ويحصل على المليارات من اليورو، كذلك تستخدمهم السلطة وقسم من المعارضة السورية السياسية والعسكرية، كورقة ضغط على البعض، يلوحون بأعداد الشهداء، والجموح المهاجرة، والحشود المشردة داخل وخارج سوريا، والبعض المأمول بالحصول على ميزة من الدول الأوروبية دون الإسلامية.
وهناك في زاوية ما وضمن قاعات الحوارات المنفصلة في مدينة جنيف، لماهية داعش حضور وتأثير، يتحدثون عنه وله دون ذكر أسمه، والكل يلوحه في وجه الأخر، فمثلما لا تغيب تركيا وإيران والسعودية كأشباح متسلطة على مجريات الحوارات، كذلك لا تغيب داعش، الأداة الحادة بيد الجميع، وضد الجميع. والحوارات، تحت الشروط المعروضة والمرفوضة سلفا من جميع الأطراف، وبسبب الظروف المتواجدة على الأرض السورية، من العسكرية إلى الإنسانية، ليست سوى مسالك ملتوية لن تؤدي إلى أي هدف، تدور على ذاتها، وفي حلقة أسمها الزمن الضائع، تستميت عليه سلطة بشار الأسد لإطالته وتمديده، مستغلة الهدوء النسبي في بعض المناطق، للاستيلاء على بعض المحاور تحت حجة محاربة داعش، وأقسام من المعارضة بدورها تتلهف على نصر ما لبلوغ السلطة، بدون الأسد، ليس كمطلب للثورة بقدر ما هي رغبة الاختلاء بالحكم، وهي تعلم أن الثورة تبدأ بمحاكمة المجرمين والطغاة وعلى رأسهم بشار الأسد وليس طردهم.
وفوق غيمة كل هذه الحوارات، والصراع الدائر على الأرض السورية، يخيم شبح معارضة الداخل العسكرية، المنظمات الإسلامية التكفيرية، والتي ستضطر إلى البحث عن مصادر دعم عسكري، للعودة على مجابهة تبجح سلطة بشار الأسد، وتلكؤ المباحثات، والتي تكاد أن تصل إلى الطريق المسدود، إذا لم تنزل عليهم الوحي الروسي والأمريكي، وفي خضم هذه التداخلات، من جنيف إلى المعارك التي لم تقف بحجة أو أخرى، من محاربة داعش إلى خدع سلطة بشار للاستيلاء على أراض تتخلى عنها لهم داعش، إلى حقيقة أن سلطة بشار الأسد بلغت ما كانت ترغبه، هيمنة أداتها داعش على الأجواء بدون منازع، والهدوء في الداخل والتمدد على أسسها، واستمرار المباحثات في جنيف إلى ما لا نهاية لها بدون نتيجة، وبشكل عام أصبحت الحوارات بين جان كيري وسيرغي لافروف تدور حول داعش أكثر مما هي حول مصير سوريا، والسلطة والمعارضة.
فداعش المنظمة، المتكونة من كل الأطياف البشرية، من العاهرات والشباب المبتذل، والمجرمين، والحثالات البشرية، إلى المؤمنين بالإسلام التكفيري والفكر السلفي والصادقين مع تربيتهم الدينية والتعاليم التي لقنوا بها، ومن قيادات دينية وسياسية مختارة بدقة، إلى جنرالات وخبراء عسكريين وقادة البعث العراقي والسوري السني، لتسيير الأمور العسكرية، والتنظيم، والتلقين الفكري، وحبك المؤامرات والعلاقات السرية مع القوى الإقليمية والدولية، حيث الخدمات المتبادلة، ومن منظمة تخطط لإقامة الكيان السني السلفي العروبي إلى تنفيذ الأجندات الملقاة على عاتقها من قبل القوى المتنوعة. إلى درجة أصبحت كالعاهرة التي تقدم الخدمات لكل من يدفع لها على عتبة الطريق.
منظمة ليست بذاك التعقيد في داخلها، بقدر ما أضفي عليها من هالة الرعب، وشكلت الضبابية حول ما يوجد ضمنها، والعتمة التي أحيطت بها. لها غايات وعليها واجبات وأجندات، وفي مجملها، ليست بذاك العمق الفكري، بحيث لا يمكن القضاء عليها، من قبل المراكز الإسلامية المعروفة كالأزهر والمجمع الإسلامي العالمي، ومراكز دولة أرض الوحي، وغيرهم، ولا بالقوة العسكرية، بحيث استطاعت إن تحتل مساحة جغرافية مسطحة بإمكان رؤية فأر يتحرك على بعد كيلومترات، ولا تتمكن القوى العالمية من القضاء عليها! لكن الذين يستفيدون منها هم نفسهم الذين يحاربونها، لذلك فهي مستمرة وستبقى هناك، وستحتل الجغرافيات المطلوبة منها احتلالها، إلى أن تبلغ تلك القوى بل وكل القوى المتصارعة في المنطقة على نتيجة ملائمة. وستبقى ظاهرة داعش على الساحة بالقوة المطلوبة، وستجلب انتباه الإعلام الخارجي وستظل مستمرة في نشر فجورها على شبكتها الانترنيتية الخاصة وسيسمحون لها بذلك، وسيدعمونها بطريقة أو أخرى، بقدر ما يحتاجون لظهورها، وسيحافظون عليها إلى أن تنجز خدماتهم.
أمريكا لا تريدها منتهية، مادامت لا ترى حلا للقوى التكفيرية الأخرى في المنطقة والعالم، ولا تريد بالمقابل تطبيق تصريحاتها الإعلامية (إزاحة بشار الأسد) ما دام لا يوجد لديهم بديل عنه، والكل المعارض ليسوا بالسوية التي يمكن الاعتماد عليهم أو يكونوا مركز ثقة، وإجمالا معظمهم دون سوية أن يكونوا البديل في نظر أمريكا وأوروبا، وبالتأكيد روسيا. وتركيا لا تنوي قطع المساعدات عن داعش، مادام الكرد يمثلون قوة على حدودها الجنوبية، وبشار الأسد موجودا في السلطة، والمعارضة لا تزال غير راضخة لها بشكل تام، لتسيير ما تسنده على داعش في محاربة الكرد، وبالتالي تحصل من وجودها على موارد اقتصادية. والسلطة السورية ستبقى تدعمها بالأسلحة وتبادل المناطق بمعارك وهمية، مادامت القوى العالمية تساند المعارضة السورية المسلحة، وداعش أفضل مثال لها لتبرزها أمام الدول الكبرى، كمثال عن المعارضة، وكأحد الأوجه البديلة لها في السلطة، أو المشابهة لها النصرة وأحرار الشام وغيرهم. ولا شك للسعودية دور وأجندات وللقوى الأخرى فوائد وطموح. نعم إنها العاهرة بين مجموعة من الأشرار.
إزالتها ليست بتلك الصعوبة، وليست بتلك القوة التي تحاربها كل هذه القوى، ولا تتمكن من القضاء عليها، بل الحقيقة، بأنه حتى اللحظة لا توجد نية صادقة للقضاء عليها، وكل ما حصل ويجري مناوشات في مناطق الثغور، وتصفيات فردية أو لمجموعات تتجاوز مهماتها. والبشرية في معظمها على قناعة بأن ما حصل في الموصل وتسليم الرقة لها، وقتل الألاف من الإيزيديين وسبي النساء، وتجنيد الأطفال، والإجرام البشع بهم، وبالمسيحيين في العراق وسوريا، وتهديدها للإقليم الكردستاني وتدميرها لكوباني، كان مخططا لها ودعمت من قبل قوى إقليمية، وكانت تعطى لها الأسلحة بالمقادير المطلوبة والأعمال التي يجب أن تنجزها ولا تتجاوزها. وراء كل هذا وقفت وتقف سلطتي تركيا وسوريا، وحكومة المالكي وإيران والسعودية، وهنا وجه الغرابة والخباثة، كيف يمكن لهذه القوى المتصارعة في الشرق الأوسط أن تستخدم نفس المنظمة وبطرق متنوعة، والكل يساعدوها عسكريا وماديا ويهاجمونها في الإعلام، ويظهرون بأنهم يحاربونها!
وكذلك أمريكا وروسيا، والتي صرح وزيرا خارجيتهما، قبل أسبوعين، بأنهما على أبواب أتفاق، بضرب كل البواخر والقوافل التي تحمل السلاح إلى داخل سوريا، لكنهما تراجعا عنها إلى مرحلة قادمة، لأنهما لا زالوا مشغولين باستمرارية مباحثات جنيف، وتطويل الفترة الزمنية في الصراع داخل سوريا، ليس لأن المعارضة والسلطة لا يتفقان، بل لأن المباحثات لا تزال مستمرة بين أمريكا وروسيا ولم يبلغان بعد الاتفاقية على قضايا أبعد من القضية السورية ووضع نهاية لداعش، ولم تكن النهاية الفاشلة للمؤتمر النفطي الأخير في الدوحة، حول سقف الإنتاج النفطي اعتباطيا، فهي تندرج ضمن المباحثات الجارية بين روسيا وأمريكا حتى ولو كانت السعودية هي التي تدير دفة الفشل وإنجاح المباحثات النفطية.
أمريكا وروسيا، مفتاح كل الحلول، فشل أو نجاح مباحثات جنيف بيدهم، مثلما بقاء بشار الأسد وإزاحته أو محاكمته، هم سيقررون، مثلما سيحددون فترة نهاية داعش، وعلى جميع القوى أن تتحرك وتتعارك، وتكافح، بقدر ما يريدون، وإلا فسيخرجون من الساحة، وسيهملون، تحت منطق عدم القدرة على البقاء أمام القوى الأخرى، وبقدر العمل والحنكة في تقديم الخدمات وإثبات الذات سيتلقون الدعم والمساندة، فجدلية الصراع بيدهم، وكل ما يظهر من خارجها انعكاس على خلافاتهم، وهنا تأتي قضية تقسيم المنطقة، أو لا مركزية الدول، وحقوق الشعوب المحتلة من قبل السلطات الاستبدادية كسوريا وتركيا وإيران.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
18/4/2016