استقرار سوريا يبدأ برحيل الأسد

د. خالد خوجة

تدخل الثورة السورية عامها الخامس، وما زال
النظام مصراً كما كان منذ اليوم الأول للثورة، على اتباع سياسة الأرض المحروقة،
التي جسدها شعار أنصاره وشبيحته: «الأسد أو نحرق البلد». ولقد أحرق نظام أسد سورية
فعلاً، ربع مليون سوري، وملايين المهجرين والنازحين، وسبب دمارا لا مثيل له منذ
الحرب العالمية الثانية، وانهيارا اقتصاديا، وجوعا وتعذيبا حتى الموت، واستخداما
لأسلحة الإبادة من براميل المتفجرات العمياء والسلاح الكيماوي والكلور
القاتل. وإننا على يقين من أن هذا النظام كان ولا زال مستعداً لاستخدام أخطر أسلحة
الدمار الشامل، بما فيها السلاح النووي، حال حصوله عليها.
ورفض النظام ولا زال يرفض جميع الفرص والمبادرات الساعية لوقف نزيف الدم في سورية،
حتى المبادرات محدودة الأهداف التي تأمل بإدخال المساعدات الإنسانية للمدنيين
المحاصرين. وهكذا رفض النظام جميع المبادرات التي تسعى إلى وقف القتل بدءاً بمبادرة
د. أحمد داوود أوغلو، إلى مبادرة الجامعة العربية، وخطة كوفي عنان، وجهود الأخضر
الإبراهيمي وحتى مبادرة ستيفان ديمستورا المحدودة للغاية.
ورغم استمراره في
اتباع سياسة الأرض المحروقة ورفضه كل المبادرات الدولية، فإن النظام أفلت من
العقاب، ولم يدفع ثمن جرائمه الخطيرة، وهو ما فهمه على أنه ضوء أخضر دولي لمواصلة
القتل والالتفاف على قرارات مجلس الأمن الدولي، التي أصبحت كلها حروفاً ميتة وبلا
معنى. رغم ذلك هناك من يقول إن هذا النظام هو أهون الشرين، مقارنة بتنظيم «داعش»
الإرهابي، والحقيقة أن هذا القول يشبه تفضيل الأفعى على أحد أبنائها. «داعش» هو أحد
منتجات النظام السوري وراعيه الإيراني، مجرد منتج واحد يمكن تفريخ غيره في أي وقت،
فنظام دمشق أوجد منذ 40 سنة عشرات التنظيمات الإرهابية بشتى الألوان الحمراء
والخضراء والسوداء… وهو قادر على تفريخ المزيد بعد القضاء على «داعش»، إن ترك في
مكانه. إن القضاء على تنظيم «داعش» مع ترك النظام السوري يعني عدم حل أي مشكلة في
سورية والمنطقة، إذ أن حال البلاد عام 2013 قبل بروز «داعش» لم يكن يختلف عما هو
عليه الآن، ولنتذكر أن أول من هدد الغرب بإرسال الانتحاريين هو مفتي النظام الحالي
نفسه قبل أن يوجد «داعش».   
بغض النظر عن مواقف الآخرين، لن يتراجع الشعب
السوري عن مطلب الحرية، وهو يسعى لتحقيق هدفه بكل السبل، حتى لو كان مطلوباً منه
دفع ثمن غال لهذه الحرية، أغلى مما دفعه أي شعب آخر تمتع بالحرية في قارات العالم
الست. لقد بدأ السوريون ثورتهم سلمياً ثم اضطروا لحمل السلاح للدفاع عن أرواحهم
وأعراضهم، وهم الآن يخوضون حرب تحرير ضد غزو أجنبي هو الغزو الإيراني، وهم يبلون
بلاء حسنا، بدون أدنى شك في محاربة إرهاب «داعش» والنظام والاحتلال الإيراني على
ثلاث جبهات. فبخلاف ما يدعيه بشار الأسد، الذي أكد كل من قابله بأنه منفصل عن
الواقع، خسر النظام السيطرة على 72 من الأراضي السورية، وتراجع عدد أفراد جيشه من
300 ألف جندي إلى أقل من 100 ألف، وذلك بسبب ظاهرتي الانشقاق للالتحاق بالجيش
السوري الحر (التي شملت 3000 ضابط و 20 ألف رجل أمن)، والفرار من الجيش ورفض
الالتحاق به، إضافة إلى مقتل عشرات الألوف ممن قرروا الدفاع عن طاغية أحمق حتى
الموت. وبات مألوفاً في البيئة المؤيدة للنظام إطلاق انتقادات حادة وشتائم بحق رأس
النظام الذي ينظر إليه على أنه شؤم لا يقدم لأنصاره إلا الجنازات والأكفان لخيرة
شبابهم. ولم يعد النظام يسيطر إلا على 28 من الأراضي السورية، سيطرة عسكرية لا
تعني بأي شكل الولاء له أو الموافقة على بقائه، فمن ضمن هذه النسبة التي تصغر كل
يوم، تقع، على سبيل المثال لا الحصر، محافظتا حمص وحماة أهم قلاع الثورة في سورية،
وتقدر مصادر محايدة حجم تأييد النظام بين أبناء الشعب السوري ب 10 فقط. وهذه
السيطرة المحدودة في المساحة، الخالية من أي معنى من معاني الحكم والشرعية، إنما
تتم بمساعدة لا يمكن الاستغناء عنها من كتائب أصولية طائفية دموية متطرفة قادمة من
لبنان والعراق وأفغانستان، تقودها وتقود النظام قيادات إيرانية تصدر الأوامر، وتصول
وتجول من حلب إلى درعا. بعد أن فقد الأرض والانسان بات رأس النظام السوري مجرد زعيم
ميليشيا تعيش على القتل والسلب والنهب، ميليشيا دمرت مؤسسات الدولة، ثم بدأت تأكل
أبناءها وتتخلى عنهم لصالح هيمنة السيد الإيراني الجديد. لقد شهدت سورية في
الأسابيع الماضية مؤشرات خطيرة على هذا التحول الكبير، فقد تم إعدام ضباط موالين
للنظام لأنهم رفضوا تنفيذ أوامر قادة القوات الإيرانية المنتشرة جنوب سورية، وتمت
إهانة وإيذاء ضابط أمن سوري كبير (المسؤول الأمني السابق عن القوات السورية في
لبنان رستم غزالة) لسبب مشابه.
لقد فقد النظام الأسدي أي شكل من أشكال الشرعية
منذ عام الثورة الأول، حيث قطع علاقته بالشعب واعتبره مصدر تهديد، ورغم أن خسائر
وانسحابات النظام لا تتحول دائماً إلى مكاسب وانتصارات للشعب السوري ومشروعه
التحرري، بسبب وجود تنظيم «داعش» الإرهابي، صنيعة النظام الأسدي وحلفائه، فإن
التنظيم أثبت هشاشة وعجزاً عن التمتع بأي قاعدة شعبية صلبة، وهكذا فإن التنظيم
يسيطر على مناطق في سورية بصورة متقلبة وزئبقية، ولا يحكم أياً منها حكماً مستقراً
ذا أسس ثابتة.
يواجه الشعب السوري نظاماً مجرماً استخدم ولا زال يستخدم أسلحة
الدمار الشامل المحرمة دولياً، ويقف خلف هذا النظام وتقوده قوة اقليمية تسعى لبناء
امبراطورية تهيمن على المنطقة. كما يواجه شعبنا تنظيماً إرهابياً تمتد نشاطاته
ومخاطره إلى شتى دول العالم، وهذه أسباب ثلاثة لتحويل سورية إلى بؤرة عدم استقرار
إقليمي ودولي، الأمر الذي يستدعي قيام دول المنطقة والأمم المتحدة والدول الكبرى
بواجبها لمحاصرة هذه البؤرة، وهذا لا يكون إلا بدعم الشعب السوري، القادر وحده على
هزيمة مشروع «داعش»، والمشروع الإيراني التوسعي. إن التعامل مع الوضع الخطير في
سورية يحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من مجرد القصف الجوي لمواقع «داعش»، وعقد مؤتمرات
الأصدقاء التي لا تسفر عن نتائج عملية. وبدون التعامل المسؤول والجدي تتحول سورية
إلى قاعدة صلبة ومتقدمة لأخطر أنواع الإرهاب وبؤرة عدم استقرار تهدد المنطقة
والعالم.
وإذا كانت تقع على عاتق الأشقاء والأصدقاء والمجتمع الدولي واجبات يجب
عليهم القيام بها، فإنه تقع على عاتق الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة
السورية وباقي أطياف المعارضة واجبات أكبر. إننا نعمل مع قوى الثورة والمعارضة بكل
ألوانها، على أن نوحد موقفنا تجاه سيناريوهات التغيير التي نعمل عليها، ونساعد في
دعم الجيش السوري الحر ومأسسة عمله وتسليحه في ظل هيئة أركان تمثل مظلة مشتركة،
وتحويله إلى جيش وطني يستطيع ضمان الأمن والاستقرار في المناطق الشاسعة التي خرجت
من سلطة النظام، وقادر على أن يسد أي فراغ أمني يتركه سقوط النظام الأسدي المتهالك،
جيش يضم كل أبناء سوريا بكل مكوناتها. ومن دواعي الأمل أن فصائل مهمة نحت سابقاً
نحو التأدلج، لظروف شتى، تبدي استعدادها للانضواء في الخط الوطني، والعمل تحت مظلة
الأركان. وتزداد القناعة لدى قوى الثورة والمعارضة، بالحاجة إلى ترك سياسات
الإصطفاف، لصالح التوافق والتكامل. وتزداد القناعة بقدرة الثورة على الانتصار لأنها
أبدت قدرة هائلة على التأقلم مع التحديات المتغيرة، والقدرة على مزاوجة العمل
السياسي مع الثوري والعسكري. إننا ونحن نقاتل النظام المجرم، وندفع ثمن ذلك باهظاً،
نمتلك القدرة والشجاعة للدخول في أي عملية سياسية تحقق لشعبنا هدفه في الحرية
والكرامة، ونعمل على جمع جميع مكونات مجتمعنا تحت مظلة وطنية جامعة، الآن، وفي
سورية المستقبل، سورية ما بعد النظام الاستبدادي. وسيشارك جميع السوريين في المرحلة
الانتقالية التي ستعمل على الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية وفي مقدمتها الجيش
والأمن، وتجسد مشروع السلم الأهلي، وتنفذ مشروع العدالة الانتقالية، وتبدأ إعادة
إعمار سورية.
لا يشك عاقل بأن الإرهاب في سورية، سببه ومصدره نظام بشار الأسد،
وأن القتل على نطاق واسع، والتهجير الجماعي، ودمار مؤسسات الدولة، والتفريط
بالسيادة الوطنية، سببه ومصدره أيضاً نظام بشار الأسد، ولن تعرف سورية الأمن
والاستقرار والحرية والسيادة… إلا برحيل بشار وعصابة التسلط والقتل المحيطة
به.

رئيس الائتلاف الوطني السوري 

د. خالد
خوجة

القدس العربي

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…