الكُرد الوصفيون والإنشائيون

 ابراهيم محمود
 
مع هذا الكم اللافت من الكتابات الكردية النشأة، والمرفقة بأسماء ” أصحابها ” وصورها، يسهل النظر في بنية هذه الكتابات باعتبارها مجرد كتابات في الغالب، وليست مقالات كما تكون المقالات، أي إن احتكمنا إلى مفهوم ” المقالة ” المركَّز، حيث تتبلور من خلال طرح فكرة معينة.
ولعل الجمع المباشر بين الوصف والإنشاء يكون بمثابة العلامة الفارقة في المواقع الانترنتية وغيرها، وعلى سبيل المثال :
إن الإشارة إلى نظام ما بأنه شمولي، أو ديموقراطي، أو اشتراكي، أو جمهوري…الخ، تعني الوصفي فيه ” ما يتصف به سياسياً “، أما الإشارة الأخرى بأنه قمعي، أو دموي، أو تعسفي ..الخ، فهي تعني الإنشائي ” كما في فحوى كلمة : إنشاء لفظي “، كان ينبغي عدم التعويل عليها، لأن المضمون يتكفل بكل ذلك ضمناً، أي من خلال متابعة تحليلية، أو تأويلية، أو تفسيرية أحياناً لما هو تاريخي واجتماعي .. .

 

أين يكمن المشكل ؟
منذ البداية، ودونما حاجة إلى مثال محدد، حتى لا يقال أنه الوحيد، فالأمثلة أكثر من أن تحصَر، من السهل قراءة سيل من المترادفات، أو العبارات التي لا صلة لها بفكرة ” المقال “، كقول أحدهم عن نظام ما بأنه : بعثي، همجي، عروبي، عنصري، شوفيني، متخلف…الخ، فذلك ما يجب ترْكه لعملية البحث أو الدرس، كقول أحدهم في حاكم معين بأنه: مستبد، طاغية، منفرد برأيه، توتاليتاري، يعتبر نفسه فوق الجميع، بالتوازي مع: عنيف، متعسف، سفاك للدماء، يعتمد الإرهاب في التعامل مع الآخرين، لا يؤمن بالحوار، متطرف، يشك في من حوله، يسيطر عليه هاجس الخوف من الآخرين …الخ، علماً أن مجرد اتصاف نظام ما بأنه شمولي، أو توتاليتاري، حتى تتسلسل لائحة من الاعتبارات الأخلاقية: في العنف.
كثيراً ما نتلمس في ” خطاب ” عقائدي كردي، وما أسهل التسميات، مثل هذا الازدحام في الأوصاف والإنشائيات، والغرض، كما لا يخفى على أحد، هو استثارة الناس” الجماهير “، أي ما يجعله شعبوياً تماماً، وما يترتب على ذلك من سوء المردود في التربية العقيدية والمجتمعية والفكرية، أي من توفير الأدوات اللازمة لإبقاء المجتمع دون اسمه، والشعب دون الشعب جراء انقسامات تحزبية .
كما في هذه المتواليات الكمية: الشعب العظيم، الصامد، البطل، الشجاع، الأبي، المكافح، المناضل، الباسل، الحر…الخ، وكأن عبارة” الشعب العظيم ” لا تستحضر” الشعب الشجاع/ المكافح/ الحر….الخ “..
وعلى قدْر تواجد هذه القسيمة المفتوحة من الأوصاف والإنشائيات في خطاب، أو نص معين، يفتقر المقال إلى سلامة الاسم والمسمى، إنما في الجانب الآخر، يفصح عن توجهات قاعدية مريعة، وهي أن ثمة سلطة ثقافية تختزل كل شيء في مثل هذه الإشارات، وتمارس تفعيلاً لأذهان وأعيان واقعاً، ترجمة دقيقة لبنيتها السلوكية. إن شعباً يعيش تحت وطأة هذا الانفجار الوصفي والإنشائي، لا بد أن يصاب بداء الأوصاف والإنشائيات المزمن، كما نشهد تأكيداً على ذلك في سياقات متقابلة في الشارع:
في محاولة أحدهم إهانة سواه وهو يرشقه بسيل من الكلمات التي يمكن إرجاعها إلى معنى واحد: تافه، حقير، ساقط، قذر، منحط، سافل، وضيع، كلب، نجس، رخيص…الخ.
في محاولة  أحدهم إلصاق تهمة نافذة بالآخر لها سوقها ومروجوها: عميل، جاسوس، خائن، عقرب.
أو بالنسبة لمجال آخر: انتهازي، مرتزق، وصولي، حربائي، نمس، حية من تحت تبن..الخ.
ذلك ما يستوقفنا إزاء موضوع آخر: أدبي، ونقدي، وبحثي:
في الكتابات الأدبية: الشعر في الواجهة ” أو ما يُزعَم أنه شعر “، ما أكثر المترافات وأوخمها، وما أيسر تلخيص ” قصيدة ” طويلة في بضع من الجمل، فالألم والوجع، والمكابدة، والمعاناة… يمكن أن يفوَّض أي منها، للحلول محل البقية بشكل عام .
في السياق النقدي ” أو ما يندرج في دائرته “، حين نقرأ في حلقات متتابعة وصفاً من هذا القبيل لنص معين بأنه: رائع، جميل، مدهش،  عظيم، عجيب…الخ، ومع الاعتراف الكامل لذوي اللغة والبلاغة أن ليس من كلمة تحل محل أخرى جهة الدقة ” إن احتكمنا على الأقل إلى كتاب قيّم هو: الهوامل والشوامل، لكل من أبي حيان التوحيدي ومسكويه “، سوى أن ذلك لا يعني ترك الحبل على الغارب، إذ ماذا يعني للمتلقي حين يقول أحدهم” أنا يائس، ومقهور، ومتضايق، ووضعي سيء…الخ ؟” دفعة واحدة، أو ما يشبه ذلك.
عدا عما تقدم، ما يخص بنية المركَّب في المعتبَر نصاً جهة التناقض بين مقاربة وأخرى، حيث النقد بنية فكرية متماسكة، تقوم على ما يبقي النقد نقداً من حيث الدقة، وليس أن يكون مديحاً أو هجاء، إن عومِل نص أدبي ما، كنص أدبي، وثغراته المحتملة.
نعم، ليس في وسع القيمين على المواقع الانترنتية أن يقيّموا كل وارد إليهم، ليجاز أو لا يجاز نص دون آخر نشراً، لكن ذلك يتعلق حتى بما يُسمى بـ” الأدبيات الصحفية وحتى الفكرية المعتبرة، لا بل وحتى الأكاديمية الطابع، وكما تابعتها في أكثر من منحى ” .
هذا يواجهنا بفداحة واقع الكتابة، والتعريف بها، والموقف من النقد بالذات كردياً.
إن مجتمعاً رعوي الطابع، مع هجنة ريفية مجتاحة، ومسحة عارضة من المدنية، يصعب إن لم يكن يستحيل عليه الاستقرار مجتمعاً يجدر به أن يُسمى مجتمعاً له سهمه في دنيا الحضارة، وعالم المدنية، والكرد في الواجهة، إن روعيت فيهم جسامة التحديات التي يعيشونها .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…