بين انتحار الهمج وفدائية البيشمه ركة

كفاح محمود كريم

 
     البيشمه ركة مصطلح كوردي أطلق على ثوار الحركة التحررية الكوردية، وهو يعني أولئك الرجال والنساء من الثوار الذين يقاتلون من اجل حرية وكرامة شعبهم، ويعني المصطلح الذين يستبقون الموت من اجل تلك الأهداف النبيلة، وهو بالتالي في معانيه يرتقي على مفهوم الفدائية حيث دقة المصطلح في التوصيف الذي يتكون من مفردتين الأولى البيش وتعي أمام والثانية مركه وتعني الموت، أي بمعنى أنهم أمام الموت بالمعنى الحرفي،  ويستبقون الموت بالمعنى المجازي.
     وعبر التاريخ الممتد من بواكير الثورات الكوردية مطلع القرن الماضي وحتى يومنا هذا، تحول هذا المصطلح إلى واحد من أقدس الكلمات والمفاهيم التي تمثل وجود ونضال الكورد وكوردستان شعبا وأرضا، وأصبحت هذه الكلمة محط احترام وتقديس وافتخار الأهالي بمختلف مستوياتهم ومشاربهم وأفكارهم، حتى إن العائلة التي ليس فيها واحد ممن يحملون هذا التوصيف تشعر بالضعف أو الخجل مقارنة مع بقية الأهالي، ليس اليوم بل حتى أيام هيمنة واستعمار الأنظمة الدكتاتورية لكوردستان وشعبها، حيث كانت الأسر التي ينتمي احد أبنائها إلى البيشمه ركة محط احترام وتقدير بالغين من الأهالي.
     لقد سجل تاريخ هذه القوة الاجتماعية والأخلاقية الرفيعة التي اختزلت في سلوكياتها أرقى أنماط السلوك المتحضر والملتزم بقوانين الحرب بعيدا عن ممارسات الانتقام وخلط الأوراق، كما كانت تفعل وما تزال قوى البطش المتخلفة سواء الحكومية منها أو الإرهابية في تصفية المدنيين واستخدام سلوكيات الغدر في الاغتيال والتخريب الجماعي، حيث تفتخر قوات البيشمه ركة في خزينها الأخلاقي والشرفي بما يجعلها فخرا للبشرية عموما في ممارساتها أيام الحرب مع العدو وأسراه وجرحاه، فقد سجلت أيام المعارك الكبيرة لهذه القوات كيف كانت تعتني بجرحى العدو حينما يسقطون بيدها، بل وتفضلهم على جرحاها في مستشفياتها الميدانية المتواضعة، وبينما كان العدو يقتل كل أسير من البيشمه ركة كما تفعل داعش اليوم فان الزعيم مصطفى البارزاني وكبار قادته كانوا يوصون البيشمه ركة بمعاملة الأسرى بمنتهى الإنسانية إلى الدرجة التي كان كثير منهم يرفضون العودة إلى ذويهم مرة أخرى.
 
     لن ندخل في تفاصيل تاريخ هذه المؤسسة التي يعتبرها الأهالي مؤسسة الأخلاق الرفيعة وقوات الدفاع عن الشعب والوطن ويفتخرون بالانتماء إليها، لكننا سنورد مثالين لأولئك الرجال الأفذاذ ممن استبقوا الموت لأجل إنقاذ رفاقهم من وحشية داعش الهمجية، حيث اندفع الشهيد العقيد احمد المزوري وهو آمر فوج مكافحة الإرهاب، بعد أن فشلت الأسلحة في منع اندفاع شاحنة  مفخخة إلى مكان تجمع البيشمه ركة في إحدى قرى زمار، فاندفع الشهيد احمد وهو يقود مدرعة من نوع همر ليصطدم بالشاحنة المفخخة ويفجرها قبل الوصول إلى هدفها، وبذلك منح حياته لأجل حياة عشرات من رفاقه المقاتلين، وكذا فعل البيشمه ركة جمال دولمري الذي قاد دبابته قبل عدة أيام أمام شاحنة كبيرة مفخخة كانت تتقدم باتجاه احد مواقع البيشمه ركة في منطقة سد الموصل ففجرها وأنقذ العشرات من رفاقه وأصيب إصابات بالغة.
 
     هذه نماذج من أعمال البيشمه ركة في استباقهم للموت من اجل الحياة ومن اجل قيمها العليا في السلوك والأخلاق الرفيعة، أمام سلوكيات أعداء مجرمين بكل القيم النبيلة للإنسانية ابتداءً من جرائم البعث ومن شابهه في قصف المدن والقرى بالأسلحة الكيمياوية ودفن عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ في مقابر جماعية، إلى استباحة الكورد الايزيديين والشيعة والمسيحيين وقتلهم جميعا وسبي نسائهم والمتاجرة بهن في واحد من أحط أنماط السلوك الوضيع الذي لا يمثل إلا أخلاق مافيات مجرمة لا علاقة لها بالإنسان وأديانه وعقائده وخارجة عن كل أطوار البشر الأسوياء.
 
     ولأجل ذلك ستنتصر البيشمه ركة لا محالة لأنها تختزن أرقى أنماط السلوك الإنساني الرفيع والأخلاقيات التي تفتخر بها البشرية جمعاء، وهي التي دفعت كل العالم الحر والمتمدن إلى اربيل عاصمة كوردستان، لتقف متشرفة مع البيشمه ركة وقادتها، لأنها أيقنت إن هذه المؤسسة إنما تدافع وتناضل وتكافح لا من اجل كوردستان وشعبها فقط، بل من اجل الإنسانية وقيمها العليا، فشتان بين انتحار البهائم الهمج الذين يحرقون الأخضر واليابس بعقيدتهم الفاسدة، وبين أولئك الذين يستبقون الموت من اجل حياة الآخرين وسعادة الأهالي وقيم الإنسانية العليا.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خورشيد شوزي الإعلام، بوصفه السلطة الرابعة (كما يسميه البعض) في المجتمعات الحديثة، لم يكن يوماً مجرد ناقل للأخبار، بل هو فضاء مفتوح تتقاطع فيه الحقائق مع المصالح، وتنصهر فيه الموضوعية مع التوجهات السياسية والأيديولوجية. في عالم مثالي، يُفترض أن يكون الإعلام حارساً للحقيقة، يضيء زواياها المظلمة، ويكشف زيف الادعاءات والتضليل. لكنه، في كثير من الأحيان، يتحول إلى أداة…

د. محمود عباس لا يمكن النظر إلى التحشيد العربي والإسلامي في دعم القضية الفلسطينية خارج هذا السياق، فكلما ازداد الخطاب العدائي ضد إسرائيل، ازداد بالمقابل دعم الولايات المتحدة وأوروبا لإسرائيل، وتحول الصراع من فلسطيني-إسرائيلي إلى صراع بين الغرب من جهة والدول العربية والإسلامية من جهة أخرى. فبدل أن يكون هناك صراع سياسي يتمحور حول إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، بات…

زاكروس عثمان الاتاسي تشطب الكورد من الوجود تحدثت هدى الاتاسي عضو اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني العام في سوريا في لقاء تلفزيوني عن اعمال اللجنة سابقة الذكر وعن عدم مشاركة الكورد فيها، مبينة ان المؤتمر سوف يضم كافة الاطياف السورية، ولكنها ناقضت نفسها وكذلك كل ما اعلن حول آليات ومهام اللجنة، ففي الوقت الذي تؤكد فيه على ان…

بوتان زيباري أيتها الأرض التي شهدت مولد الحضارات، وارتوت بدماء الشهداء، وذرفت دموع الأبرياء… يا سوريا، يا أمَّ التاريخ وأخت الجغرافيا، كم حملتِ على ظهركِ من جراح، وكم احتملتِ في قلبكِ من أحلام! ها هي أصوات أبنائكِ تعلو من كل فج، تبحث عن خلاصٍ من ظلام الفوضى، وتنشد نورًا في ظل ديمقراطية تعددية، تلملم فيها شتات الهُويات تحت سماء…