عندما احرق كوسرت رسول جواز سفره البريطاني

عبدو خليل 
كان ذلك عام 2002  في مدينة السليمانية بكردستان العراق، كانت
محض مصادفة ، سألني احد الاصدقاء من أهالي السليمانية بعد جلسة نقاش حامية حول
الكرد وكردستان ومستقبل المنطقة، سألني، هل سبق وسمعت باسم كوسرت رسول، قلت له
بالتأكيد ولكني لا اعرف عنه الكثير، هز راسه صديقي وقال هل تحب زيارته غداً، بدا
علي التردد، خاصة وانني عائد الى سوريا بعد عدة ايام، والبعض حذرني قبل زيارتي،
قائلاً: اياك ان تلتقي بالسياسيين، ابقى في الشأن الثقافي، مدينة السليمانية هي
مرتع للمخابرات السورية والايرانية، والاخبار تصل بسرعة البرق.
كانت تلك وصية الاصدقاء الغيورين على سلامتي، حينها تذكرت كل أفرع الامن بحلب،
تذكرت تحديداً غرفة الانتظار في فرع الامن السياسي بحلب، وكيف تمر ساعات الانتظار
وكأن بغل عجوز بالكاد يجر عقرب ثوانيها، الثواني التي لا قيمة لها عندي، بحياتي لم
ادخل اختباراً للغطس تحت الماء او للركض، لكني اكتشفت جيداً قيمة الثواني في فرع
الامن السياسي بحلب. 
وما ان عرف صديقي اني متردد حيال دعوته لزيارة كوسرت رسول،
حتى قال لي سأسرد لك قصة عن كوسرت بعدها قرر، ورحت أصغي اليه بصمت، قال:
 كان
ذلك بداية ثمانينات القرن الماضي، اشتدت المعارك بين قوات البيشمركة والطاغية صدام
حسين، واخذت القوات العراقية المدججة بالعتاد والسلاح الثقيل والطائرات باقتحام
القصبات التي كان تتخذها البيشمركة كنقاط رباط لانطلاق عملياتها ضد تمركزات قوات
الطاغية، بعد عدة اشهر اضطرت قوات البيشمركة للتراجع والانسحاب صوب جبال كردستان
العصية بعدما استشهد منهم الكثير، كان شتاء كردستان القاسي في اوج غضبه، ومع شح
الذخيرة والمؤنة، تفرق شمل العديد منهم ولم يبقى سوى القليل، كان الاحباط واليأس
سيد الموقف، وفي احدى الليالي بينما كان يجلس كوسرت مع من تبقى من رجاله المتحلقين
حول نار هادئة، قام وابتعد قليلاً ليقضي حاجة ما، وعند عودته سمع البعض يتحدث بصوت
خفيض، بدا له وكأنهم يخبؤون عنه شيئا ما، أقترب بهدوء حتى اتضح الصوت، وراح يصغي
السمع، كان احد عناصره يقول: كل القيادة معها جوازات سفر بريطانية، بعد كم يوم الكل
يسافر، ونبقى نحن هنا حتى يقتلنا البرد او تفترسنا الضباع، وزاد البعض منهم ان ليس
امامهم غير التوجه الى ايران، فما كان من كوسرت سوى ان عاد بهدوء وبقي واقفاً، مد
يديه فوق النار وفركهما ببعض، وقال كأن هذه النار لا تدفئكم ونظر في وجوه البعض
منهم، اعاد مد يديه عدة مرات ومررها بين النار، وكرر عبارته ساخراً من النار التي
تعجز عن بث الدفء في يديه، كانت عيونهم تكلم بعضها البعض، مستغربين تكرراه للجملة،
ثم مد يده لجيب معطفه الخشن، أخرج جواز سفره البريطاني لوح به للجميع ثم رماه في
النار بهدوء، اعاد مد يديه وقال بفرح، الان نستطيع القول بأننا نشعر بالدفء، بينما
مشى تيار من الخجل على وجوه عناصره وهم يطرقون النظر الى ألسنة النار التي علت في
صقيع تلك الليلة القاسية.
انهى صديقي القصة، ونظر الى الافق خلف الجبال وأردف،
لو تتكلم هذه الجبال، لحدثتك عن الاف القصص و الحكايات. 
اتذكر تلك القصة اليوم
بعد هجرة ملايين السوريين من دويلات الظلاميين والتكفيريين، وصواريخ الرئيس
المتوحش، وبراميله العمياء، تلك التي اقتطع ثمنها من حليب اطفالنا. كنا نمسح انوفنا
بأطراف قمصاننا لعدم توفر المحارم الورقية، والنسوة يبحثن عن كيس طحين لتقطيعه،
وتدبر امور الدورة الشهرية. كنا دولة صمود وتصدي حتى يستمر الديكتاتور. اليوم ،
وبعد هروب نصف الكرد السوريين من مملكة الصمت والرعب والاعتقال والقتل ودفع الجزية
والاتاوات في ما تسمى الكانتونات، والتي يثار حولها الكثير من الجدل والشكوك. بعد
كل هذا،  لم نرى طيلة السنوات الخمس الماضية من عمر الثورة، الأزمة، المحرقة،
المؤامرة، سموها مثلما شئتم، لم نرى سياسياً كردياً او معارضاً سورياً، تنحى عن
منصبه أو مزق جواز سفره الاوربي، أو احرق جوازه السوري، وقال نحن هنا باقون رغم
القسوة والألم، وحدنا نحن البسطاء، المهمشون، نحن اللذين صرخنا عالياً، حرية وبس،
لم نفكر بمنصب، ولا بسيارات فاخرة ولا النوم في فنادق من ذوات الخمسة نجوم، كنا
نحلم فقط بشوارع عريضة تمتد من اقصى شمال سوريا الى جنوبه، ومن شرقه الى غربه،
اليوم نتلمس وثائق السفر واللجوء في جيوبنا، ونجتر خيبتنا خلف حدود الوطن، ويلاحقنا
العار، بيننا وبين انفسنا اينما ذهبنا، نخجل من النظر حتى في عيون زوجاتنا
واولادنا، نسمع نحيب امهاتنا من بعيد، عبر ضجيج الهواتف النقالة، ونمضي نحو حزننا
بصمت.
ايها الساسة، كرداً كنتم أم عرباً، الا تشعرون مثلنا، نحن البسطاء،
بالخجل، الا تشعرون بالعار .. يا لعاركم .. يا لعاركم .. يا لعاركم .

ملاحظة
: لم التقي مع كوسرت كان الرجل وقتها  لسوء حظي  في مهمة علاجية  لانتشال ما تبقى
من شظايا المعارك القديمة
.


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…