زوبعة في فنجان

جــودت
هوشيار
 

 
 

في
اوائل السبعينات من القرن الماضي ، كان لي صديق عزيز ، مهندس من مدينة الحلة ،
المدينة ، التي قدمت للعراق ، عدداً كبيراً من خيرة العلماء والمفكرين والاختصاصيين
في شتى حقول المعرفة . درسنا وتخرجنا معاً في الكلية ذاتها ، . كنا من عشاق المسرح
، وحين عدنا الى العراق  عملنا معاً في بناء القاعدة الصناعية للبلاد ،
ضمن عدد كبير من المهندسين من خريجي الجامعات  الأجنبية .
لم يضعف عشقي للمسرح في زحمة العمل ، وكنا نذهب سوية لمشاهدة المسرحيات ، التي
تعرض على مسارح بغداد . ولكنني بعد فترة قصيرة ، قلت لصديقي أنني لم أعد اطيق هذه
المسرحيات المفتعلة ، التي يعلو فيها صراخ حمورابي ، أو يتحول فيها هاملت الى مهرج
يلقي المواعظ . ومنذ ذلك الحين ، ما زلت في حيرة من أمر المسرح العراقي .
العراقيون ، أو لنقل ، الكثير منهم ، ممثلون بارعون في الحياة اليومية ، ولكنهم
عندما يعتلون خشبة المسرح يتحولون الى مهرجين ، لو شاهدهم  مخرج مسرحي
غربي لمات من الضحك .

قلت لصديقي ذات مرة ، وكنا قد شاهدنا تواً احدى المسرحيات الهزيلة على خشبة (
المسرح الوطني ) :
– لماذا لا يستطيع الممثلون العراقيون تقمص أدوارهم في حين
أنهم ممثلون ، بارعون في الحياة.؟
قال صديقي لأن التمثيل عل المسرح يتطلب صدق
المشاعر ، وقدرة الممثل على التعاطف والمشاركة الوجدانية مع الشخصية التي يمثلها
.
ليس المقام في هذا الطرح الدخول في مناقشة حول المسرح العراقي ، بل تشريح
المسرحية  ( السياسية ) الفاشلة والزاعقة، التي تعرض هذه الأيام على شاشات
الفضائيات العراقية الرسمية وغير الرسمية ، التي تنفذ اجندة غير عراقية تعمل على
تعميق التقسيم الفعلي للعراق .
 
 حديثنا اليوم عن الضجة المفتعلة المثارة في
بغداد ، حول تصريح رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور اوربان عن تأييد بلاده لاستقلال
كردستان . الساسة الذين  يتبارون في بغداد اليوم في اصدار البيانات والأدلاء
بالتصريحات الديماغوجية ، عن حرصهم على العراق ( الواحد الموحد ) ويعتبرون تصريح
رئيس الوزراء الهنغاري تدخلاً في الشؤون الداخلية العراقية ، لم يعترضوا يوماً على
التصريحات ، التي أدلى بها مسؤولون كبار في الجارة ايران ، وهي تصريحات
تعد  انتهاكاً صارخاً لسيادة الدولة العراقية ، وتدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية
.
 
 بعض هؤلاء صرح بأن بغداد أصبحت عاصمة للإمبراطورية الفارسية ، والبعض
الآخر أعلن بأن طهران تحكم اليوم خمس دول ( عربية ) في الشرق الأوسط في مقدمتها
العراق ، والأخطر من هذا كله هو تصريح أحد المسؤولين الإيرانيين ، بأن الخط المار
على بعد 40 كم من الحدود داخل الأراضي العراقية ، هو الخط الدفاعي الأمامي الإيراني
.
ولا يقتصر التدخل في الشأن العراقي على التصريحات الرسمية الإيرانية ، فبغداد
نفسها باتت اليوم في قبضة 43 ميليشيا تعمل وفق الأجندة الإيرانية ، ورئيس الوزراء
حيدر العبادي ، يتجنب الاحتكاك بهذه الميليشيات  ويحاول كسبها الى جانبه بمدها
بالسلاح والعتاد بسخاء ، سواء من رصيد الجيش العراقي أو المرسلة من قبل دول التحالف
الدولي الى العراق لمحاربة داعش .
اعلان رئيس الوزراء الهنغاري ، ليس تدخلاً في
الشأن الداخلي العراقي ، لأن حق الأمم في تقرير مصيرها ، كبيرها وصغيرها ، مبدأ
تقره الشرعية الدولية وتنص عليه قررات الأمم المتحدة .
المتباكون في بغداد اليوم
على وحدة العراق ، هم الذين عملوا كل ما في وسعهم على تقسيم العراق بشتى الطرق ،
وهم الذين يحاولون اليوم  ، تقديم السنة قرابين على مذبح ( داعش ) ويحاولون منع
العوائل السنية من العودة الى المناطق المحررة ، تحقيقاً لسياسة التغيير
الديموغرافي. وهم الذين دأبوا على القيام بمحاولات خائبة لخنق اقليم كردستان
المزدهر اقتصادياً ، الذي أصبح نموذجاً ناجحاً وفريدا في المنطقة ، يفضح عجزهم
وفسادهم وأدائهم السيء .
الشعب الكردي ماض في طريقه ، والعالم المتحضر يقف الى
جانبه ، لأنه أصبح الواحة الوحيدة في الشرق الأوسط التي يسودها الوئام والسلام بين
مختلف قومياته وأديانه ومذاهبه ، دون أقصاء أو تمييز . العالم المتحضر يدرك أهمية
ذلك ، كما يدرك أن قوات البشمركة البطلة تدافع اليوم ليس عن كردستان والعراق فقط ،
بل عن العالم بأسره .

 

 لنتخيل للحظة ماذا كان سيحدث لو لم تقف
قوات البشمركة سداً منيعاً ، امام تقدم ( داعش ) وتمدده ؟ ، قوات البيشمركة هي التي
أنقذت كردستان والعراق من دولة الإرهاب الداعشية.

كان الأجدر باصحاب
الضجة المفتعلة ، أن يقدموا الشكرلقوات البيشمركة ، التي مكنتهم من الأستمرار في
حكم العراق .

 دول التقسيم فشلت في قهرارادة الشعب الكردي المطالب بحقوقه
المشروعة ، طوال مائة عام في الأقل ،من عمر الحركة التحررية الكردية ،وصمد الشعب
الكردي ، أمام الموجات العاتية  من التتريك والتفريس والتعريب .، وقدم تضحيات بشرية
ومادية جسيمة لم يقدمها أي شعب آخر في المنطقة ، وهو لن يفرط اليوم في حقه في تقرير
مصيره بنفسه ، ولن تستطيع أي قوة ان تمنعه من التمتع بهذا الحق .
الشعب الكردي
اليوم ليس وحده في الميدان ، بل معه كل أحرار العالم . ثم أن العالم تغيّر وتحوّل
الى قرية كونية يعلم كل من فيه ، كل ما يجري فيه ، وأصبح من المستحيل تكرار حماقات
صدام ، لأننا نعيش اليوم في زمن يؤمن فيه المجتمع الدولي المتحضر بمباديء  التعايش
السلمي والحوار وباحترام ارادة الشعوب وحقوق الأنسان .
 .
الضجة المثارة في
بغداد ، حول تصريحات (اوربان ) ليست سوى ( زوبعة في فنجان ) . وهذه الحقيقة يعرفها
حق المعرفة أصحاب هذه الزوبعة قبل غيرهم . واوربان ليس وحده من يعترف بحق الشعب
الكردي في الاستقلال ، بل أن ثمة عدداً كبيراً من رؤساء الدول  والساسة والمفكرين
الغربيين ،الذين  لا يقلون حماساً عن اوريان في تأييد حق الشعب الكردي في العيش
حراً في وطنه. 
 
على أولي الأمر في بغداد أن يدركوا قبل فوات الأوان ، ان
زمن فرض هيمنة مكون واحد على كردستان والعراق ، قد ولى الى الأبد ، وعليهم مراجعة
سياستهم الخاطئة ، التي جلبت الويلات للعراق  ، وكلما كان ادراكهم لضرورة هذه
المراجعة أسرع ، كان ذلك في مصلحة العراق عموما ومصلحة الأخوة الشيعة العراقيين في
المقام الأول .
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف يقتلع”الزور” الجزرأي القوة مثل كردي لقد بلغ العنف والتدمير مرحلة ما بعد الحداثة، فلم يعد مجرد أداة صراع بل تحول إلى نسق شامل، يعيد تشكيل الواقع وفق منطق القتل والفناء. إذ لم تعد الأسئلة الكبرى عن معنى السلطة والشرعية والوجود تجد مكاناً لها، لأن القاتل لم يعد مضطراً حتى لتسويغ جرائمه. إننا- هنا- أمام زمن…

عزالدين ملا عندما اندلعت الثورة السورية، كان أول مطالبها إسقاط نظام عائلة الأسد، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد وحوّلها إلى مزرعة لعائلته وأزلامه. كانت هذه المطالب تمثل رغبة شعبية في التحرر من عقلية الحزب الواحد والفكر الشمولي، التي أدت إلى الاستبداد والديكتاتورية وقمعت الأصوات المخالفة. إلا أن المرحلة التي تلت سقوط النظام كشفت عن تحديات جديدة أمام بناء سوريا…

د. محمود عباس هل نستطيع أن نقول أن الفيدرالية لغرب كوردستان والنظام اللامركزي في سوريا باتا أقرب إلى السراب؟ ليس فقط بسبب رفض الدول الإقليمية لها خشية من تحولات كبرى قد تعيد تشكيل المنطقة، ولا لأن الفصائل الإسلامية المتطرفة مثل هيئة تحرير الشام وحلفائها لديهم من القوة ما يكفي لفرض مشروعهم الإقصائي، بل لأن الكورد أنفسهم، وهم القوة…

إبراهيم كابان لطالما شكّل الواقع الكردي في سوريا ملفًا معقدًا تتداخل فيه العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، حيث تسعى الأحزاب الكردية إلى تحقيق مطالبها ضمن إطار وطني، لكنها تواجه تحديات داخلية مرتبطة بالخلافات السياسية، وخارجية متصلة بالمواقف الإقليمية والدولية تجاه القضية الكردية. فهل تستطيع الأحزاب الكردية في سوريا توحيد موقفها ضمن إطار تفاوضي واحد عند التوجه إلى دمشق؟ وما هي العوامل…