شاوشكا: بقعة ضوء قامشلاوية، محرَّرة من التحزب

 ابراهيم محمود
  

يبدو أن الماضي لمَّا يزل يشد المستقبل إليه،
تأكيداً على أن العمل في عهدة ما كان ماض ٍ، وهو معزَّز بأهميته ودلالته، سوى أن
الاسم هذه المرة، ومن قبل مجموعة ذات إرادة شبابية ثقافية، أُريدَ له أن يكون
معرَّفاً بما هو أنثوي، لعله تاريخي، أو ميثولوجي، أو المزيج بينهما، ربما
نظير” سوبارتو ”  وخلاف المتوجه
طيَّه في الطرف الغربي من قامشلو،  والاسم
” شاوشكا “!

شاوشكا، معرَّف بها بأنها إلهة الخصوبة
والحرب والشفاء وربما الحب، كما هي آلهات الحب في الأدبيات القديمة: عشتار، إيزيس،
أفروديت…الخ،  وهذا التنوع في حمْل
الألقاب تعبير عن تنوع مهام حاملة الاسم، كما هي الأرض التي تضم إليها الموت
والحياة، الحرب والسلام، الجدب والخصوبة، العتمة والنور.

اعتماد الاسم في هذي السنين الكارثية سورياً وبأكثر من معنى، وبمفهومه الأنثوي،
لعله رد فعل مدروساً أو بوعي عميق على تلك الممارسات المعتمدة والتي تترجم وجوه عنف
مدمّرة هنا وهناك، عنف يحمل بصمة الذكورة ذات الصيت السيء في التاريخ، وكأن المرأة
بقابليتها لأن تمثّل الحياة بكامل عمقها وبلاغة المعنى فيها، هي: الملاذ الأضمن
لحياة قيد الفناء.
شاوشكا إلهة الحرب، الخصوبة، الشفاء، الحب : الحورية
ونظيراتها، تنظر من عل إلى الجاري، وتحمل كما هي الأرض أبناءها حاضنة إياهم خائفة
عليهم، وثيقة ولادة مشدَّد على رصيدها القيمي والجمالي ، من قبل الذين آثروا أن
يكونوا خلصاء لها: اسماً وكثافة معان، بعيداً عن الافتئات في المكان والزمان، أو في
المجتمع المتعدد بلغاته وأصواته، من خلال الموشور الثقافي الذي ينير ولا يضير أحداً
” دون استثناء ” لأن يكون فرداً من أفراد جمعيته، مداره الرمزي المفتوح، وهو يسهم
في كل ما من شأنه تعميق أثر الاسم، أو: إبقاء الاسم كما هو ثراؤه: خصوبته، انفجار
وجوهه الربيعية، البلسم المركَّب لجروح قائمة ومرئية خارجاً !
عناوين لكتب،
وللرواية شأن لافت في أنشطتها الدورية كجمعية أو شبيهتها، ربما لأنها تنتمي إلى
فعالية الاسم، إلى المضمون العميق له، فناً لا يجارى، وأن لا شيء يقاوم سلبيات
الحياة، ومغذياتها العنفية كما هو راهنها، مثل المتضمّن العلاجي الروحي في
شاوشكا.
ذلك ما يمكن استشرافه تالياً وعالياً وسامياً باقتدار في سياق مجابهة
فيض الشعارات وتداخلها، وهي تمارس تقسيماً وتلغيماً لوحدة المدينة وأهليها وأكثر،
وقبل أن يأتي الطوفان الجارف، كما يعلِمنا الفن بذلك في الرواية وخلافها من أشقائها
وشقيقاتها فنياً .
حضور شبابي وأكثر، لكن المشهد يفصح عن إرادة تطلُّع إلى
الحياة كما هي الوجهة الأكثر عنفوانية لشاوشكا، ولقد نعمتُ بحضور نشاط لها، حين
زيارتي إلى قامشلو بين 27 أيلول، و17 تشرين الأول 2015، وكان اللقاء حول المائدة
الفضائية المفتوحة لرواية  المغربية مليكة أوفقير ” السجينة ” ذات الباعث الحياتي
المفخَم بالثراء الدلالي، وسط وجوه مشرئبة إلى الحياة وصحبتها، كما لو أنها تقاوم
في نفسها وبنفسها، ومعاً، الرغبة المعاكسة للحياة، بتبني الرغبة الصاعدة إليها،
تيمناً بالاسم وشرف المثار والقارّ في محتواه ، أبعد مما هو كردي ضيق دلالةً
!
كان ذلك مشهداً يحمل طابعاً من الاستثنائية ضداً على المتداول والمفعَّل بأكثر
من معنى محبط للروح، خلَل وجوه تتناظر كما تتكاثر بإراداتها مشكلة إرادة واحدة، وهي
أنها ليست كالآخرين وبؤس الموقَّع بأسمائهم، معنية بفعل الخصوبة بالمعنى الأعمق
للكلمة.
اللافت، أن ما عاينته جهة مكان اللقاء، كان ضمن مبنى لم ينجز كساؤه،
وتحديداً ضمن شقة أرضية، مميَّزة بباب خارجي حصراً، والجدران عارية، دون شبابيك،
سوى من أعين كهربائية عادية بأصفرها الدال على بؤس المكان، سوى أن المعزّز هو المشع
في صميم كل مرتبط بـ” شاوشكا “، وهو ما يزيد في بهاء المكان، فلا تعود الجدران
بعارية، ولا الأرضية بحصوية، ولا الشبابيك بغائبة، إنما ما يضفي على المكان عموماً
زهو الطموح، والتصميم على استيلاد ثقافة تنفتح على عالم ينبت ورداً وليس باروداً،
وينعش روحاً وليس إزهاقه، ويتعدى سقفاً غير مطلي، صعداً نحو سماء يحدد كل مشارك أو
حاضر في اللقاء نجمه بينما قدماه مثبتتان في الأرض بطمأنينة مستوحاة من الرائعة
شاوشكا.
تحية إلى الشاوشكاويين بالجمع والمفرد، إناثاً، ذكوراُ، وإلى البناء
المصان بشاوشكا  ذات الألف عين وعين، وبهاء شاوشكا، وكل لقاء وأنتم بشاوشكا أخصب
وأرحب وأعذب و…أطرب !
دهوك – في 26 تشرين الأول 2015 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

أحمد خليف* بعد انتهاء حقبة بيت الأسد، تلوح في الأفق تحديات جديدة، حيث تواجه الإدارة السورية الجديدة انتقادات وأسئلة مشروعة من رجال الأعمال والمستثمرين السوريين، حول مدى التزامها بالشفافية في منح المشاريع والمناقصات، في وقت تنتظر فيه البلاد إعادة الإعمار والانطلاق نحو المستقبل. يبدو أن غياب الإعلان الرسمي عن بعض المناقصات والمشاريع، وتوجيهها بطرق غير واضحة، يُثير مخاوف…

أزاد خليل* على مدى عقود من حكم آل الأسد، عاشت سوريا غيابًا تامًا لعقد اجتماعي حقيقي يعبر عن إرادة شعبها، ويؤسس لنظام حكم ينسجم مع تنوعها الثقافي والعرقي والديني. كان النظام قائمًا على قبضة أمنية محكمة وممارسات استبدادية استباحت مؤسسات الدولة لخدمة مصالح ضيقة. واليوم، مع نهاية هذه المرحلة السوداء من تاريخ سوريا، تبرز الحاجة إلى التفكير في نظام…

د. محمود عباس أحيي الإخوة الكورد الذين يواجهون الأصوات العروبية والتركية عبر القنوات العربية المتعددة وفي الجلسات الحوارية، سواءً على صفحات التواصل الاجتماعي أو في الصالات الثقافية، ويُسكتون الأصوات التي تنكر الحقوق القومية للكورد من جهة، أو تلك التي تدّعي زورًا المطالبة بالمساواة والوطنية من جهة أخرى، متخفية خلف قناع النفاق. وأثمن قدرتهم على هدم ادعاءات المتلاعبين بالمفاهيم، التي تهدف…

إبراهيم اليوسف منذ بدايات تأسيس سوريا، غدا الكرد والعرب شركاء في الوطن، الدين، والثقافة، رغم أن الكرد من الشعوب العريقة التي يدين أبناؤها بديانات متعددة، آخرها الإسلام، وذلك بعد أن ابتلعت الخريطة الجديدة جزءاً من كردستان، بموجب مخطط سايكس بيكو، وأسسوا معًا نسيجًا اجتماعيًا غنيًا بالتنوع، كامتداد . في سوريا، لعب الكرد دورًا محوريًا في بناء الدولة الحديثة،…