د. محمود عباس
كان الأولى بالسيد سلامة كيلة التركيز على القضايا المصيرية في المنطقة والعالم، والتي يبحث فيها بمقالاته القيمة وكتبه، ومنها تلك التي تهدم مسيرة الثورة السورية، أو تدعمها، والتي كنا نظن بأنه يؤيدها عن عمق معرفة، ويؤيد شعارها الأهم وهو إسقاط النظام بكل مجالاته وتشعباته، ويعي نتائج هدمه أو تشذيبه، ويدرك معنى استغلال الشعوب أو سلب حرياتها، وإسقاط الأنظمة الثقافية والسياسية والاقتصادية، وتهذيب الثقافة التي شوهتها السلطات العروبية والإسلام العروبي، لكن في لحظة غير متوقعة سقط عن مكانته، متماهياً إما بوعي أو لا شعورياً مع الفكر الطافح بالإسلام السياسي، تحت تأثير النزعة العروبية، والتي هي في سوية كاتبنا الفلسطيني جريمة ثقافية، بحق الذات ومتابعي كتاباته.
فمثل هذه المطبات والأخطاء الفكرية تدفع أي كاتب مهما ثقل وزنه إلى الانزلاق بالتدرج إلى النهج الراديكالي في الإسلام، والعنصرية العروبية، اللذين حرفا الثورة السورية، وأولدا المنظمات الإرهابية، والمعارضة السورية المشوهة، وحافظت على سلطة بشار الأسد حتى اليوم، وهي نفسها المفاهيم التي حرفت المثقف العربي الوطني واليساري عن مسيرته النقية ووجهته إلى الانغماس في مواخير العنصرية العروبية، وأول روائحها ونتائجها كراهية الأخر.
فالبحث في قضايا تاريخية، دون معرفة مسبقة وعميقة بديمغرافية شعوب المنطقة وبينهم الكرد، سذاجة، وتناول الجغرافية السياسية المتكونة في بداية القرن الماضي، بتلك البساطة، ذاك الوليد المشوه والمولود بعملية قيصرية والمسمى اليوم بالجمهورية (العربية) السورية حصراً، وإسقاط الأحكام، تنم عن ضحالة فكرية، فبالإمكان التعمق في الأرشيف والعودة به إلى بدايات ظهور الموجات الأولى من القبائل العربية في المنطقة، ولربما أبعد إلى حيث بدايات ظهور القبائل الأولى للفلسطينيين، وتسمياتهم الأولية، فالاستناد إلى هذا النمط التحليلي الفكري، في حل قضايا الشعوب كالشعب الفلسطيني أو الكردي تعكس تقصد السطحية في فهم الأمور السياسية، وجهالة بطريقة التناسي للعديد من المجالات المعرفية. فكان الأفضل للسيد سلامة كيلة النأي عن التلاعب بهذا النار، والتي أحرقته كباحث وشوهت مفاهيمه، رغم التلاعب الذي مارسه في مقالته وطريقة عرضه وتحليله للأمور، ولغاية ما.
فجغرافية غربي كردستان، تبحث ليست كقطعة جغرافية ضمن سوريا، كانت لها وجود سياسي تاريخي! فاقتحمها الكرد بهجراتهم المتأخرة، بل تنظر إليها على أنها جغرافية قطعت من الأصل الكردستاني، وشكلت معها وبها جغرافية سياسية مشوهة، حكمها طغاة منذ اليوم الأول، وهي سوريا اليوم، المرفوضة حينها من جميع شرائح المجتمع، الذين أغلق عليهم بحدود سياسية مصطنعة. وما طرحه كاتبنا من أراء والطريقة التي عرض بها لا تختلف عن الثقافة المشوهة التي خلقت العشرات من أمثال زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وأكرم الحوراني وحافظ الأسد، والذين يعرفون بالنازية العروبية.
يمكن تبرير هذه الآراء الشاذة، إذا عرضت من قبل بعض الشخصيات المعارضة السورية، المتشبعة بثقافة البعث، والخارجة من أحضان سلطة الأسدين، لكنها لا تبرر لكاتب فلسطيني معروف في مقام ووزن السيد (سلامة كيلة) وأول ما يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ماذا سيكون رد فعله، لو طرح الكردي فكرة عدم أحقية الفلسطيني بطرد أحفاد النبي سليمان وموسى عن أرض الميعاد؟ وأن إسرائيل أفضل دولة ديمقراطية في الشرق، وهي تحفظ حقوق الشعب الفلسطيني وتسمح لهم بفتح الجامعات والدراسة بلغتهم، والاشتراك في الانتخابات وطرح القضية الفلسطينية ضمن الكنيست؟ فلماذا لا يسكت الفلسطيني ويناضل في هذه الأجواء الديمقراطية أو يعيش ضمنها بسلام؟ فهل سيتمكن سلامة كيلة الجرأة بطلب مثل هذه الحقوق من السلطات التي تحتل غربي كردستان أو أرض الأمازيغ، أو القبطيين؟ ولنسأل أيضا: هل قدمت السلطات العروبية الاستعمارية للشعوب المحتلة وفي مقدمتهم الكرد أو كرد غربي كردستان، والأمازيغ والبربر والقبط، والسريان وغيرهم، مثل ما قدمته إسرائيل للفلسطينيين، ورفضوها؟ لا أظن، ولا شك سيجد المثقفون العروبيون تبريرات وتحليلات ذاتية للرد على هذه الأسئلة، لكنها لن تعكس الواقع، ورؤية الآخر، وستبقى الأجوبة غارقة في الأحقاد، والخلفية الثقافية العنصرية. ولا ننسى حقيقة قد تكون مرة، وهي أن اليهود أقرب إلى العرب من الفلسطينيين إلى العرب، والتاريخ بكل مجالاته يشهد عليه، وليت السيد سلامة كيلة تعمق في هذا المنحى الدراسي، وقارن بين تاريخ الشعب الكردي والفلسطيني بنزاهة الباحث وليس بعنصرية عروبية، أومن المنطق الفلسطيني، أو الذين شوهوا التاريخ الكردي قدر الإمكان، وليته حاول التعمق في خلفيات غربي كردستان السياسية والديمغرافية والشعب الكردي ضمنها، أو ضمن سوريا كما يحلو له، ولغيره من المعارضة السورية العروبية التركيز عليها، وعدم تناسي عمليات التعريب والاستعراب والتهجير والاستيطان، والتي عملت عليها السلطات العروبية وعلى مدى قرن وأكثر بدون توقف، والمسكوت عليها دوليا وإقليميا.
هشاشة الإيمان بأحقية الشعوب بحق تقرير المصير، أو حتى بنظام فيدرالي، مثلما يريده الكرد لسوريا القادمة، وبنظام لا مركزي، تعدم في الذات الثقة بحقوقه، أو القناعة الداخلية بأحقية مطالبته بالحرية لشعبه، وهذه تنجر على الكاتب وأغلبية شخصيات المعارضة السورية، فالشعوب في عمقها لا تختلف في الحقوق، بل السلطات الاستبدادية تخلق الاختلافات، لتستمر في طغيانها، فالكرد من الحالات الاستثنائية بين شعوب المنطقة، لا يعانون من استعمار الشعوب بقدر ما يعانون من استعمار السلطات الدكتاتورية، الدافعة بشعوبها ومثقفيها وكتابها لمعاداة الشعب الكردي.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
24/3/2016