هل الإسلام دينٌ للعرب – الجزء الثاني

د. محمود عباس
   بعيدا عن الصراع حول منبع الإسلام، هل هو
إلهي أو من عبقرية محمد، وهل القرآن كلام الله من اللوح المحفوظ أم مفاهيم بشرية،
تظل التناقضات العقائدية أعمق من أن تغطى بالتبريرات العديدة ما بين الآيات المحرضة
على القتل، والمتلائمة مع غرائز القبائل العربية الجاهلية، والآيات التي تدعوا إلى
التعامل الإنساني، ومبادئ السلام، وكأن البشرية أمام إسلام غير الإسلام المديني
الذي عرفه العرب واقتنعوا به وآمنوا بآياته، إلى جانب ما قام به قادة قريش من
التلاعب والتحويرات للعديد من المفاهيم الإسلامية وتسخيرها لسيادتهم، وتركيزهم على
الإسلام العنفي أو الإسلام المسيس قريشياً، ليظهر متلائماً وطموحاتهم في السيادة
على القبائل العربية الجاهلية، والتي على بنيته يستمر السؤال مطروحا، وفارضا ذاته
من جوانب أخرى: فيما إذا كان الإسلام للبشرية عامة، أم هو دينٌ للعرب فقط؟ فدراسته
من جميع أبعاده، يزيد من التشعب في علم الكلام، والصراعات الفكرية، ويصاعد في كثيره
نزعة خلق التلاؤم بين الإسلام والثقافات الحضارية الجارية.
  تقبلت القبائل العربية الإسلام، بالعنف تارة وبالتبشير تارة أخرى، دون أن يستوعب
الكثيرون منهم ماهيته، ومعظمهم لم يتعمقوا في مفاهيمه الباطنية، فهمت الأغلبية منهم
غاياته الملائمة لعاداتهم وتقاليدهم، أو تلك المبادئ التي وجدوها ترسخها أو تشذب
وتزجي بعضها الآخر، ولم يجدوا فيه ما تحرضهم على تركها أو معاداتها إلا في قليله.
فالقبائل العربية فهمت كل كلمة تجسيدية وردت في القرآن، مثلما كانوا يفهمون
شعرائهم، ومجازياتهم، وصورهم الشعرية، وما يرمون إليه، قلة من النخبة توقفت على
الماورائيات التي وردت في بعض الآيات، وخاصة تلك الروحانيات التي استسقيت من
اليهودية أو الزرادشتية، أو الديانات والطوائف التي كانت تنتشر في المكة والمدينة
من الشعوب المجاورة لهم، دون أن تبلغ سوية ما كانت تطرح في تلك الأديان  من
الميتافيزيقيات، ومفاهيمهم ورؤيتهم في الإله، وقصصهم عن تاريخ الحضارات والأديان
التي سبقتهم  والفلسفات التي كانت منتشرة في الحضارات المجاورة، مع ذلك كان من
الصعب تبني الماورائيات في القرآن، ومن السهل للمسلمين من القبائل العربية تطبيق
الآيات الملائمة لحياتهم اليومية وعاداتهم في الواقع العملي، وتهميش الآيات ذات
الأبعاد الروحية، فكانت من نتيجتها غلبة العنف على مفاهيم السلام في الإسلام، وهو
ما أدى إلى ظهور متتالي وعلى طول التاريخ الإسلامي منظمات وشرائح تحرض على القتل،
وتستخدم العنف والقتل وتغنم الشعوب تحت غطاء نشر الإسلام، وهذه
المنظمات تعكس الواقع العربي في شبه الجزيرة العربية في بدايات الإسلام.
     تمكن محمد وبزمن قصير من جمع القبائل العربية، تحت غطاء لغة واحدة، والتأثير فيهم
لتغيير الكثير من مفاهيمهم، وتقاليدهم الشاذة، وبالمقابل نظم، الحياة الاقتصادية،
كخلق الزكاة بين العرب، علما أن هذه العلاقة الاقتصادية كانت على درجات متطورة عند
الشعوب المجاورة، وكانت مدعومة بوجود العملة، كما وطور في العديد من الطقوس الدينية
التي كانت محصورة في مكة بين قريش وبعض القبائل المجاورة، كزيارة الكعبة في كل سنة،
وطقوسها كالصفا والمروة والرجم وغيرها، والتي تعاد إلى حيث أسماعيل، ودين إبراهيم،
وهي قصص بين الأسطورة والتاريخ المشكوك، وهي أساطير لا علاقة بالشعوب المجاورة بها،
مرتبطة بقريش حصرا، وضم محمد إليها جميع القبائل العربية، وفرضها بطرق ومفاهيم
جديدة، وعلى أبعادها خلق عصبية مشتركة بين الإسلام والعرب فشد رغبة جميع القبائل
العربية إليها، ولذلك غير من القبلة اليهودية المسيحية والذي كان الإسلام تحت
تأثيرهما في البدايات إلى التوجه نحو كعبة قريش تيمننا بالعصبية العربية، وهذا
الرباط لم ينفصل عن بعضه على مدى عصر الخلافات العربية، وأنتشت في بدايات القرن
الماضي لتنبثق ثانية في هذه الفترة الزمنية، وتخلق النهج الراديكالي الإسلامي
التكفيري، والذي أصبح يعرف بالإرهابي عالميا، تماشيا مع المنظمات الإرهابية الدينية
والمدنية العديدة التي سبقتهم.
   لاشك كان الإسلام ثورة بأبعاده الزمنية
والفكرية في شبه الجزيرة العربية، بعكس الشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام إما رغبة
أو عنفا، ودون أن تفهم القرآن واللغة العربية، وأرضخت عنوة لتتبع السلطة السياسية
الإسلامية القريشية أو العروبية، وفرزوا كموالي على مدى قرون من الزمن، أي كانوا
ومازالوا من الطبقة الثانية في الإسلام، علما أن معظم الشعوب المجتاحة حينها في
الواقع الفعلي، أعلى سوية من حيث البعد الثقافي الروحي من سويات الثورة الإسلامية،
فما كان موجودا حينها في الحضارتين المجاورتين، الفارسية والبيزنطية، والمنتشرة بين
الشعوب المعايشة حضارة، ثقافة ومدنية، أعمق من حيث المعلومات، والمعارف المطروحة في
القرآن، والقبائل العربية الجاهلية وقريش بشكل عام، كانوا دون المعارف المتداولة
بين الشعوب المجاورة حينذاك، والتي كانت تسكن الحضارة أو كانت تحمل تراكمات مفاهيم
ومعلومات حضارات سابقة، ولهذا لم تكن بإمكان الإسلام أن تقدم لشعوب الحضارتين أكثر
مما كانوا يملكونه ثقافة وفكراً ومعلومات. والأديان في بنيتها ثورات ثقافية للشعوب
التي تحتاج إلى التغيير في بنيتها وتقييمها.
  استمرت الثورة الإسلامية قرونا،
تشذب عادات القبائل العربية الجاهلية، وأساليب معيشتهم، إلى أن تمكن في بعضه، نقلهم
من الأسلوب الرعوي والغزو في الحياة إلى أسلوب العلاقات الاقتصادية الزراعية، على
سبيل المثال، وبالمقابل اعتبرت حركة تراجعية، بالنسبة للشعوب التي اجتاحوها، فغلبت
عليهم السلبيات، وأدت إلى تراجع سوياتهم في معظم المجالات، الاقتصادية والفكرية
والثقافية، بل وفي البناء والعمران، والبنية التحتية، وقضت على الكثير من منابع
الثقافة في الحضارتين المجاورتين، وما ظهر فيما بعد من الثقافات كانت بسبب عودة
الحياة ثانية للمراكز الثقافية الحضارية التي دمرت في اجتياحات القبائل العربية
الإسلامية الأولى، وكثيرا ما أدت هذه اليقظة إلى ظهور صراعات دموية بينهم وبين
القبائل العربية المسيطرة عسكرياً، والتي كانت لا تزال تعيش حياة الرعي والغزو.
  وعندما بدأ البعض من الشعوب المستعمرة في فهم أجزاء من القرآن، دون مجازياتها
اللغوية، أي على بنية اللغات التي ترجمت إليها، بدأت تظهر الخلافات المذهبية، فقد
كانت الشعوب تأولها لتتلاءم وثقافاتها، وخلفياتها المدنية والحضارية، ومعلوماتها عن
الأديان والإله والفلسفات الروحية، فكلما كانوا يتعمقون في فهم معاني القرآن كان
تسهل لهم تلك التأويلات، وعليه توسعت الشروخ بينهم وبين العرب، أو إسلامهم وإسلام
شبه الجزيرة العربية، وعلى بنية فهمهم للدين ومبادئه، والتفسيرات المختلفة للقرآن،
توسعت الهوة بين المذاهب، والتي كان في عمقه صراع بين الثقافة الحضارية
والرعوية.
  بعكس الفترات الأولى من الإسلام، والتي كانت الصراعات في معظمه بين
قادة قريش ذاتهم وعلى السلطة، والتي على بنيتها ظهر علم الكلام ومفهومي، القدريين
والجبريين، وكان في عمقه تفسيرات لترسيخ السلطة الوراثية الحاكمة، والعلاقات
الإقطاعية، كان الصراع في الفترات اللاحقة بين الشعوب المجتاحة وقادة قريش
وقبائلهم، صراع بين شعوب دون الثورة الإسلامية تقبلتها واحتضنتها وساعدتهم في
السيادة على الأخرين، وشعوب تتجاوزهم والمفاهيم الدينية ثقافة ووعيا،
ومعرفة…

 

يتبع…

 

د.
محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
12-7-2015

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…