ماذا فعل المربع الأمني بغربي كردستان؟.. الجزء الأول

د. محمود عباس

مجرد فتح ملف حارة الأشباح، تنبعث أكره الروائح، فهي مليئة بالمؤامرات وقضايا الفساد والنفاق وستجر بالفرد إلى طرح أسئلة لا نهاية لها، العديد من القراء حتما سيقولون نسيت هذه القضية أو تلك، والتي تحتاج إلى مجلدات لتبيان مساوئ وشرور المربع الأمني القابع خلف السرايا القديمة، فتاريخه يمتد إلى ما قبل الأسدين، رافقت ظهور الحركة السياسية الكردية، لكن الأخبث فيها بدأت منذ مجيء الأسد الأب، ويوم حصل المربع ومنذ ثلاثة عقود وأكثر من الزمن على الحصانة الفيدرالية وتأليه محمد منصورة على غرب كردستان، فكان بداية العبث بالمنطقة والحركتين الكرديتين وبالشعب الكردي.
يتحير الفرد من أين يبدأ، ويعتم على من؟ ويفضح من؟ فالسلطة الشمولية دخلت كل قرية وبيت، وتغلغلت في كل زاوية من زوايا غرب كردستان، حركت الأحزاب كدمى وبدون اعتراض، كتمت أصوات قسم من الحركة الثقافية في الداخل وفتحت أخرى لتنشر المطلوب، وأرهبت قسم من الخارج بالتهديدات المبطنة، خلقت الكره بين الطبقات الاجتماعية الكردية، والشكوك بين الأخ وأخيه، وهي تقف وحتى الأن كنصف إله مطلق على كل شاردة وواردة في المنطقة. ويبقى السؤال المحير من لم يقتنص في حبائل المربع الأمني؟ فربما الأغلبية معذورين في بعضه، بسبب المكر والخباثة في التعامل المتجاوزة قدرات غرب كردستان وضآلة إمكانيات الوقوف في وجهه، فالحاكم في المربع هو نصف الإله والأبن اللقيط للسلطة الشمولية، المستمدة خبراتها من أعتاب الحروب الوهمية مع الجوار، والتي أرضخت الشعب السوري تحت عباءة ثقافة الصمود والمقاومة، وعلى خلفيتها نبشت القبور لكل من لا يذعن للإملاءات، وأرفقتها بالاغتيالات والاعتقالات والاختفاءات الكلية المطالة حسب إعلامها الخونة فقط. اكتفت في البداية باحتكار ألسنة الشعب، ليكرسها في الجيل اللاحق بثقافة القبول والإذعان لطغيان سلطة طائفية، واستبداد مجرم في هيئة سياسي.
 تاريخ المربع الأمني في غربي كردستان هو تاريخ مستعمر إداري، طور ليكون ثقافيا وسياسيا وديمغرافيا واقتصاديا، وعلى مراحل، فمع الحركتين الثقافية والسياسية مليئة بالمؤامرات والدسائس، ومع الشعب بالتلاعب بثقافتهم ومفاهيمهم، ومع العائلات والشخصيات المقتدرة من الشعب بإذلالهم وتشويه سمعتهم أمام الأهل والأمة أو تهجيرهم، دمرت كل الأطراف اقتصاديا وأذلتهم بعوز مادي مهين، وكل مؤامرة تحتاج إلى صفحات وصفحات.
   درست بدقة المجتمع الكردي وتاريخه ومراكز القوة والضعف بين الشعب، ورتبتها حسب السويات التي يستند عليها في استمرارية نضاله، ركزت على الأهم ونهشت فيه، حاربتها بدون هوادة، فبدأت بزعماء العشائر والعائلات المتنفذة، الممتلكة للقوتين المادية والجماهيرية، والتي كانت لها دور كبير في الحراك القومي، فكان للعديد من شخصياتهم مركز الثقل الأهم بين الشعب الكردي، وعلى استعداد لمواجهة مخططات السلطة الشمولية، على مراكز السلطة في المنطقة، إما من الناحية القومية لدى البعض أو من الواقع الاجتماعي، فبدأت السلطة عن طريق مربعاتها الأمنية بالتخطيط لإزالتهم من الساحة، أدركت مراكز القوة فيهم، السندين المادي والجماهيري، فطبقت طريقة السلاطين العثمانيين أثناء عملياتها في تدمير الإمارات الكردية المتزايدة نفوذها في نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر، وهم في بداية وعيهم الكردي والكردستاني، وظهور بوادر تحولهم من منطق الإمارة إلى تشكيل ملكية كردستانية، والتي كانت ستؤدي إلى مواجهة سيطرة العثمانيين الاسمية على إماراتهم والامتناع أو التذمر في دفع الإتاوات، فكانت الخطة العثمانية لاحتلال الإمارات عن طريق إرسال قوات عسكرية مباشرة، مهدوا لها فرض أتاوات ضخمة يعجزون عن دفعها، لتظهر الحجة للجيش المتواجد في الإمارة بالسيطرة على المركز، وإخضاع الأمير والعائلة لأوامر الباشا المعين سلفا من الأستانة، وهكذا إمارة بعد أخرى، فبدلت الأستانة أشكال الحكم فيهم من إمارات لعائلات كردية إلى باشوات أتراك من الجيش  يعينون مباشرة من قبل السلاطين، وخلال أقل من عقدين من الزمن انتهت سيطرة العائلات الكردية على إماراتهم، وبسنوات كانت نهاية الصفة الكردية عنهم جميعا وأخرها كانت إمارة بوتان، ولم يكتفوا بهذا بل شتتوا أفراد العائلات عن بعضها والحقوا بها عمليات التهجير والنفي إلى البلدان المجاورة والجزر النائية، فبقي الشعب بدون قيادات وأولياء أمر، وبعدها أصبح  سهلا لهم إخضاع الشعب لأوامر الباشوات الغرباء. وهنا في غرب كردستان وبطريقة مشابهة، تغلغل البعث والسلطة التنفيذية بفروعها الأمنية، داخل المجتمع الكردي، فنشروا ثقافة الحقد الطبقي، وزيدوا وتيرتها إلى الصراع الطبقي، وكان ذلك تحت يافطة نشر الثقافة الاشتراكية، وهي في الواقع ثقافة البعث العربي الاشتراكي، ليقضوا على مراكز القوة المادية والمعنوية بين الشعب، وهي الأراضي والتلاحم القومي، فاستولوا، بعدة طرق وتحت يافطة صدروا القوانين المتتالية وعلى مراحل، على أكثر من نصف أراضي غرب كردستان، وتحت طروحات مغايرة في كل فترة، وخلال أقل من عقد من الزمن كانت العائلات الكردية المتنفذة ومعهم شريحة واسعة من عائلات الفلاحين المقتدرين بدون أرض، وفي عوز، ومعهم تناقص الدخل الشعبي العام بين الكرد عامة وليس فقط بين العائلات الإقطاعية، بل اجتاحت الموجة الأغلبية من الشعب، فالأراضي مدخولها أرسل إلى خارج المنطقة، ولم تكن هذه الطريقة سهلة بدون سند قوي من الدعاية الإعلامية ونشر الأفكار الطبقية، تحت مفاهيم المساواة بين الإقطاعيين والفلاحين، والتي كانت في الواقع مفاهيم استعمارية خبيثة وغارقة في العنصرية المشوبة بالاشتراكية المشوهة التي أفادت العنصر العربي القادم من الخارج والسلطات الأمنية، كما ومهدوا لنخر البعد الوطني عند العائلات المتنفذة من الإقطاعيين وبعض الميسورين الحال من الكرد ومجموعات من عائلات الفلاحين، عملوا على تذليل الركيزتين بين الكرد، وتجميل عملية الاستيلاء على أراضي الإقطاعيين المجردين من نزعة الانتماء الوطني، وحركوا قسم واسع من الحركة الثقافية لدعمهم فكريا، وثقافيا، وسياسيا، لتشويه سمعة العائلات تحت مفهوم الاستغلال الطبقي للفلاحين، بل وتجاوزوا هذا البعد إلى البعد القومي، فحاولوا تجريدهم من القيم القومية، إلى أن وصلوا  في بعض المراحل وعند شريحة معينة من المثقفين الكرد بتخوين كل من ينتمي إلى العائلات الكبيرة، بدون أن تحاط أو تسند التهم بقناعات أو اسنادات منطقية، والغريب أن هذه الترسبات الثقافية البعثية لا تزال موجودة عند شريحة من المثقفين الكرد حتى اليوم. فالتخوين أصبح عن طريق الدم والنسب، وليس عن طريق النضال أو التقاعس، ولم يدركوا يوما أن الصراع الطبقي الذي فتت المجتمع الكردي ووهن قواه النضالية وهمشت كلمته في الداخل والخارج، كان يقوده البعث والسلطة الشمولية والمتنفذين من قادة المربع الأمني، لكن الدعاية الضخمة والثقافة الموبوءة التي نشروها جعلوا من العائلات الكردية الكبرى إقطاعيين أشرار ومستغلين لكد الفلاحين الكرد، علما أن تجريد الإقطاعيين من الأراضي لم تؤدي إلى تمكين الفلاح اقتصاديا، فقد نقل معظمهم إلى مناطق البور ذات نسبة الأمطار القليلة والأقل من  الملائمة للزراعة. 
   ساهمت قسم آخر من الحركة الثقافية الكردية والمتنفذة، والتي كانت لها صوتها وسمعتها في المجتمع وضمن الحركة السياسية، بشكل اعتباطي وبدون دراية وبعضها لذاتية وإبراز الأنا بين المجتمع، في هذه الهجمة وسهلت على السلطة الشمولية تنفيذ مخططها الموجه في بعده العام ضد الكرد وقضيتهم القومية، استمرت المؤامرة على المنطقة من خلال تفتيت القوة الكردية هذه لإزالتها كليا حتى قبل بداية الثورة السورية. 
  لم تكتفي بالقضاء على العائلات الكبرى، ماديا ومعنويا، وخلق الصراع بينهم وبين أهلهم وعشيرتهم من الفلاحين، بل تجاوزتها، فلم تحلى لهم وجودهم ضمن المنطقة، خاصة وأن معظم الجيل اللاحق بعد عمليات الاستيلاء بدأوا بالتلاؤم والتأقلم مع الواقع والظروف وتدرجوا في المراكز العلمية وانخرطوا في مجالات عديدة كالعمل الوظيفي، أو الأعمال الحرة، وغيرها من المجالات، والأغلبية عادت وتمكنت من الوقوف على أشلاء الماضي، فبدأت المرحلة الأخطر للسلطة، انخراط الأغلبية المثقفة منهم في العمل السياسي والحزبي، اصبحوا يشكلون خطرا جديدا وبطريقة مغايرة، انتبهت السلطة إلى الواقع الجديد فوسعت …

يتبع…

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…