تناسخ الأصنام

أحمد اسماعيل اسماعيل

حين حطم أتباع الدين الجديد في
بلاد العرب الأصنام في الكعبة ومكة قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، بقصد إلغاء تجسيد
الإلوهية في الأرض، وإعادتها إلى السماء والله، مالكها الوحيد، والشرعي، لم يدرْ
بخلد أحدهم أن ما نفخ الناس في هذه الأصنام من أرواح ستنتقل في عملية أشبه بالتناسخ
إلى أجساد أخرى، بشرية هذه المرة، لتمارس سلطة أكثر قوة وتأثيراً من تلك الأحجار
التي كانت في داخلها، وذلك عبر أتباع وأشياع يملكون من الوسائل ما لم تكن تملكه تلك
الهياكل والأشكال قديماً.
المفارقة هنا تكمن في أن عبادة الأصنام قديماً ارتبطت بحالة الجهل والرهبة من
المجهول، وبالبعد عن الحضارة وغياب الفكر، بعكس العصور التالية، التي أصبح للفكر
 فيها دور راح يتغلغل في كل مفاصل الحياة البشرية وينيرها، وأخذ المفكرون والفلاسفة
المتكاثرون يعرضون كل شيء للبحث والدرس والتأمل، دون أن يؤثر ذلك على وجود الأصنام
الجديدة أو حتى مشروعيتها، عدا بعض ما ذهب إليه قلِة منهم في ما كتبوه من أدب أو
فكر، بشكل مغلف بالرمز والإيهام كما فعل ابن المقفع حين ترجم كتاب كليلة ودمنة، وفي
مغامرته كتابة رسالة إلى الصحابة، مما أثار غضب الأصنام والانتقام بأسلوب يدلل على
طبيعة قلوبها التي قُدت من صخر..
فكان من الطبيعي، والحال هذه، أن تنتشر بعدها
ثقافة النقل والإيمان التي أصبح الفكر فيها زندقة، والفكرة عورة لا يجوز لها أن
تخرج مجردة من رداء العاطفة الفضفاض، بل من حجاب ونقاب ثقافة النقل، لتكبر هذه
الكرة في تدحرجها على دروب تحرسها عيون العسس، وسيوف أشباح مرعبة، حتى أصبح الرداء
في أزمان تالية ثقافة، ثقافة فيها رداء الفكرة والمشروع يتقدم في أهميته الفكرة
ذاتها، كما هو الحال بالنسبة للزي أصبح علامة كبرى على هوية صاحبه، ومواقفه الفكرية
والدينية والسياسية. 
ثقافة لا أحد يحق له أن يظل عارياً فيها ولا تتم معاقبته
سوى الأصنام، عري لا يشبه في شيء عري إمبراطور أندرسن الذي فضخه طفل بريء، بل يؤكد
تميز أصحابها وتجاوزهم لشرطهم الإنساني، في تماثل لشخصيات أسطورية من طراز  أخيل
وهرقل وجلجامش وأبطال الملاحم الشعبية في تجسيدهم لقيم البطولة والتسامح والشهامة
والوطنية والمعرفة ..وحتى الخلود.   
فهذا الزعيم منقذ وطنه وقاهر الوحش المتربص
بالوطن، وذاك القائد رسول الحرية والعدالة، فارتبطت حياة الأوطان وسلامتها
واستقرارها بحياة ووجود هذا الصنم أو ذاك، وسيكون كل معارض له، وكاشف عن عريه أو
حقيقة ما جبل عليه، بمثابة خيانة زندقة وتخلف حضاري وكفر وانحطاط أخلاقي..في تكفير
عصري مماثل، من حيث الجوهر والهدف، لمن كان يتقلب على دين آبائه في زمن مضى، والذي
أحياه السلفيون المتشددون وانتهجوه بحدِّ السيف.
إذا كان وجود الأصنام في
تجلياتها الأخيرة في المجتمعات المتخلفة، والمتمثلة برجال الدين، قابل للفهم،
لأسباب شتى، منها ما يتعلق ببؤس تلك المجتمعات التي تسود فيها الخرافات وتزداد
الأوهام حتى تسللت إلى كل مفاصل الحياة، حتى بات من الصعب فرز ما هو ديني عما هو
خرافي، فإن ظهورها وترسيخ وجودها في الحقل الوطني والقومي، يفتح باب الأسئلة
مُشرّعة على الأسباب والمآلات، لما يشكله هذا الجانب من أهمية ومركزية في صياغة
ثقافة الناس، خاصة إذا علمنا أن القومية، لا غيرها من نظريات وأيديولوجيات.. هي
القطب الشريك للدين في صياغة ضمائر الناس وخياراتهم الكبرى في حياة المجتمعات
العربية، وحتى المجتمعات الشرقية، كما يؤكد المفكر السعودي عبدالله الغذامي
نجد
أفضل تجل لهذه الحالة في فترة الخمسينات ونهاية الستينيات، والتي تجسدت في شخصية
الزعيم جمال عبد الناصر أكثر من غيره، وما أحيط بها من هالات لا تختلف عن تلك التي
كانت تُحاط بأصحاب الطرق الصوفية من رجال الدين. وذلك من خلال تجسيده للمشروع
القومي العربي. والذي لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما تحطم جزء كبير منه، المشروع
وصاحبه، إن لم يكن كلّه، في نكسة حزيران 1967، فانتقل هو، بكامل عظمته، إلى ذمة
التاريخ وأرشيفه، وبقيت الثقافة القديمة الجديدة التي أنتجته تتجدد في شخصيات
سياسية أخرى جاءت بعده، تتصدرها شخصية الرئيس العراقي صدام حسين. البطل القومي
والمحرر ورمز المقاومة لدى شرائح واسعة من أبناء الشعب العربي في أكثر من بلد عربي،
والذي تنادى الناس بعد موته، المثير للجدل، والمشاعر المذهبية والقومية، لرؤية
صورته مطبوعة على وجه القمر. والذي هوى بدوره في التاسع من نيسان، تمثالاً وصنماً،
لتتساقط بعده أصنام أخرى حاولت هذه الثقافة إضفاء هالات مماثلة عليها، فلم تحقق ما
تحقق لهذين القائدين لأسباب يطول شرحها.                
من الإنصاف القول أن
هذه الثقافة لم يقتصر وجودها على المجتمع العربي في أقطاره المختلفة، بل تكاد تشمل
غالبية شعوب شرقنا المتوسط، الفرس حالياً والترك والكُرد.. وفي أصقاع أخرى منها
كوريا في الجزء الشمالي منها.
بل أنها كانت حتى الأمس القريب منتشرة في أكثر من
بلد أوربي، ومتجسدة في شخصيات وأصنام ملأت الدنيا وشغلت الناس أمثال: معبود ألمانيا
النازية أدولف هتلر وأبو الشعوب السوفيتية جوزيف ستالين وبدرجة أقل موسوليني
وفرانكو, غير أن ما حدث تالياً لهذه المجتمعات بعد تحطم تلك الأصنام من تغيرات
وتحولات هائلة في حياتها، إيجابية، تجعل أمر حدوث ذلك في شرقنا المتوسط.: بعد تحطم
الأصنام، والجارية اليوم، على قدم وساق، وبأيادي دعاة الحرية المضرجة بالدم، أمراً
وارداً.
كاتب مسرحي من سوريا 

مجلة الجديد اللندنية/العدد الحادي عشر
//.


شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

عبد الرحمن الراشد كثيرٌ ظهرَ وقيلَ عن سجونِ بشارِ الأسد. هناكَ نحوُ مائتي ألفِ سجينٍ ومختفٍ، لكنَّ الحقيقةَ هو أنَّه لم يكنْ من بدأ العنفَ سياسةً للسيطرة، بل ورثَ الفكرةَ والوظيفةَ والمؤسساتِ من والدِه. فقد اعتمدَ الأبُ، حافظُ الأسد، على علاقةٍ استراتيجيةٍ مع الاتحاد السوفياتي، ساعدتْه، مع ألمانيا الشرقية، ونقلتْ إليه تقنيةَ القمعِ الممنهج. ليسَ صدفةً أنَّ نظامَ الأسدِ الحديديَّ…

زاكروس عثمان ما كاد الكورد ينتشون بهروب الرئيس السوري السابق بشار الاسد وسقوط نظام حكمه الدكتاتوري، حتى صدموا سريعا بمواقف و تصريحات مسؤولي مختلف اطراف ما كانت تسمى بالمعارضة السورية والتي غالبيتها بشكل او آخر تتبنى الموقف التركي من قضية كوردستان ڕۆژئاڤا و هو الرفض والانكار. السوريون من الدلف إلى المزراب: اذ بعد هيمنة هيئة تحرير الشام على…

شكري بكر لو أردنا أن نخوض نقاشًا مستفيضًا حول الواقع السياسي لحزب العمال الكوردستاني، يمكننا إعطاء صورة حقيقية لكل ما قام ويقوم به الحزب. سنجد أن الأمور معقدة للغاية، ومتورطة في مجموعة من الملفات الدولية والإقليمية والكوردستانية. يمكن تقريب الصورة عبر معركتي كوباني وشنكال، حيث يتضح أن “كل واحد يعمل بأصله”، دون الدخول في تفاصيل وقوع المعركة في مدينة كوباني…

في اللقاء الأول بعد سقوط الاستبداد ، والأخير للعام الجاري ، للجان تنسيق مشروع حراك ” بزاف ” لاعادة بناء الحركة الكردية السورية ، تم تناول التطورات السورية ، وماتوصلت اليها اللجان مع الأطراف المعنية حول المؤتمر الكردي السوري الجامع ، والواردة في الاستخلاصات التالية : أولا – تتقدم لجان تنسيق مشروع حراك ” بزاف ” بالتهاني القلبية الحارة…