«ب ي د» نجاح أم نكبة؟!

عبدالباقي يوسف

جذبت المسألة الكوردية اهتمام القوى
الدولية قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى، وفي مقدمة هذه القوى كانت المملكة
المتحدة البريطانية. وعدت هذه القوى الأحزاب والمنظمات الكوردية حينها بالمساندة في
إنشاء دولة كوردستان، وظهرت انعكاسات هذا الإهتمام في قرارات مؤتمر سيفر عام 1920،
تحديدا الفصل المعنون ب “كوردستان” وشمل المواد 62،63،64 والتي تقر بحق الكورد في
إنشاء دولتهم القومية. لكن تداعيات خروج روسيا من الحرب العالمية بعد نجاح الثورة
الشيوعية، وتحالفها مع الكماليين في تركيا وإنتصار الحركة الكمالية في الحرب ضد
اليونان تسبب في تبديل أولويات مصالح كل من بريطانيا وفرنسا والتي أدت بالنتيجة الى
تخليهم عن وعودهم للكرد في إنشاء كوردستان. 
بررت بريطاني حينها موقفها بعدم “توحد الموقف الكوردي”، حيث أن الكورد فعلا كانوا
في حينها منقسمين إلى تيارين مختلفين: تيار تمثل بالعشائر الكوردية مساندة الحركة
الكمالية وتيار تمثل بالأحزاب والمنظمات السياسية الكوردية التي ساندت دول الحلفاء،
فكانت النتيجة عقد مؤتمر لوزان1923 الذي أنهى كل ما حققه الكورد في مؤتمر سيفر
ما يشهده الشرق الاوسط منذ ما يقارب الثلاثة عقود من التوترات والحروب هي
ضغوط باتجاه إعادة ترسيم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة نحو بناء شرق أوسط جديد، تحظى
فيه المسألة الكوردية باهتمام أكبر، حيث أكدت الأحداث والوقائع أنه يصعب استتباب
الأمن في هذه الرقعة الجغرافية من دون إيجاد حل عادل للمسألة الكوردية، هذه القضية
التي تحظى الآن بإهتمام غربي كبير. فهل سيتمكن الكورد من توحيد صفوفهم قبل أن يفوت
اعدائهم عليهم الفرصة، وتعيد أمريكا ما قالته لهم بريطانيا قبل نحو
قرن؟!
المرحلة الحالية تذكرنا بمراحل سابقة من تاريخ الكورد، حيث تتكاثر وعود
الدول الإقليمية السخية ويعلو صوتها، ولكن كما يقول المثل “نسمع ضجيجا …. ولا نرى
طحيناً “، فهم يريدون اجتياز المرحلة بأقل التكاليف. فلغاية اللحظة لم تتقدم حكومة
أردوغان (بالرغم من وعودها الكثيرة) بخطوات جادة على طريق حل المسألة الكوردية
لديها، فالمدخل لحل أية قضية يبدأ قبل كل شيء بالإقرار بها، حتى اليوم لم تعترف
الحكومة التركية بالهوية القومية الكوردية. ورغم ذلك يحاول البعض من الكورد وصف
خطوات حزب العدالة والتنمية بالتغير الكبير والنية الصادقة لحل القضية الكوردية،
متجاهلين تداعيات المرحلة الحالية وعدم قدرة الحكومات التركية بالتعامل معها كما
فعلت في السابق.
في سوريا، ومن دون الخوض في تفاصيل ما حصل بين الحزب العمال
الكوردستاني والنظام السوري في آواخر القرن الماضي وتبعاتها في القرن الحالي، جاء
القدوم المفاجىء لحزب الإتحاد الديموقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكوردستاني في
إطار خطة إيرانية جديدة تقوم على تزويد مسلحي الحزب المذكور بالسلاح والعتاد
لإستلام إدارة هذه المناطق مقابل منع الكورد من القيام بالمظاهرات ضد النظام، عملية
التسيلم والإستلام هذه بين الإتحاد الديمقراطي وبين أجهزة النظام الأمنية لبعض
المناطق من كوردستان كانت قد أصبحت وما تزال موضع تساؤل لدى الشارع الكوردي في
سوريا .
أما حزب الاتحاد الديمقراطي(پ.ي.د) والذي يصر على إنكار وجود هذه
العلاقة، مدعيا استغلاله للظروف المرحلية في تحقيق مكتسبات كردية برر قمعه
للمظاهرات في المنطقة بحجة إبعادها عن الدمار الذي يمارسه النظام ضد معارضيه. إلا
أنه بالرغم من ذلك لم يتمكن من تحقيق الأمان في المنطقة الكوردية، فالأمن
والإستقرار لايقتصر فقط على تجنيب المنطقة من قصف طائرات النظام، بل يتطلب الأمر
قبل كل شيء ترتيب البيت الكوردي الداخلي لتحقيق المبدأ الأساسي لأمن المواطن
الكوردي.
لقد ضحى (پ.ي.د) بمئات بل بالآلاف من الشباب الكورد في معاركه لحماية
النظام، بينما لم يقدم النظام شيئاً بالمقابل، فحتى اللحظة لم يرفع الحظر عن اللغة
والثقافة الكوردية. رغم قناعاتنا المطلقة بعداء داعش للكورد إلا أنه لايمكن لأحد أن
ينكر العلاقات المريبة التي تربط النظام مع داعش وكذلك مع منظمات إرهابية أخرى في
المنطقة، فجميعهم يستهدفون الكورد، وما جرى في كوباني والعديد من المناطق الكوردية
الأخرى لايمكن استثنائها من سلسلة هذه العلاقات المريبة . 
فهجرة الكورد من
مناطقهم نحو الخارج يتحملها (پ.ي.د) بالدرجة الأولى، وقد حقق للنظام ما لم يستطع
تحقيقه على مدار أكثر من خمسين عام عن طريق سياسة الحزب الخاطئة (مثل التجنيد
الإجباري، والمثتثني منه أبناء المستوطنات العربية ) والتفرد بالقرارت وممارساته
القمعية حيال المختلفين معه إن كان عن قصد أو من دون قصد، وهنا لايمكن تبرأة المجلس
الوطني الكوردي من مسؤولية ما آلت اليها اوضاع الكورد في سوريا خاصة الهجرة نحو
الخارج، فالمجلس لم يقم بمهامه منذ البدايات وأوكلها الى الآخرين من الأحزاب
الكوردستانية، واليوم يتغرب عن ساحتة.
لا يمكن تفسير سلوك (پ.ي.د) المتفرد
بالقضية الكوردية في كردستان الغربية فقط بالعقيدة الإيديولوجية للحزب الأم
(پ.ك.ك)، هذه العقيدة التي تعود الى طبيعة نشوء اليسار التركي المتطرف الذي استرشد
بالإيديولوجية الماوية والعقيدة السياسية لنظام كيم إيل سونغ في كوريا الشمالية، بل
أيضا تعود الى طبيعة العلاقات الغامضة بين قنديل وإيران والنظام
السوري.
فالإتفاقيات التي جرت بين أحزاب المجلس الوطني الكوردي وحزب الإتحاد
الديمقراطي منذ بدء الثورة السورية مرورا بإتفاقية هولير الاولى والثانية
والإتفاقيات التي تلتها وصولا الى إتفاقية دهوك، وعدم إلتزام (پ.ي.د) بأي من هذه
الإتفاقيات (عدا عن عجز المجلس الكوردي) يوصلنا الى نتيجة وحيدة وهي أن هذا التنظيم
محكم بعلاقات غامضة تتسبب في عدم توحد صف الحركة السياسية الكوردية، وتجعل الحركة
تتوزع على محاور مختلفة، وبالتالي يضعف الموقف الكوردي. وهنا لايمكن غض النظر عن
بعض مقولات الخطاب السياسي ل(پ.ي.د) مثل “الأمة الديمقراطية”، “الشعوب
الديموقراطية”، رفضهم للدولة الكوردية، “كونفدرالية الشرق الأوسط” وغيرها من مفردات
لا وجود لها في القاموس السياسي، بل تثير الريبة و تبعث برسائل سلبية الى القوى
التي تساند الكورد، حيث تظهر زورِاً مدى تدني مستوى “الوعي بالذات” للطبقات الشعبية
الكوردية التي يسمح لها ب “فهم الفرصة التاريخية” لبناء دولتها. والتي كانت من إحدى
أسباب تخلي فرنسا عن الدولة الدرزية والعلوية في سوريا أيام الإنتداب حسب المؤرخ
الفرنسي جاك فولريس. 
رغم العداوات التاريخية والمستمرة بين إيران وتركيا إلا
انهما تعملان اليوم معاً لتجاوز المرحلة الحالية بأقل خسائر ممكنة. وهنا يبدو أنه
هناك مشروع إيراني يحظى برضا تركيا، ويبعد الخطر الكوردي عن حدودها مع سوريا. يبدو
أن المشروع يقوم على إخلاء المنطقة الكوردية من سكانها وتحويل الكورد الى أقلية
صغيرة مقارنة مع العرب الوافدين مستفيدين أو مستخدمين سياسيات (پ.ي.د) كأداة
تنفيذية، وبذلك يستكمل التعريب من خلال توفير المكان البديل لتوطين العرب السنة
الذين أزاحهم نظام دمشق في إطار توسيع المنطقة العلوية على حساب مساحات ستستقطع من
محافظة حمص وحماة، لتؤمن ترابطا جغرافيا بين القرى العلوية والشيعية في تلك المناطق
وضمها إلى المنطقة العلوية، وبذلك يحقق النظام مقومات إضافية لبناء الدولة العلوية
المنشودة في إطار التوافقات السياسية القادمة لحل الأزمة السورية. والسؤال هنا: هل
يجوز للحركة الكوردية الإستمرار في هذه الخلافات، وبالنتيجة المساهمة في تلاشي جزء
من كوردستان كما تلاشت كوردستان الحمراء علي يد ستالين؟!. هل يعقل أن تقوم إيران
بمساندة قنديل و (پ.ي.د) في حل قضية شعبها في سوريا وتركيا وهي التي تتنكر لحقوق
أكثر من 12 مليون كوردي في إيران؟! وهل يعقل أن تقف حكومة أنقرة إلى جانب المجلس
الوطني الكوردي وهي مصرة حتى اليوم على عدم الإعتراف بالهوية القومية الكردية لنحو
أكثر من 20 مليون كردي في تركيا؟َ!. 
أثبت (پ.ي.د) بأنه وحده لا يستطيع حماية
المنطقة الكوردية. أما استقرار المنطقة وبقاء سكانها فيها والتي ترتبط بشكل وثيق
بأمن المنطقة فهي أيضا لم تتحقق، وما هجرة الكورد من مناطقهم بإستمرار إلا تأكيد
على ذلك. فاليوم أصبح الكورد يشكلون في مناطقهم أقلية أمام قدوم موجات من النازخين
العرب في ظل حماية (پ ي د) وتقديم الإغاثة لهم أيضا، بينما يبتز بها الكورد الذين
لا يدورون في فلكهم، حيث إحتكر توزيع الإغاثة لنفسه.
عن صفحة الكاتب:
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…