كُردستانيات 6- يوم موتى الكُرد الإيزيديين

 ابراهيم محمود
لكل شعب ثقافته الخاصة عن
الموت، ضمناً، ثمة فئات ومذاهب، ترسم خطوطاً تقسّم الثقافة هذه بقدر ما تلوّنها.
والكرد شعب له ثقافة مركَّبة جهة العقائد التي يُعرَف بها، وللكرد الإيزيديين، كما
هو يوم25 نيسان من كل عام، ثقافة تعنيهم واقعاً وعقيدة وروابط مع العالم، ولا بد أن
نظرتهم إلى الموت، ليخصّصوا له يوماً ربيعياً، يقدّمون القرابين ويرفعون الأنخاب،
وبين ضحك وبكاء، بين خروج من البيوت والوقوف بخشوع أمام قبور موتاهم…الخ، لا بد
أنها نظرة تعرّف بوضعهم ككرد إيزيديين، حيث الإيزيدية دين استثنائي في العالم
بمفهومه للخير والشر، للكون وخالقه وسلسلة الرتب للذين يصلون بينه وبين عباد،،
عقيدة تقيم للموت وزناً، ربما أكثر من أي عقيدة أخرى، اعترافاً ضمنياً منها، أن كل
إيزيدي، قد يموت ضحية عقيدته بغتةً.
وللناظر في تاريخ الإيزيدية، ومن خلال يوم الموتى الإيزيديين، أن يتلمس تلك العلامة
الفارقة لهذا اليوم الذي يقدّم توصيفاً للإيزيديين وباعتبارهم أصحاب عقيدة
استثنائية، كما تقدَّم، وهي انشغالهم بالحياة ليموتوا شهداء من نوع مميَّز، وهم لا
يموتون إلا ليتركوا أثراً دالاً عليهم، حيث يُستدل عليهم من خلال التالين عليهم
بفاعلية تقمصية، كما لو أن اليقين هذا خندق دفاعي جلي، عن حقيقة يعيها الإيزيدي دون
غيره لأنه يعيشها في خطوط نسَبية لا تنقطع، فالرابط بين الحياة والموت قوي، لا بل
شبيه بالرحمي، ومن يموت لا يموت معنوياً، وبقدر ما يكون ارتباط الإيزيدي بالحياة،
يبرز حنينه إلى موتاه، ليس حباً بالموت حصراً، ومن أجله، وإنما في تأكيد أخلاقية
الموت: التفاني في سبيل العقيدة وأبعد، وأكثر من ذلك، لأنه الوحيد الذي يجهر
بعقيدته المحارَبة من كل العقائد الأخرى، أو لا يكاد، عبر مفهومه للشر وكيف يتعامَل
معه، لكأنه في موته المتفاني حتى من أجل الذي أسهم أو يسهم في قتله.
من هنا تظهر
ذاكرة الإيزيدي الجمعية أوسع وأعمق وأرحب من ذاكرة أي كان، جرّاء طبيعة عقيدته، ومن
جهة فرماناته، وكما شهدنا في فظائع مرتكبة بحقه داعشياً صيف 2014 في شنكال ومحيطه،
أي لون حار تغلي الأرض تحت وطأته، يشدّد على مناسبة هذا العام ؟
موتى مدفونون
تبعاً لمراسيم معتادة، وموتى لم يُدفَنوا إنما دُفنوا جماعياً وربما وهم أحياء من
قبل الدواعش، وباسم عقيدة تكفيرية مسلخية، تعبيراً عن رفض لإيمان الإيزيدي
والاختلاف .
ليس للإيزيدي إلا موته، ومناسبة موتاه، وفي 25 نيسان، تكون ساعة
الربيع في أوجها، وما يعنيه هذا الاحتفاء بالموتى من تقدير للحياة، فالربيع خصوبة
الأرض وانفتاح أعظمي على الحياة، والربيع قرين الموت ومسمّيه من جانب آخر، والتداخل
بينهما، وكأن الاهتمام السنوي وفي هذا التأريخ رفع الستار بين الحياة والموت،
وترجمة عملية لحقيقة كل منهما وهما وجهان لعملة واحدة، كأن تحيين المناسبة ربيعياً،
نوع من المقاومة غير المسمّاة لإنسان أراد أن يعرّف العالم الآخر بما هو عليه من
صلات بالموت، لتعظيم أثر الحياة، لكأن الإخلاص للموتى انفتاح جلي وصريح بمدى
الالتزام بنهج الإيزيدي في تجسيد عقيدته الباطنية تأكيداً على ميزتها، وأنها في
واقعها تشير إلى ما هو ملتبس على الآخرين، إذ كيف يمكن لعقيدة أن تحارَب، أن يعتبَر
قتل أي من أفرادها، مهما نوعه أو جنسه مثاباً عليه في العقائد المحاصِرة لها، ولا
تكون هكذا ؟
في يوم موتى الكرد الإيزيديين، وفي هذا العام فائق النوعية
بمأسويته، لا أظن أن دموع كل الإيزيديين الأحياء كافية لإعلام كل الموتى حديثي
العهد وعلى غفلة، ولو خصّصت لكل منهم دمعة واحدة فقط ليس إلا، ولا كل الذي يملكونه
من مال وغيره، ونسبة كبيرة منهم هائمون على وجوههم يعيشون رعب الإبادة الجماعية
أمام سمع وبصر عالم شاسع واسع، بقادر على أن يغطّي الحدث ، حيث يتم ذبح القرابين
ونصب الموائد لهذا الغرض، لأن الدم الكريدي الإيزيدي المراق كرهاً وأي كره، يسد أفق
الرؤية، وصراخ من هم قيد التنكيل بهم رجالاً ونساء: طعناً وذبحاً وتمثيلاً بهم، لا
يترك لتركيز العقل والحواس سبيلاً .
ربما بات الكرد الإيزيديون الموتى هذا
العام، وخلاف كل الأعوام السابقة معزّي أحيائهم جرّاء موت غير مسبوق بأساليب
تفنّنه، ومن يعيش حكمة صمت الأعماق المهيب يدرِك ذلك .
دهوك
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

النقل عن الفرنسية إبراهيم محمود باريس – أكد البروفيسور حميد بوزأرسلان على ضرورة تحقيق الكُرد للاندماج الداخلي، وشدد على أن المسألة الكردية، بسبب الاستعمار فوق الوطني لكردستان، لا تقتصر على دولة واحدة بل هي شأن إقليمي. وتحدثت وكالة الأنباء ANF عن المسألة الكردية مع حميد بوزأرسلان، مؤرخ وعالم سياسي متخصص في الشرق الأوسط وتركيا والمسألة الكردية، يقوم بالتدريس في كلية…

درويش محما* خلال الاعوام الستة الماضية، لم اتابع فيها نشرة اخبار واحدة، وقاطعت كل منتج سياسي الموالي منه والمعادي، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم اتواصل معها ولا من خلالها، والكتابة لم اعد اكتب واصبحت جزءا من الماضي، كنت طريح الخيبة والكآبة، محبطا يائسا وفاقدا للامل، ولم أتصور للحظة واحدة خلال كل هذه الأعوام ان يسقط الاسد ويهزم. صباح يوم…

إبراهيم اليوسف من الخطة إلى الخيبة لا تزال ذاكرة الطفولة تحمل أصداء تلك العبارات الساخرة التي كان يطلقها بعض رجال القرية التي ولدت فيها، “تل أفندي”، عندما سمعت لأول مرة، في مجالسهم الحميمة، عن “الخطة الخمسية”. كنت حينها ابن العاشرة أو الحادية عشرة، وكانوا يتهكمون قائلين: “عيش يا كديش!”، في إشارة إلى عبثية الوعود الحكومية. بعد سنوات قليلة،…

سمير عطا الله ظهر عميد الكوميديا السورية دريد لحام في رسالة يعتذر فيها بإباء عن مسايرته للحكم السابق. كذلك فعل فنانون آخرون. وسارع عدد من النقاد إلى السخرية من «تكويع» الفنانين والنيل من كراماتهم. وفي ذلك ظلم كبير. ساعة نعرض برنامج عن صيدنايا وفرع فلسطين، وساعة نتهم الفنانين والكتّاب بالجبن و«التكويع»، أي التنكّر للماضي. فنانو سوريا مثل فناني الاتحاد السوفياتي،…