من حول كردستان الوطن إلى حلم؟.. الجزء الأول

د. محمود عباس
ملاحظة: هذه الحلقات بحوث فرعية للسلسة التي تصدر تحت عنوان (ماذا فعل المربع الأمني في غربي كردستان؟)
  برزت النزعة الكردستانية) كوطن (في عصر الإمارات الكردية، ونمت حتى نهاية الثورات التي قادها المشايخ، وترسخت في بداية المرحلة القومية-السياسية بمفهومها العصري، تراجع بعدها وبسرعة كمطلب وغاية ومفهوم، وتدنى سقفها في زمن الانشقاقات الحزبية، التي عملت عليها السلطات الاستعمارية بدون هوادة، ظهرت هذه التطورات في مراحل زمنية متتالية، واتسمت كل فترة بخصوصيات معينة.

 

نبذة عن مراحل كردستان كوطن
   بلغ المجتمع الكردي المقاد من قبل شريحة قومية، على أنقاض الإمارات التي غطت كردستان، والثورات، التي ملأت قرنين وأكثر من الزمن، مستويات عليا بمطالبهم وأهدافهم، ناضل قادته بكد ونقاء من اجل تحقيقها، إلى أن أرهبوا مستعمري كردستان، لكن الآمال خيبت على أثر الخسارات المتلاحقة، والمجازر والنزوح الجماعي ضمن أو خارج كردستان، وبعد أن تبعتها عصر من الظلام الثقافي والاقتصادي، وبعد تغييب القادة من كردستان توجه المجتمع إلى تأمين المعيشة اليومية والحفاظ على الحياة المهددة من قبل مستعمريهم بشكل مستمر. مع بداية الثلاثينات من القرن الماضي همدت المعنويات بشكل واضح وساد فراغ سياسي مع الجمود الثقافي المتعمد، فغاب معها الماهية الكردية التي تشكلت في القرنين السابقين، إلى أن صغر في عصرنا هذا الغاية القومية إلى مجرد مطالب مشابهة لمطالب أقلية مهاجرة أو نازحة، وزرعتها الأحزاب الكردية بين المجتمع كمطلب أساسي للشعب الكردي، وحصرتها ضمن الحقوق الثقافية، وتدريس اللغة الكردية، ورسختها كهدف نهائي لنضالهم في كل مناهجها.
قادت بعض العائلات الكبرى الذين لم تكن لهم سيطرة تذكر جماهيريا أو جغرافية مقارنة بقادة الكرد السابقين، انتفاضات لم تتجاوز محيط ديمغرافية القبيلة، على بنية شبه أمية أو جهالة بالسياسة القومية، على خلفية التعتيم المتعمد من قبل المستعمرين، ومحصورين منعزلين ضمن مناطق محددة، مع مخطط فعال لعدم تزايد سقف الإمكانيات الاقتصادية، والتي بقيت عدماً مقارنة بما كان يملكها الأمراء والمشايخ، من حيث الواقع الكردي، وعدم بالنسبة لقوة المستعمر، لكن هذا الواقع الثقافي والاقتصادي، لم تجردهم من حبهم لقوميتهم ووطنهم، ووجود كردستان كوطن في  الشعور اليومي، وليس في الحلم، وبقي  بينهم وبين الأمراء الكرد الذين جردهم السلاطين العثمانيين من حكم إماراتهم قبل أن يقضوا على الإمارات نفسها، خلفية فكرية مشتركة ورباط غريزي ما في اللاشعور تجاه كردستانهم.

 

دور الأمراء الكرد 

 

  الفروقات كانت شاسعة بين القيادتين (إذا سلمنا جدلا أن العائلات الكردية المتنفذة الإقطاعية بشكل خاص قيادات كردية في فترة حدوث الفراغ الكلي في كردستان بعد القضاء على آخر الثورات الكردية وقبل ظهور الأحزاب السياسية القومية) في الوعي العام والثقافة، والدراية بما كان يخطط له المستعمر، فالأمراء كانوا متمسكين بقومتيهم عن دراية علمية وتاريخية، معظمهم كانوا مثقفين كبار وعلماء، إما في الفقه الإسلامي، أو في الأكاديميات العسكرية أو العلمية، أمثال شرف خان البدليسي، وبعضهم شكلوا في عواصم إماراتهم مراكز ثقافية، شبه جامعات، أو معاهد، وجمعوا حولهم خبراء مقارنة بواقع السلطنة العثمانية، مع الإمكانيات الاقتصادية، والتي كانت تبلغ حد قدرات الدولة المتكاملة، وكانوا سياسيين على مستوى الإمبراطورية، ويدركون الألاعيب الدولية والعلاقات الدبلوماسية والصراعات التي كانت بين السلاطين والفرس، حتى ولو كانوا يغطونها بالبعد المذهبي. أغلب الأمراء كانوا على دراية بالخلفية القومية لصراع الدولتين، وهي التي دفعت بهم العمل على نوع من الاستقلالية الذاتية كخطوة أولى نحو التحرر، التحركات التي خلقت رهبة عند السلاطين من أن تتجزأ الإمبراطورية في الشرق، وتتشكل قوة ووطن يجمع الشعب الكردي، ويخلقون قوة منافسة في المنطقة، خاصة بعد أن خسرت الأستانة العديد من أراضيها في أوروبا، والتي كانت تصل أخبارها إلى الأمراء الكرد، المتيقظين والدارسين لها.
  هذه الأبعاد السياسية والفكرية القومية، رغم القضاء على كياناتها، وقادتها، إلا أنها كانت بالقوة التي استمرت لتؤدي إلى قيام الثورات والعديد من الانتفاضات على السيطرة العثمانية المغطاة تحت عباءة الخلافة الإسلامية، كما وتمكن الأمراء من التمييز بينها وبين النزعة القومية واستندوا عليها كأحد الحوافز التي لم يعد يقبلون بالاستعمار العثماني-التركي، فنشروا بين الشعب الانتماء القومي، وواجهوا الدعاية العثمانية الإسلامية، وعمليات تكفير قادة الثورات والانتفاضات.
   لاشك هذه المقومات لا يمكن مقارنتها بالأبعاد القومية التي انتشرت بين الشعوب بعد الموجات القومية التي اجتاحت العالم من منابعها الأوروبية، لكنهم استطاعوا أن ينموا المفاهيم العامة الغريزية عن الانتماء القومي الكردي بين العامة، ونشرت بشكل مدروس بين الشريحة المثقفة القليلة، وطبقها طبقة الأمراء الذين قادوا الثورات في أجزاء عديدة من جغرافية كردستان، من إمارة بابان إلى بدليس إلى آخر الإمارات الكردية، إمارة بوتان، ورغم أن جميعهم باءوا بالفشل، ولم يبلغوا مآربهم، ولم يحققوا كردستان دولة أو مملكة مستقلة، ما بين الدولتين الصفوية أو الفارسية والعثمانية التركية، للسببين واضحين، ذاتي كعدم تكوين القدرة الكلية المقارنة لقوة إمبراطورية واسعة وبجيوش متطورة، وموضوعية: عدم تمكنهم من استقطاب الدول الكبرى إلى جانبهم، ولم تكن لهم القدرات السياسية والدبلوماسية لخلق رباط مصالح بديلة عن مصالح الدول الكبرى مع الدولة العثمانية، أو الفارسية،  لكنهم مع ذلك شكلوا بدايات جغرافية سميت ب(كردستان) وعملوا نهضة فكرية في مفاهيم الانتماء العرقي، المميز عن الدولتين الشيعية الفارسية والسنية التركية، وكانت حنكة منهم محاولات الفصل بين البعد القومي والمذهبي وبدراية، وهذه تعد ركيزة تاريخية، تأثيراتها حاضرة حتى اللحظة، بل وتعد أحد أهم عوامل تكوين أولي لجغرافية كردستان بديمغرافية ذاتية مميزة، وتاريخ منفصل، عن المذهبين، والدولتين القوميتين، رغم ما شابها العديد من الاجتياحات الفكرية الدينية، والدعاية المذهبية بين الكرد من قبل المستعمرين.

 

مرحلة نمو النزعة الكردستانية كوطن  

 

بعد القضاء على القوى الكردية عن طريق تدمير الإمارات، بدأت الإمبراطورية العثمانية الإسلامية شكلاً، تبث المفاهيم المذهبية في كردستان، لتربطها بذاتها ليس فقط عن طريق الرباط الإسلامي العام، بل على بنية مذهب ذاتي خاص بالإمبراطورية تقف…

 

يتبع…

 

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
نشرت في جريدة بينوسا نو العدد(32) الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…