عدنان بدرالدين
إشكالية الهوية
إنطلقت الحركة الأوجلانية في نهاية سبعينات القرن المنصرم كحركة قومية نموذجية ذات توجهات ماركسية – لينينية واضحة. وضع أوجلان وتلامذته “تحرير وتوحيد كردستان” كهدف إستراتيجي للحزب الذي حمل إسم حزب العمال الكردستاني في دلالة واضحة على توجهاته العقائدية، كما أن كردستان المحررة في خيال قادة الحزب كانت بالضرورة “إشتراكية”. كل من طالب بأقل من من ذلك وصف من جانبهم ب”اللاثورية” المعبرة عن “نزعات إقطاعية متخلفة، أو برجوازية صغيرة متذبذبة”. خلاصة القول أن هوية الحزب كانت، بغض النظر عن الموقف منها، واضحة وبسيطة، لعبت إلى جانب ميزته العملية والبراغماتية دورا كبيرا في سرعة إنتشاره لاحقا في أوساط إجتماعية واسعة نسبيا.
هوية الحزب الأوجلاني الكردية واليسارية إستمرت حتى إعتقال زعيمه في نهاية التسعينات من القرن المنصرم، حينما بدأ السيد عبدالله أوجلان من سجنه “مراجعات فكرية عميقة” تمخضت عن طرح مجموعة من الأفكار إلتقت كلها على نبذ مبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي، والمعاداة الصريحة لفكرة الدولة الكردية تحت أي ظرف. تكلم أوجلان في البداية عن – الجمهورية الديمقراطية – التي كان مؤسس تركيا – مصطفى كمال آتاتورك – بصدد إقامتها لولا تآمر “عملاء الغرب” وعلى رأسهم – عصمت إينونو – الذين نجحوا في “عزل آتاتورك” وإجهاض الفكرة التي كانت ستحل القضية الكردية على أساس الحكم الذاتي. ثم طرح لاحقا، هو وأنصاره، سلسلة طويلة من الأفكار منها “الكونفدرالية الديمقراطية”، و “منظومة المجتمع الديمقراطي”، و “نظام الكومونات”، وأخيرا “الفدرالية الديمقراطية” التي أعلنها تلامذته في سورية والتي ليست إلا نوعا من الهروب إلى الأمام، وقفزة في الهواء. لكن الواقع أن كل هذه “الحلول” ترمز إلى إخفاق الحزب في تحقيق برنامجه الإستقلالي بعد إخراجه من سورية، وتحويل هدفه من تحرير كردستان وتوحيدها إلى مشاركة الأنظمة القائمة في التحكم بمصير الشعب الكردي.
تطرح الحركة الأوجلانية نفسها حاليا كحركة أممية عابرة للحدود والإثنيات، نافية أن تكون حركة قومية كردية صرفة، رغم أن “المشاركة الأممية” فيها هي من الضآلة بدرجة يمكن إهمالها. “الفدرالية الديمقراطية لروزآفا – وشمال سورية” التي أعلنها الرفاق مؤخرا جوبهت، وللمفارقة، برفض أممي عارم. فقد عارضتها الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الإتحادية اللتين يفترض أنهما حليفتان للحركة، كما عارضتها جامعة الدول العربية، والنظام السوري، والمعارضة السورية الرسمية، وتركيا أردوغان لأسباب مفهومة، وهيئة التنسيق التي كانت الحركة الأوجلانية عضوا فعالا فيها إلى أمد قصير، وتحالف العشائر العربية في الجزيرة، والمنظمة الآثورية الديمقراطية، لابل حتى السيد هيثم مناع حليفهم في قوات سورية الديمقراطية. وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن غالبية شعب كردستان الغربية يعارض الفدرالية الأوجلانية المقترحة، ليس لأنه يعارض فكرة الفدرالية كمبدأ حيث أن العكس هو الصحيح، وإنما لكونها أعلنت من طرف واحد، وليس لها أي مضمون قومي، فإنه يصبح من الصعب تصديق مزاعم أخوتنا الأوجلانيين عن أن الفدرالية العتيدة هي حالة ديمقراطية فريدة لمنظومة سياسية لتعايش مكونات البلاد، ونموذجا يحتذى به لحل القضية الكردية ولسورية المستقبل.
إذا كانت الفدرالية المقترحة هي حالة سورية عامة، كما يقول أصحابها، فليس من المنطقي إذن أن يقررها مائتا شخص غير منتخبين، جمعوا على عجل في بلدة رميلان. مثل هذا القرار يجب أن يقرره الشعب السوري عبر مؤسساته الديمقراطية المنتخبة ليصار إلى تثبيته في دستور البلاد الدائم بعد أن تصادق عليه جمعية تأسيسة تؤطر لإقامة عقد سياسي جديد بين مكونات سورية المستقبل على أنقاض الدولة المركزية ذات الطابع الشمولي الصارم. الفدرالية الحالية لايمكن أن تكون موضوعا للقانون الدولي، كونها تعد بموجب القانون ذاته، شأن داخلي سوري بإمتياز، ولهذا فإن الحديث عن أي إعتراف دولي بها يصبح أمرا عبثيا. الأمر كان سيكون مختلفا، لو أن الفدرالية كانت ذات طابع قومي، مؤيدة بإجماع كردي، ومستوفية للمعايير اللازمة ذات الصلة. حينذاك كان من الوارد مقارنتها، إلى حد ما، بفدرالية كردستان العراق بما في ذلك إمكانية الإعتراف بها في المستقبل. لكن الحالتين مختلفتين تماما وذلك لعدة أسباب:
أولا: شكل قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 بتاريخ 4 نيسان 1991 ، وإعلان القسم الأكبر من أراضي كردستان العراق منطقة حظر طيران من جانب أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وماتبع ذلك من سحب نظام صدام لكافة مؤسساته الإدارية والعسكرية والأمنية، شكل غطاء دوليا للخطوات الإستقلالية الكردية اللاحقة التي توجت بالإعلان عن الفدرالية من طرف البرلمان الكردستاني المنتخب في 4 تشرين الأول من عام 1992 .
ثانيا: عراقيا، جاء إعلان الفدرالية كتتويج لمنجزات مهمة حققتها الحركة الكردية عبر عقود من النضال العنيد مثل نص الدستور العراقي في أعقاب ثورة تموز على أن “العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية”، وإتفاقية الحكم الذاتي بين الحكومة المركزية والثورة الكردية، حتى أن الحكم الذاتي الذي أعلنه نظام صدام في 1974 من طرف واحد كان يقضي بإقامة مؤسسات إدارية وتشريعية لإقليم كردستان.
ثالثا: إستطاعت الحركة السياسية الكردية في كردستان العراق من أن تنظم صفوفها وتوحد قواها لملأ الفراغ الذي أحدثه إنسحاب مؤسسات النظام المفاجئ من كردستان. وقادت العملية الجبهة الكردستانية التي كانت تأسست في عام 1988 . وقد ضمت الجبهة كل القوى الكردستانية الرئيسية العاملة آنذاك: الحزب الديمقراطي الكردستاني، والإتحاد الوطني الكردستاني، وحزب الشعب الذي كان يتزعمه الراحل سامي عبدالرحمن، وحزب – باسوك – ، والحزب الإشتراكي الكردستاني، وحزب كادحي كردستان بالإضافة إلى تنظيم الحزب الشيوعي العراقي في كردستان. وقد تم في خطوة أثارت الكثير من الجدل، إعتبرها شخصيا حضارية، إعلان عفو عام عن الكرد الذين تعاونوا مع النظام البعثي، الأمر الذي وفرإجماعا فريدا من نوعه في التاريخ الكردي كان شعب كردستان العراق بأمس الحاجة إليه حينذاك.
رابعا: إستطاعت الحركة السياسة الكردية في كردستان العراق من خلال القيام بحملة دبلوماسية نشطة وذكية من تثبيت الحقوق الكردية المشروعة إقليميا ودوليا وعلى الخصوص في أوساط المعارضة العراقية آنذاك. وقد لعب كل من الرئيس مسعود بارزاني، والرئيس جلال الطالباني دورا مهما في هذا المجال. وكانت إجتماعات واشنطن في عامي 1992 و 1993 ، ومؤتمرا صلاح الدين عامي 1992 و 2003، ومؤتمر المعارضة العراقية في لندن عام 2002 خطوات مهمة للغاية على طريق تثبيت وترسيخ الفدرالية الكردية العتيدة.
من الواضح أن كردستان الغربية متأخرة كثيرا عن كردستان العراق في هذا المضمار، حتى أن إجراء أية مقارنة، من أي نوع كانت، غير ممكنة. ليس لحركتنا في كردستان الغربية أية إنجازات يعتد بها، ولازالت مطالبنا القومية تواجه بإنكار من جانب النظام والمعارضة على حد سواء. من الصعب الكلام أساسا عن وجود دبلوماسية كردية لدينا بالمعنى الحقيقي للكلمة، ناهيك عن حالة الإستقطاب الشديدة بين المجلس الوطني الكردي ومجلس غربي كردستان، وكارثة الهجرة التي باتت تشكل تهديدا وجوديا لشعبنا بالمعنى الحرفي للكلمة.
للبحث صلة