ما سر «كنتنة» كوردستان؟

 

جان كورد

 

يبدأ شخص أو جماعة ما بتأسيس حزبٍ من الأحزاب، من أجل تحقيق أهدافٍ معينة، آيديولوجية أو دينية أو سياسية أو لأهداف عالمية متعلقة بالبيئة والصحة العامة أو اجتماعية هدفها الدفاع عن فئةٍ ما في المجتمع، وهكذا تأسس حزب العمال الكوردستاني، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، فوضع لنفسه أهدافاً قومية تتعلّق برفع المظالم عن الشعب الكوردي والحصول على حقوقه التي تم حرمانه منها ردحاً طويلاً من الزمن، وأهدافاً على مستوى تركيا تتعلّق في معظمها بالطبقات الكادحة الفقيرة، وكذلك أهدافاً أممية وبروليتارية باعتباره كان حزباً مؤمناً بالماركسية اللينينة، إلا أنه اصطدم وبشدة بالحركة القومية الكوردية ومنها فصائل (كوك) الوطنية الديموقراطية و(د.د.ك.د) القومية اليسارية التي كانت قد قطعت شوطاً في نضالها وصارت لها تنظيمات في مختلف أنحاء شمال كوردستان، من قبل أن يظهر هذا الحزب على الساحة في أنقره على أيدي بعض طلاب الجامعة الذين لم يكن لهم انتماء سياسي واضح أو رصيد في الكفاح السياسي الكوردي سابقاً،

 

واعتبر حزب العمال نفسه بديلاً ثورياً فريداً، في حين اتهم الأحزاب والجمعيات الكوردية جميعها بالخيانة للبروليتاريا والأممية، كما اصطدم بالحركة القومية التركية، ذات الطموحات الطورانية والتي تحلم بالانسلاخ التام عن مجتمعات الشرق الإسلامية والدخول في إطار المجتمعات الأوروبية، كما لها حلمٌ آخر، ألا وهو توحيد كل البلاد الناطقة بلغات “العائلة التركية” من البوسفور إلى آخر منطقةٍ في شرق آسيا، وكانت تعتبر كل من يعيش على الأرض “التركية” “تركياً” بعد أن ابتكروا لها اسم “تركيا” على أنقاض الامبراطورية العثمانية، فكان الاصطدام في الصف الكوردي دموياً  راح ضحيتها مئات الكوادر الوطنية الديموقراطية، ولكن مع الطورانيين الترك ظل العداء سياسياً، لأن الغلبة كانت للطورانيين في غرب تركيا وفي العاصمة أنقره، في حين أن تواجدهم في كوردستان كان ضئيلاً للغاية.
بدأ حزب العمال آنذاك بتشكيل دوريات مسلحة وتفتيش المواطنين على الطرقات بين المدن الكوردية والادعاء بأنه الحاكم الفعلي في شمال كوردستان، ومضى في سياسة القضاء على المعارضين الكورد بشدة، وأثار ذلك مخاوف الشعب الكوردي والحكومة التركية على حدٍ سواء، فأصبحت تصرفات العماليين إضافة إلى النمو المتزايد لليسار التركي المتطرّف سبباً مباشراً لقيام الجيش بانقلابه العسكري في تركيا برئاسة الجنرال كنعان ايفرين في عام 1980، وتم استغلال سياسة وممارسات حزب العمال للقيام بعمليات عسكرية وتمشيط سياسي، واسعة النطاق، بهدف إخماد نشاط الحركة التحررية الكوردية بشكل عام فأودع الآلاف من المناضلين في السجون ومورس بحقهم تعذيب وحشي يندى له تاريخ الدولة التركية. فهرب ما تبقى من قيادة حزب العمال إلى سوريا ولبنان، ووصلت بعض كوادره إلى أوروبا.
وفي أوروبا، لم يتغيّر سلوك هذا الحزب فكانت سياسته وممارساته موجهة إلى فصائل الحركة والجمعيات الكوردستانية والشخصيات القومية المعروفة، فأصبح اتحاد جمعيات عمال كوردستان (كومكار) والحزب الديموقراطي الكوردستاني – تركيا والحزب الديموقراطي الكوردستاني أهدافاً للعماليين أكثر من الجمعيات الطورانية التركية، وتشوهت بتلك الممارسات القمعية صورة الكورد كمهاجرين مسالمين وبعيدين عن العنف في دول غرب أوروبا إلى صورةٍ سيئة حقاً، حتى وصل الأمر إلى وضع اسم حزب العمال الكوردستاني في قائمة “المنظمات الإرهابية”، وخاصة بعد قيام أنصاره بهجمات شبه يومية على المتاجر والجمعيات التركية ووكالات السفر الجوي، وإغلاق الطرق العامة التي هي عصب حياة الاقتصاد و المنشآت الألمانية، وإقامة المحاكم الصورية بحق المنشقين عنه.
في جنوب كوردستان، وبعد أن هدد الدكتاتور السوري حافظ الأسد بأن له يداً طويلة في العراق، هاجم حزب العمال الكوردستاني مقرات الحزب الديموقراطي الكوردستاني بشكلٍ سافر وأعلن عن قيام “جمهورية الزاب” التي فشلت فشلاً ذريعاً مثل “حكومة بوتان” في شمال كوردستان التي كانت غالبية الكورد في أوروبا وفي غرب كوردستان تعتقد أنها فعلاً موجودة عملياً وتملك مقومات الاستمرار، بل منهم من كان يظنّ بأنها أقوى وأفضل مما كان يبنيه كورد العراق في ظل حروبهم الداخلية ونزاعاتهم السياسية.
ولكن فشله الذريع في حربه على الحزب الديموقراطي الكوردستاني وانكماش منطقة نفوذه إلى جبل “قنديل” وحده، أعاق جهوده لخلق “إدارة” بديلة لما حققه كورد العراق، منذ أن سحب صدام حسين إدارته من إقليم جنوب كوردستان على أثر هزيمته الماحقة في حرب الكويت في عام 1991.
وبانهيار المعسكر الشيوعي في العالم، أصبح حزب العمال الكوردستاني يعرج بساقٍ واحدة، بعد أن كان يجتذب الشباب الكوردي بآيديولوجيته الماركسية حتى ذلك الحين، فأضطر لأن يظهر على الكورد كطليعة كوردستانية قومية لا منافس لها، إلاّ أن تواجد رئاسة الحزب في أحضان النظام السوري المتحالف كلياً مع إيران منذ انتصار الثورة الخمينية في عام 1980 قد عرقل نمو الحزب كوردستانياً، وهو في الحقيقة لم يطالب يوماً ب”تحرير وتوحيد كوردستان”، فبرنامجه السياسي (المانيفستو) موجود كوثيقة أساسية له منذ تأسيسه وإلى آخر مؤتمر عقده في جبل قنديل، وبعد أن مارس الرئيس السوري حافظ الأسد ضغوطه على السيد عبد الله أوجالان بهدف التقارب مع تركيا التي تحجز عن سوريا ما تستحقه من مياه الفرات والتي لا تقبل استمرار دمشق في إفساح المجال لنشاطات حزب العمال، أضطر السيد أوجالان إلى التراجع تماماً عن فكرة  النضال من أجل إقامة كيان قومي ” في شمال كوردستان”،  وظهر الاتجاه الجديد يطفح على وجه البحر الإعلامي الكبير لحزبه. إلاّ أن خروجه من سوريا، في نهاية القرن الماضي، أو ما يسميه البعض ب”هروب قائد الثورة” إلى روسيا وبعدها إيطاليا، ومن ثم إلى كينيا الأفريقية عوضاً عن الذهاب إلى الآلاف من مقاتليه في جبال كوردستان الشامخة قد قضى تماماً على الساق الأخرى التي كان الحزب العمالي قد قام ومشى عليها.
ومعلوم أنً أي حزب كما ذكرنا يتأسس من أجل أهداف سياسية، وإلاّ فإنه يفقد سبب وجوده. فاللجوء إلى موضوع “الكانتونات” ليس إلا  لإيجاد قوائم اصطناعية لهذه الحركة التي خارت قواها العسكرية بعد أن كانت تتحرك في مساحاتٍ واسعة تمتد من حدود شرق كوردستان إلى ماوراء مدينة ديرسم، ومن حدود آذربايجان وأرمينيا إلى داخل الحدود السورية، كما وانطفأ بريقها الآيديولوجي الجذّاب وأزال الحزب بنفسه ما في برنامجه ما يعتبر طموحاً كوردستانيا  ويؤرق ويقلق الدول المقتسمة لكوردستان التي تخاف سعة انتشار وتنامي حزبٍ يمكن أن يجمع الصفوف الكوردية كلها إن وجد لنفسه حليفاً دولياً قوياً أو استمرت النزاعات الإقليمية الملائمة لاستمراه.
وبعد أن صار  رئيس الحزب في قبضة الدولة التركية، وإطلاقه التصريحات المتتالية بصدد رفضه مشروع “الدول القومية الكوردية”، والتزام حزبه بالأوامر الصادرة عنه حتى اليوم، لم يعد للحزب أساس آيديولوجي صافٍ بحكم انضمام عناصر كثيرة إلى تنظيماته عبر تاريخه، من سائر الطبقات والفئات الاجتماعية، ولم يعد عمالياً كما أراد في البداية، كما لم يعد له مشروع “قومي كوردستاني”، لذا لابد له من ابتكار أهداف جديدة تكون سبباً لبقائه واستمراره، فابتكر له البعض من الأذكياء فكرة “الكانتونات” التي بها يمكن الاستمرار في تجييش الشباب الكورد الذي يظن أن الحزب لا يزال كما هو أيام تأسيسه، بل وجذب الأقليات الدينية التي تعيش بين الشعب الكوردي، ولا يغضب هكذا مشروع “غير كوردي” الحكام والدول التي لا تحب سماع أي كلامٍ عن “القومية الكوردية” و”كوردستان”.  وهذا يتم فعلياً في غرب كوردستان، وبدأ بإزالة كل ما هو “كوردي” أو “كوردستاني” من طريق ما أسموه ب”الإدارة الذاتية الديموقراطية”، وتم نقل الفكرة -ولو نظرياً- فيما بعد إلى جنوب كوردستان بهدف نسف تجربة “الفيدرالية الكوردستانية” هناك، انطلاقاً بمشروع ما يسمى ب”مجلس إدارة شنكال” وغداً سيتم طرح الفكرة لكركوك ومن ثم للسليمانية  ولبهدينان  ولربما ستتم “كنتنة كوردستان” بأسرها لسبب واحد، هو أن حزب العمال يبحث له عن سيقانٍ جديدة حتى يقوم عليهما ويستمر في المشي، أو أنه منخرط في مؤامرة إقليمية كبيرة وخطيرة للقضاء على أمل الشعب الكوردي في انتزاع حقه في تقرير مصيره على أرض وطنه كوردستان بالشكل الذي يريده وليس كما يفرض عليه من قبل حزبٍ من الأحزاب أو دولةٍ من الدول.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…