هل الغاية تبرر الوسيلة؟

محمد قاسم”ابن الجزيرة” 

كل
مؤمن بالقيم الايجابية يرفض هذه المقولة ، بل إن بعضهم يفسّر “نيقولا مكيافيللي”
صاحب كتاب “الأمير” ، بأنه لم يكن يقصد أن يعمّم هذه القيمة السلبية وهي” الغاية
تبرر الوسيلة”، بل كان يقتصر في مذهبه هذا على لحظة محددة في تاريخ بلاده، ففهمه
البعض كفلسفة معممة.
 إن الانسجام بين الوسائل والغايات من ضرورات سلوك الحياة
الايجابية، والتجاوز التدريجي للعثرات المحتملة فيها. وحتى إن لم نستطع التأثير
العملي في تعزيز القيم الايجابية فإن تعزيزها النظري قد يسهم في تأطير وبرمجة
الحالة الثقافية وفقا لها.
في حديث رواه مسلم: ((من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم
يستطع فقلبه وذلك أضعف الإيمان” هنا معنى يشير الى، تدرج ومرونة في مستويات
الاستطاعة عند الإنسان. قضية قد لا تثير انتباه أو اهتمام بعضهم ممن يحتاجون وعيا
أعمق للحياة، أو الذين استثارت فيهم الأيديولوجيا عنفوان التفكير المتسرع، أو
المشبوب بنار روح شمولية لا يدرك أبعادها، وإنما يخضع لها بتأثير جاذبية (انبهار)
أحسن أصحابها زخرفتها لزيادة التضليل. فينبهر بها بعضهم وتتشربها روحه
وعقله.
 أشار المرحوم الدكتور محمد سعيد البوطي الى هذه الخطورة في كتابه “أوهام
المادية الجدلية –الديالكتيك” -ص (14): ((…إن مبعث الخطورة فيه، أنه يجر كثيرا من
الناس، ذوي الثقافة المحدودة، بدافع نفسي مجرد، لا إلى الاقتناع به. بل إلى
الانبهار به ثم الاستسلام له… تلك هي الخطورة… خطورة انجذاب النفس إلى الشيء
بعيدا عن العقل ورقابته المنطقية الواعية!.. لا علاج لها، سوى إيقاظ العقل والفكر
إلى النظر والدراسة، بروية وموضوعية وعمق، دون خوف من المذهب على أنفسنا، ولا خوفا
منا عليه. بمعنى أن علينا أن نوطن أنفسنا على الانصياع للحق الذي يثبته المنطق
الصافي السليم)). 
إن مفهوم الديمقراطية يعني فيما يعنيه: فصل الممارسة السياسية
التي تقوم بها السلطات، ممثلة في أحزاب أو قيادات أو إدارات-الخ. عن مجريات الحياة
الاجتماعية والحياة الشخصية اليومية، ليقرر كل فرد-أو مجموعة-ما يلائمه بملء حريته
مادام ليس مخالفا للقوانين.
 لهذا اتجهت الثقافة في النظم الديمقراطية إلى تسهيل
ظروف إنشاء “منظمات المجتمع المدني” بمسميات مختلفة، لتسد الطريق أمام احتمال
(تغوّل السلطات على الشعب) لأي سبب. وان ما أظهرته التجارب اعتياد تدخل النظم
السياسية-الأيديولوجية في تفاصيل الحياة اليومية لغايات سياسية، وبأسلوب منهجي.
وتكون هذه التدخلات من اجل مصلحة الحاكم المستبد ونظامه فيها، وهي تسعى لبناء ثقافة
اجتماعية تتوافق مع ذلك، من تجلياتها، دفع الناس إلى تمجيد الزعيم والحمد باسمه
بمناسبة وبدون مناسبة، وحظر نقده، واستغلال مناسبات ذكرى مولده، أو ذكرى اعتلائه
العرش، أو أنشطة مختلفة قام بها لدفع الناس إلى الشوارع والساحات والاحتفالات
بأساليب مختلفة؛ وتجنيد مثقفي السلطة (المرتزقة) والذين رهنوا أنفسهم للتمجيد باسمه
بروح متملقة وأحيانا متدنية. وتنسب إليه ما لا يوجد فيه عبر مقالات وكتب وشعر
…الخ. 
ربما هؤلاء هم أسوأ مستويات المتملقين، لكونهم يعرفون بيقين، كذبهم
وسخفهم أيضا. وإذا حاولت السلطات في النظم ذات النهج الديمقراطي أن تفعل ذلك،
(تمارس ما يخالف القانون والدستور) فإنها مضطرة إلى عمل التفافي، فيه مشقة، لذا
قلما تلجا إليه، خشية محاسبة قادمة ولو بعد حين. هذا ما حصل لـ “نيكسون ” الرئيس
الأمريكي الأسبق، في قضية “ووترغيت” واضطرته إلى الاستقالة، وتعرض ” بل كلينتون”
الرئيس الأمريكي الأسبق وزوج “هيلاري كلينتون” (وزيرة الخارجية في الفترة الأولى
لحكم “باراك حسين اوباما” . لقد خضع عاما للمحاكمة والاستجواب وهو على رأس عمله
كرئيس. وحكم على “برلسكوني” رئيس وزراء ايطاليا السابق. وحكم على “أولمرت” رئيس
الوزراء الإسرائيلي السابق. وعلى ” ساركوزي ” الرئيس الفرنسي السابق بالحبس
الاحتياطي بتهمة استغلال النفوذ والسلطة عندما كان رئيسا …الخ. والأمثلة كثيرة.
بالمقابل، نتساءل: كم من المستبدين والدكتاتوريين في النظم الأيديولوجية تعرضوا
للمساءلة أو المحاسبة، إلا في حالات يتآمرون فيها للإطاحة يبعضهم بعضا عبر إخضاع
القضاء لسلطتهم السياسية –وهو واقع –كما حصل مع “بوتين” الرئيس الروسي الحالي، وكان
قبل ذلك رئيسا للوزراء و “مدفييف” رئيسا للجمهورية. ثم تبادلا المراكز بأسلوب خادع.
فأصبح بوتين رئيسا ومدفييف رئيسا للوزراء فيما وصفه البعض بـ “مسرحية رديئة”.
وعندما رغب ” بوتين” في التخلص من أحد منافسيه في الترشح للرئاسة سلط القضاء عليه
وسجنه حتى تمت له الرئاسة. ثم أمرا بإطلاق سراحه منّة. وهذه صورة أخرى للمسرحية
الهزلية السياسية في النظم المستبدة. 
إن الشعوب الحية والعظيمة تقدّر مزايا
وخصال وفضائل المتميّزين فيها، في أي جانب كان-ولاسيما أولئك الذين يحسنون تحريك
حيوية الوعي، والفاعلية، والإيمان بالقيم والمبادئ، وروح التحدي و”النضال ضد
الطبيعة” للتغلب على المعيقات من أجل الحياة السهلة والمريحة، أو “النضال” ضد الظلم
والاستعباد والاستعمار وكل أشكال الاضطهاد. وهذا جزء طبيعي في ثقافتها عادة، وينسجم
مع القيمة الإنسانية المتميزة لاسيما في ظروف الإنتاج والابداع. 
من أسباب نهضة
الأمم أنها:
 1- تجاهد لتحصيل المعرفة والفلسفة والعلم والخبرة …للتأسيس لوعي
يعين على الفهم والاستثمار العملي-تطبيق نتائج المعرفة والعلم على
الواقع(تكنولوجيا).
 2- تجاهد لإيجاد روح جامعة بين أبنائها حول قضايا مشتركة هي
لدى بعضهم عقيدة دينية، ولدى بعضهم عقيدة قومية، ولدى بعضهم عقيدة أيديولوجية ذات
توجه أممي، ولدى بعضهم روح الوطنية والمصلحة المشتركة فيها …الخ. والمهم أن يكون
الوعي قاعدتها وإطارها، والمرونة منهجها، إضافة لتحسين النوايا.
 3- تجاهد
للوصول إلى قوانين ناظمة للعلاقات بين أبناء الأمة الواحدة، بدءا بدستور كلي، ثم
قوانين مفصلة بحسب الحاجة لكل حالة وموقف… ومختلف وسائل الضبط الهادفة لتسيير
وتسهيل حياتها. وتكون ناتج تفاعل القوى المكونة للمجتمع بتمثيل حر ديمقراطي.
 4-
تجاهد لتشكيل قوى مدنية وعسكرية بحسب مستوى وعيها وقدرتها وخبرتها وتقدير الحاجة
اليها، لضمان سلامتها واستمرارها. والفصل بين السلطات الثلاثة، التشريعية والقضائية
والتنفيذية… وهي الحالة السائدة في الفكر والنظام الديمقراطي. وتعالج مشكلاتها
باستمرار في سياق آليتها.
 5- إيجاد سلطة ديمقراطية. فيها تداول عبر انتخابات
نزيهة وعادلة توفر لها ثقافتها النظرية والعملية، الظروف الملائمة…
 6-
الاهتمام الجاد بكل ما يسهم في تطور الثقافة ومناهجها ومنعكساتها على الحياة. وربما
هذا البند يلخص او يكثف الفعالية المهمة اللازمة للمجتمع الحيوي والقابل للتطور
المضطرد. …. الخ. 
فهل يَسهُل توفر هذه العوامل والظروف ؟!. طبعا لا… بدليل
ما نقرؤه في تاريخ المجتمعات، وما جرى فيها من أحداث دموية، ومآسي لا تزال أصداؤها
ماثلة أمام مخيلتنا وذاكرتنا ومنها الحربان الكونيتان في مطلع ومنتصف القرن
العشرين. مع ذلك فقد تحقق مستوى طيب من الحياة الهانئة، في أوروبا والدول المتقدمة
في العالم كمثل مشجع على آمال مرجوة في تحقيق ذلك في عالم المستقبل).
 أما
الشعوب المتخلفة فتجترّ ما يفعله الآخرون دون تمثّل لما لديهم من عناصر الإلهام،
ودون القدرة على تطبيقها في الواقع بإتقان، -وبغض النظر عن مؤثرات خارجية كانت أم
داخلية. وإن الشعب الكوردي ليس بمنأى عن واقع الشعوب من التصنيف الثاني، بل هو في
صلبها. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…