الإيديولوجيات العقائدية تحكم على نفسها بالفناء

دلكش مرعي

 لقد أثبتت الفلسفة العلمية المعاصرة وبشكل
قاطع  بأن المعرفة على مختلف صعد الحياة  تسير في حلقات متتالية لكنها ليست دائرية
مغلقة فهي لا تنتهي من حيث بدأت بل تنتهي بقضايا واشاكاليات جديدة تحتاج إلى حلول
جديدة . فالوقائع هي ليست سرمدية الثبات وجامدة  فلو كانت كذلك لخيم الجمود وانعدم
التطور  ..
 اختصاراً ليست هناك سلطة أو فكرة كاملة الأوصاف وليس هناك
مصدر للحقيقة كاملة غير قابلة للخطأ  فحتى الحقائق العلمية والمعرفية تبقى نسبية
ولا يمكن وصفها بأنها هي الحقيقة الكلية  فقد أثبت التجارب والاختبارات العلمية
التي تعرض لها معظم النظريات العلمية أثبتت بأنها غير مكتملة وتوجد فيها العديد من
العيوب والسلبيات فيتم تصويبها وبعد كل تصويب تظهر وقائع أخرى محملة بالعيوب
والأخطاء وعبر التصويب المتتالي للفكرة ينتقل المعرفة من ارتقاء إلى ارتقاء ومن
مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى ويستمر صيرورة التطور والتقدم العلمي والمعرفي إلى مالا
نهاية بعكس الأيديولوجيات العقائدية إن كانت فلسفية أو دينية أو مذهبية فهي لا تقبل
التغير أو حتى الجدل فكل كلمة فيها هي مقدسة وأبدية.
وانطلاقا مما سبق يمكن القول بأن فرض إيديولوجية بالقوة على الشعوب واعتبارها
الصواب المطلق أو فرض هيمنة طبقة على طبقة بالقوة وكذلك قوميية على قومية وحزب على
بقية الأحزاب ودين على دين وطائفة على أخرى وغيرها من أنواع الهيمنة بالقوة كلها
تصب في مجرى الاستبداد والطغيان بل هي الاستبداد ذاتها .. وفكرة هيمنة طبقة أو
شريحة على أخرى هي ليست وليدة الساعة فقد ابتدعتها مخيلة أفلاطون في مشروع جمهوريته
الفاضلة أو لنقل جمهورية طبقة الأسياد فهو يقول في الحكومة التي ستحافظ على ثبات
تلك الجمهورية // إن المبدأ الأعظم بالنسبة إلى الجميع هو إن أي شخص سواء كان ذكراً
أوانثى لا ينبغي عليه أن يحيا بلا قائد ولا ينبغي لعقل أي شخص أن يعوده على فعل أي
شيئ على الأطلاق بمبادرته الخاصة  في إوار الحرب أو في غمار السلم عليه أن يوجه
ناظريه لقائده وحتى في أصغر المسائل شأواً عليه أن يمتثل لقيادته وألا يستيقظ أو
يتحرك أو يغتسل إلا بأمر القائد //  فرأي المحكومين من العامة وجدلهم  حسب رأيه يجب
أن تكون غير جديرة بالإعتبار او الاحترام // وحول الملكية يقول // إن كل الملكيات
هي ملكية عامة ويجب أن تكون هناك ملكية عامة إيضاً في النساء والأطفال فلا يجب أن
يتمكن أي من أعضاء الطبقة الحاكمة من تعيين هوية أطفالهم أو والديهم فيجب أن تتحطم
الأسرة وخاصة ضمن طبقة المحاربين إذ قد تصبح الولاءات الأسرية مصدراً محتملاً
للأنشقاق //  فالتغير لدى أفلاطون هو الشر والثبات هو المقدس // وكلنا يعلم بأن
ماركس بدل فكرة أفلاطون  من دكتاتورية طبقة الاسياد إلى حكم دكتاتورية الطبقة
العاملة وأستفاد من جدلية هيغل – ومن مادية فورباخ –  لسنا بصددها هنا
….  
فالفكر العقائدي إن كان فلسفة عقائدية أو دينية  تشبه من حيث الجوهر
تراتبية القبيلة المحكوم بمحرمات اجتماعية  تحدد عبرها مكان الفرد  في تراتبية
جامدة  فهو جزء عضوي منها ليس له كيان خارجها والقرار الأول والأخير لرئيس القبيلة
// فأنت مخلوق من أجل الكل وليس الكل من أجلك // أو تشبه المجتمع الديني المحكوم
بقوى ما ورائية تحكمه وتحدد مصيره وقدره … فالبنية الفكرية العقائدية لا تنتج إلا
الاستبداد والظلم والصراع والفساد وبسبب هذه الآفات انهارت معظم الإمبراطوريات
الدينية وانهارت منظومة الدول الاشتراكية التي كانت ترأسها الاتحاد السوفيتي السابق
– يتبع – 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس في لقائه الصحفي الأخير اليوم، وأثناء رده على سؤال أحد الصحفيين حول احتمالية سحب القوات الأمريكية من سوريا، كرر خطأ مشابهًا لأخطائه السابقة بشأن تاريخ الكورد والصراع الكوردي مع الأنظمة التركية. نأمل أن يقدّم له مستشاروه المعلومات الصحيحة عن تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وخاصة تاريخ الأتراك والصراع بين الكورد والأنظمة التركية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. للأسف، لا…

إبراهيم اليوسف ليست القيادة مجرد امتياز يُمنح لشخص بعينه أو سلطة تُمارَس لفرض إرادة معينة، بل هي جوهر ديناميكي يتحرك في صميم التحولات الكبرى للمجتمعات. القائد الحقيقي لا ينتمي إلى ذاته بقدر ما ينتمي إلى قضيته، إذ يضع رؤيته فوق مصالحه، ويتجاوز قيود طبقته أو مركزه، ليصبح انعكاساً لتطلعات أوسع وشمولية تتخطى حدوده الفردية. لقد سطر…

نارين عمر تدّعي المعارضة السّورية أنّها تشكّلت ضدّ النّظام السّابق في سوريا لأنّه كان يمارس القمع والظّلم والاضطهاد ضدّ الشّعوب السّورية، كما كان يمارس سياسة إنكار الحقوق المشروعة والاستئثار بالسّلطة وعدم الاعتراف بالتّعدد الحزبي والاجتماعي والثّقافي في الوطن. إذا أسقطنا كلّ ذلك وغيرها على هذه المعارضة نفسها – وأقصد العرب منهم على وجه الخصوص- سنجدها تتبع هذه السّياسة بل…

فوزي شيخو في ظل الظلم والإقصاء الذي عاشه الكورد في سوريا لعقود طويلة، ظهر عام 1957 كفصل جديد في نضال الشعب الكوردي. اجتمع الأبطال في ذلك الزمن لتأسيس حزبٍ كان هدفه مواجهة القهر والعنصرية، وليقولوا بصوتٍ واحد: “كوردستان سوريا”. كان ذلك النداء بداية مرحلةٍ جديدة من الكفاح من أجل الحرية والحقوق. واليوم، في هذا العصر الذي يصفه البعض بـ”الذهبي”، نجد…