أين تقع كُردستان ؟

 ابراهيم محمود

الحديث عن الجهات الجغرافية عبر سؤال: أين
تقع كُردستان ؟ غير مجد، بما أن الجغرافيا غير مجدية بالنسبة لجوهر السؤال بالذات،
ليس لأن كردستان كجغرافيا أخضِعت لأكثر من تعتيم وتلغيم، وإنما لأن للسؤال مقصداً
آخر تماماً، وإليك به:
أين تقع كردستان حين تكون مرسومة ومعروضة على طاولة ؟
هذا يعتمد على نوع الطاولة، وموقعها، ومقدار حجمها، ومدى ارتفاعها عن الأرض، وإضاءة
ما عليها، والذين يتحلقون ويتزاحمون حولها وصفة كل منهم، واللغة المتداولة بشأنها،
وطريقة تعاملهم مع بعضهم بعضاً، وما هو مودَع في الأدراج، وما يتم تبادله تحت
الطاولة، ومدى نقاوة الصوت أو تردده، وملامح الجالسين إليها، ونسبة الذكور إلى
الإناث.
أين تقع كردستان حين تكون داخل حقيبة ؟
هذا يتوقف عن المادة التي
تصنَّع منها الحقيبة وعلامتها، وكيف تُحمَل، ومن يكون الحامل، ومن يكون معه، ووسيلة
النقل التي تقله وهي معه، أو معلقة على كتفه، أو محمولة باليد، وثقلها، وأسلوب مشيه
ونظراته لمن حوله، وأين يتم وضع الحقيبة من حيث المكان، وكيف يتم فتحها، ومن يتولى
ذلك، وأهم الأوراق وباسم من تكون فيها، ومن هم الأشخاص الذين يعنيهم أمرها أكثر من
غيرها، وأي قيمة تُعطى لها من قبل هؤلاء بلغاتهم ولهجاتهم ..
أين تقع كردستان
حدودياً ؟
هذا يرتبط بمفهوم الحدود، فالحدود العائدة إلى بلد ما، شعب ما، طرف
ما،لا تُعزى إلى جهات جغرافية معلومة، بقدر ما تكون متحولة ومتلونة وغير مستقرة،
وهنا تُحسَب الحدود كمياً وكيفياً على عدد الأشخاص الذين يعتبرون الحدود حدودهم
طولاً وعرضاً وعمقاً، وهي لا تخضع لمقياس معهود ومألوف لدى الآخرين، فقد تتجاوز
ظلال كل الأشخاص المعنيين بها، وقد تقل عن حجم الإصبع الواحدة، وقد تعانق السماء،
وقد تختفي أو تعدم، وكل ذلك مرهون بالعدد الفعلي من الذين عرَّفوا بأنفسهم حدوديين
دون غيرهم، وهم الحدود التي تمتد أو تتقلص أو تخضع لأمزجة غير متوقعة، كما هو حال
جل الذين شدّدوا على أن الحدود التي تُسمَّى على الخارطة لا وجود لها، كونها هي
ذاتها تقف باستعداد أمامهم.
أين تقع كردستان بلسان الناطق بلغتها ؟
من الصعب
جداً إن لم يكن مستحيلاً  إعطاء جواب يطمئن قلب أي كردستاني يقيم خارج صورة
الطاولة، ومنطق الحقيبة، والمتعارف عليه حدودياً، إذ ليس من ناطق واحد باسم
كردستان، ليس من لغة واحدة وباسمها يمكنها أن تشير إلى أهلها، فما أكثر الناطقين
بألسنة تبلبل عليها هي ذاتها، وما أكثر اللغات التي أعيتها هي عينها عن أرشفتها،
وكردستان فيها من الألسنة ومن اللغات واللهجات المبتدعة بحيث إذا وزّعت على
المنتمين إليها لزادت عليها، بما لا يقاس، وذلك بفعل الكم اللافت من الطاولات
وعدواها وطبيعتها وصعوبة التأكد من نوعها لأسباب تقتصر معرفتها على وجهاء الطاولة
وممثليها، والكم اللافت من الحقائب التي أصبحت في مقام الظاهرة المُعدِية، بحيث لا
يعود يُحسَب الكردي كردستانياً إن لم يكن له كرسي ما بجوار طاولة، أو حقيبة ما،
صغيرة أو كبيرة، تبعاً لمهارته وقدرته في التعامل مع الحقيبة، أو إعراب يعنيه بصدد
الحدود وكيف تطوى أو تُمَد.
أين تقع كردستان في اللغة المحكية : الشعبية
؟
وهذا من أكثر الأسئلة عسراً للهضم الفكري والنفسي، واستفزازاً أيضاً! إذ كيف
يمكن تقديم الجواب عن سؤال هو نفسه لا يهدأ، كما لو أنه يأبى انتظار الجواب، بما أن
اللغة المحكية منقسمة على نفسها عدد الحدود المتشظية، عدد الحقائب التي تثقِل
عليها، عدد الطاولات التي لم تعد جهات كردستان ذاتها تسعها وتحملها، عدد الأشخاص
الذين ينافس بعضهم بعضاً، لتحمل كردستان بصمته، اسمه، فيعيش الشعب الخيالي وهو
واقعي إلى حد كبير، مأساة سماسرة الحقائب، ومراهني الطاولات، ومساومي الحدود
الجغرافية وما تكون جغرافية، وأصبح بالكاد مدرِكاً لاسمه شعباً، ولموقعه كردستاناً
.
أين تقع كردستان إذاً ؟!
دهوك
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…