الشؤم التي عثر عليها البوليس النمساوي، في يوم الأربعاء الأخير من آب الماضي،
مركونة على جانب أحد الطرقات الدولية شرقي بلدهم، شأن كل ما يهم بلدي: سوريا،
وشعبها، ضمن سلم الأولويات في حياتي، منذ أن بت كما سواي لا أفلح في التفكير أبعد
مما بات يجري من تفاصيل يومية، تغرق ذاكراتنا، بالدم، ورائحة الموت، بأشكاله التي
عرفها السوريون: براً، وجواً وبحراً، لأتابع ما نشر عن تلك الشاحنة، وأحوال الواحد
والسبعين طالب لجوء في داخلها، بعد أن تم تسريب صورتها وعليها علامتها الفارقة:
“الدَّجاجة”، بما تحتويه من صورة يتيمة، لظهور ورؤوس آدميين موزعين، بلا ملامح،
وفق هندسة باتت لغزاً لما يفك بعد، لتصدم تلك الشاحنة الرأي العام العالمي، محركة
بعض الضمائر النائمة، قبل أن يأتي الطفل آلان عبدالله شنو ويوصل دورة الكهرباء، على
نطاق أوسع، وهو”يردد النفير على آخره”.
لم أكن أعلم، حتى تلك اللحظة أن نجلي صديقي الفنان التشكيلي خليل مصطفى من عداد من
شدوا الرِّحال ليسافرا صوب أوربا، على أمل اللجوء في ألمانيا -تحديداً- بغرض إكمال
دراستيهما، لاسيما أن ابنه البكر -حسين- والذي أتذكر ظروف مرحلة ولادته كما أخوته
وأخواته الآخرين أحد المتفوقين في دراستهم في عالم الآثار، وقد دفع به الطموح
ليتابع دراسة الدبلوم، لتكون بوابته إلى الماجستير والدكتوراة، كي يغدو باحثاً
آثارياً، في هذا الزمن الرديء الذي تمحى فيه آثار بلده، بل سرقت آثار وطنه وسجلت
بأسماء الأغيار في ظل سرقة تاريخ، وجغرافيا ، موصوفين، من قبل قراصنة أممين أو
إقليميين، طارئين، أو بهلوانات مرتزقة محليين.
صورة حسين، كما أكثر أخوته وهم
أطفال لا تزال ماثلة في عيني، أتذكرهم واحداً واحداً وهم يتدرجون على دروب الحياة،
حيث أعد أحد المقربين منهم، بل أحد عمومتهم، وتنتظم علاقتي ببعضهم عبر المدرسة، كما
ستتوثق علاقاتهم بأبنائي في مرحلة الجامعة، لأعرف الكثير عن شؤونهم اليومية، يؤمن
لهم أبوهم رغم راتبه الضئيل الذي لا يكفي -في الأصل- لتأمين مستلزمات شخصين -فحسب-
كل ما يحتاجون إليه، من دون أن يتأفف، أو يتذمر، تعينه في ذلك تلك المرأة الجبارة،
المدبرة ، الأصيلة -أم حسين- حيث يغدو أبناؤه وبناته أمثلة في حسن الخلق، والنبل،
والشهامة.
وأبو حسين -صديقي- أكاد أعتبرني أحد أكثر من يفهمون سايكولوجياه،
مادام عمر العلاقة بيننا يبلغ أربعة عقود تماماً، إذ دأبنا أن نحترم خصوصيات
بعضنا-في ما سلف من زمن- لاسيما عندما سأختار خطاً فكرياً، ليكون له خطه المختلف،
رغم بعض الأرومة المشتركة بيننا في كلتا الحالين، يشير إليَ أبي ” أن حافظ عليه”
ويذكرني بذلك خليل، في المقابل “أبوك قال لي لا تتخل عن إبراهيم متى اختلفنا
قليلاً، لذلك فإنني سأغض النظر عن عنف لا يشبهه أنى واجهني به، في مفاجأة ما،
لأهدِّىء من روع كل من يريد أن يستكثر ما تم.
-أنا خير من يعرف أبا حسين،
فدعوه….!
أقولها، وأنا أستذكر ما بيننا من إرث مديد، أرى ضرورة صونه، بكل ما
لدي، وإن عبر التصامم عما يتم من جراء بعاد المسافات، أو جفوات الآراء، لاسيما
عندما أستعرض شريط مواقفه الحياتية إلى جانبي، إذ طالما اعتمدت عليه كأخ لم تلده
أمي، وهو ما يكفي لمحو ألف شائبة -إن وجدت- مادام أن في إمكان عبارة جميلة، كلمة
جميلة، محوها، رغم أن الاحتكام إلى أثر مآلات اللحظة – لأول وهلة- كاف ليجهز على
أية وشيجة، في ظل ثنائية: الفعل وردة الفعل اللذين باتا يظهران -تترى- في ظروف حالة
الحرب المعلنة على السوريين، وكان من الطبيعي أن تخرِّب حتى مابين أفرادالأسرة
الواحدة من وشائج، مهما تماتنت.
لم يغب خليل مصطفى عن بالي -كما إبراهيم محمود-
كما الشيخ عبد القادر الخزنوي- كما محمد زكي السيد: أبو سالار كما سيامند
ميرزو……كما غيرهم من أحباب كثر، لا يجدولهم حبر افتراضي، وهم رف من الأصدقاء
القدامى اللدودين الذين أحسست دائماً أن بيننا من القواسم المشتركة ما يكفي لدحر
وهزيمة أية نقاط اختلاف هنا أو هناك، حيث ظل رقم هاتف بيته محفوظاً في الذاكرة،
ألجأ إليه، في السراء والضراء.أحترم قناعاته، أحترم اختلافه، ، أحترم ما بيننا من
ملح وخبز، وأنا أستقرىء إيقاع مجريات الزمن من حولي، بما تتيحه لي باصرتي، في أصعب
لحظات دورته على الإطلاق.
ولعل الأشهر الأخيرة التي رمى بي نفاذ مدة جواز سفري
السوري، بعيداً عن البلد الذي اخترته لنفسي بعد أن ضاقت بي سبل العيش بين أهلي:
الإمارات، جعلتني أحس بأنني في جحيم قفص مكهرب، تأنفه روحي، وهي تتقلب متذوابة،
حول سفودها، رغم كل ما يجده اللائذون بهذا العنوان الثالث من رحابة صدر رسمية من
لدن أولي الأمر، وعوام الأهلين، ما جعلني في شغل عن نفسي، وعن كتابتي، تقتات روحي
على شحنات أرواح المخلصين الذين جمعتنا معابر الحياة هنا وهناك، لأقول: الدنيا لا
تزال بخير، أردُّ بها على أية صعقة غدر تتعرض لها روحي العارية من قبل هذا الغادر
أو ذاك، وإن كانا نفسيهما من سأسقط كل دفوعات النفس في حضرتهما، ذات لحظة، كما أفعل
مع سواي. إذ يحضر اسم المصطفى خليل، بكل ألق التاريخ المشترك، والتضحيات، وبما
يجعلني ملاماً أمام أي فصل عن الوصل، في حضرته، مادام أنه الأخ الأكبر، وموطن رجاء
وصية الأب. من هنا، لم تصلني أخبار استعداد ولديه للسفر، من هنا، لم أسمع بتدابير
رحلتهما، إلا بعد أن انقطعت أخبارهما، متزامنة مع شبح شاحنة الشؤم التي تسللت إلى
شاشات التلفزة، وصفحات الجرائد، وأفوه الناس في مجالسهم، متوزعة على لغات الأرضين،
في الأربعاء التالي لانطلاقة رحلتهما، أو أربعاء السفر نفسه، الأربعاء الذي طالما
تطير منه المتصوفة، خلال مجرد ساعات مكربنة، كي أعلم بنبأ غيابهما، وأبدأ بالبحث عن
أي بريق أمل يربطني بهما، أو يعيدهما إلى أهلهما، دافعاً بظلال التشاؤم بعيداً،
وأنا أنتظر هاتفاً منهما: ها نحن وصلنا يا عماه، كما هو حالي في انتظار صديقي كسرى
خلو الذي كتب إلي فيسبوكياً قبل بضع ساعات من غيابه، وتحديداً في آخر مساء الخامس
والعشرين من آب -عشية الأربعاء الأسود- سأكون في ألمانيا، غداً، وما زلت
أنتظره…؟؟!!
ثقيلة، كئيبة، كالحة، مريرة، مرت الأيام العشرون الماضية، ونحن
نتشبث بأي بريق أمل، يسلمنا اليوم للتالي، والأربعاء للأربعاء، حتى انقضت ثلاثة
أسابيع، بكمال مساميرها التي تواجه أرواحنا ومشيئاتنا العزلاء، وينعي أبو حسين على
صفحته الفيسبوكية النبأ الأليم، بعد أن قطع كل خيط أمل بعودة نجليه، ورفيقهما
المهندس مسعود يوسف، أحياء، وهو يقرع أجراس استنفاره بروح الأبوة، بل مدفوعاً بحنان
أم بريئة، أصيلة، لا تغني كل كنوز الكون عن إظفر ابن لها.، غدوا خارج الظفرالأمومي،
إلا من شريط ذكريات ملتهب كقلب موار بالحنو والآلام.
ثمة أسماء أخرى، عانت من
كربنة أوكسجين الشاحنة، كاتمة الأصوات، محكمة الإغلاق حتى ولو من سنتمترات قليلة،
التي ربما كان يقودها امرؤ مغفل، أو أرعن، تفوق حتى على السجان السوري في تكديس
الأجساد الآدمية، فوق بعضها بعضاً، وهو يواصل مهمته -من حيث النتيجة في أقل تقدير-
عبر إزهاق أرواح الأبرياء، دون اتخاذ أية تدابير حول سلامتهم، متغافلاً عن هاتيك
الأصوات المستغيثة، المختنقة، وطرقات أصابع الأوادم، المسردنين، في علبة مركبته،
وفق هندسة مجرمة، ربما لانصرافه لسماع صوت صبية مغناج في هاتفه، كأحد أوجه قراءة
مسببات هذه النكبة العظمى التي طالت أرواح الأبرياء، وهم في مظان الهواء النظيف،
والأمن الحياتي، كي يتحولوا خلال مجرد أنفاس مكربنة، إلى أجساد، هامدة، بلا حراك،
تاركين وراءهم حكايات أمهات وأخوات وحبيبات وأخوة صغار وآباء وأصدقاء وجيران لاتزال
عالقة في سماعات هواتفهم، وذاكرات واتساباتهم، وفايبراتهم، وبريد رسائلهم، أو أغشية
طبلات آذانهم، أو جدران أرواحهم، وهم ينتظرون نتائج تحاليل ال dna” “..!!!؟
.
غير مفيد البتة، أي كلام -هنا- عن الحرب، أو النظام القاتل، أو دواعي هجرة
شبابنا، أو فلتان مافيات التهريب الذين ينشطون دولياً: براً وجواً وبحراً، على مسمع
ومرأى من العالم، المتابع للشأن السوري، مشكلين ثرواتهم الباهظة من خلال الإتجار
بأرواح البشر، بعد أن غدت سوريا عبارة عن صفيح ملتهب يفوح منه، بلا توقف نشيش
الأرواح، المتلظية، وتوقفت الحياة التعليمية لدى أكثر من سبعين بالمئة من طلاب
مدارسها وجامعاتها، بل وانعدمت فيها سبل الحياة، في ظل الحصارات المتكاملة بين
أشكال عديدة للإرهاب، تنوس ما بين قطبي النظام وداعش، مادامت أغلى أرواح شبابنا
تزهق بكل أفانين الموت.
لا يمكنني نسيان وجه حسين متألقاً في مطالع عقده الثالث،
أو وجه رامان متماهياً في مطالع عقده الثاني، ولا جراحات كبدي أبويهما الملتاعين،
أو جراحات أفئدة أخوتهما وأخواتهما، وإن كنت سأجد صديقي خليل رابط الجأش، يرد علي
وأنا أهاتفه قائلاً : أنا أعزيك، أنت صاحب العزاء” عندما يلحظ ارتباكي وأنا أريد
مواساته، وأنى لي أن أفعل ذلك.بل لا يمكنني أن أنسى شجاعة نجله -بيمان- في منفاه
الكردستاني، وهو يمهد أمامي لتقبل الأمر الواقع، أمر يقين نكبته بشقيقيه، بعد أن
صارت بين يديه علائم تنذر بما هو واقع حقاً، وهو ليس بغريب عمن تربى في كنف هذه
الأسرة الطيبة التي أعرفها حق المعرفة، أسرة صديقي خليل مصطفى..!.