المؤامرات السرية في الشرق الأوسط

د. محمود عباس 

  تعدل الإدارة الأمريكية من استراتيجيتها، في الشرق، لمواجهة التيارات الإسلامية السياسية والسلطة السورية وداعميها، كتكتيك للحد من توسعهم، حتى الليبرالية منها، والتي اقتنعت بعدم جدواها، وتأكد مستشارو البيت الأبيض بعد جدالات واسعة أنه لا خلاف جوهري بين التيارات الدينية الإسلامية السياسية الليبرالية كمثال تركيا أو الراديكالية التي سيطرت بعضها على المعارضة السورية المسلحة، والدارجة تحت قائمة الإرهاب. 
   التغيير النوعي من ضمن أحد أسباب الخلاف بين حكومة أردوغان وإدارة أوباما في حربها على المنظمات الإرهابية، والملغية بها منطق الإتيان بالإسلام السياسي الليبرالي القادر على التعامل مع الأطراف العلمانية، كبديل مرحلي للسلطات المستبدة.
فتبينت لإدارة أوباما، وتحت ضغوطات الجمهوريين، أنهم يتبعون تكتيك خاطئ، ظهر لهم هذا بعد وصول الإسلاميين إلى حكم مصر، وبدعم أمريكي، ومثلها تجربتي ليبيا واليمن، فكانت المرحلة القصيرة من سيطرتهم كافيا أن تظهر حقيقة ليبرالية القوة الإسلامية السياسية، وخلفية حكومة أردوغان الإسلامية الموجودة، والتي تجابهها القوة العلمانية في الدستور والبرلمان والأحزاب المعارضة، وتجبرها على انتهاج منطق التوازن في الحكم.
   كانت هناك مقارنة بين هذا النمط في الحكم والأنماط التي ظهرت أو الموجودة في العالم العربي ضمن المعاهد الاستراتيجية الأمريكية، فدفعت بالإدارة الأمريكية الحاضرة إلى الدراسات المسهبة، واقتنعت بأن تعدل كلية  سياستها في الشرق، وفي الثورة السورية بشكل خاص، وهنا وللأسف استفادت في بعضه الأنظمة الشمولية المنهارة في المنطقة أو الجارية كنظام بشار الأسد، خاصة بعد جرفه بالثورة السورية من صراع بين الشعب والطغيان إلى صراع بين المنظمات الإسلامية بكل أنواعها ونظامه، فلا يهمها أن يظهر في الإعلام على أنه  صراع بين فاسد وأفسد، بل المهم للسلطة الشمولية استمرارية البقاء، فهي على دراية تامة بأنها كانت تدرج كطاغية في الأروقة السياسية العالمية، وكان يعرف عندهم سابقا بالدكتاتور المستبد، مع ذلك كان التعامل معه بلا حواجز تذكر، اقتصاديا وسياسيا.
  خلقت الإدارة الأمريكية ضجة إعلامية حول استراتيجيتها في سوريا، وهي المعروفة بانها لا تدخل حربا بدون وجود مثلها، وعلى أعلى المستويات، وهذا ما صرح به أوباما ذاته، فالحقيقة لم تكن في غيابها، بقدر ما كان تغييرا جوهريا فيها، خاصة بعد أن أدرجت سوريا ضمن جغرافية التي ستحارب فيها أمريكا وحلفائها المنظمات الإرهابية وعلى رأسهم داعش، المنظمة المعروفة من قبل أل سي أي إي، بكل أبعادها، من خلقها ومن يدعمها ويغذيها، والأجندات التي تقع على عاتقها لتنفيذها، وهي المنظمة الإرهابية الأكثر حيرة عند المحللين، فهي تمتد من غايات البعث الصدامي إلى أعمق الراديكاليين الإسلاميين، ومن أدوات بيد  السلطة السورية وأئمة ولاية الفقيه والمدعومة من روسيا سلاحا ولوجستيا، إلى خدمات جانبية للسعودية وتركيا، وكل جهة تحصل على مبتغاها من شرورها وإرهابها، وعليه أصبحت أسرع المنظمات العالمية غناً وقوة في فترة زمنية قصيرة. وهذه الأجندات المتناقضة أدت إلى أن يعيد كل طرف إلى علاقاته المخفية معها، وأصبحت الدول ذاتها تستخدمها كورقة ضغط بين بعضهم، فتركيا تستخدمها لإرضاخ أمريكا على قبول استراتيجيتها في سوريا وتكتيكها مع الكرد، في تركيا وسوريا بل وفي العراق أيضا، وإيران تستخدمها للحصول على تنازلات لمفاعلها النووية، والسلطة السورية تدعمها كورقة للبقاء في الحكم بمنطلقين: تخويف أمريكا من أن يكون هؤلاء هم بديله في سوريا القادمة، والثانية سيكونون أداة لضرب كل المكونات القومية والمذهبية في الشرق.  وفي الحاضر الجاري انتبهت أمريكا على مدى خسارتها في هذا الصراع، وأدركت بأنه يجب أن تعيد النظر في كلية استراتيجيتها، وعليه فالتحدث عن البديل ليس صحيحا، بل هو تغيير في الدارج والمتعامل عليه في الشرق، وتبينت على عدة محاور، منذ إعلانها محاربة داعش ضمن سوريا.
1-   الخلافات في الإدارة الأمريكية والتي أدت إلى استقالة أو تغيير وزير دفاعها تشاك هيغل، والذي كان يمثل استراتيجية التغيير في السلطة السورية والمؤدية إلى إضعاف المنظمات الإرهابية، وهي سياسة الجمهوريين الليبراليين والمعارض لفتح أية أقنية مع السلطة السورية أو إيران، تعاديها في هذا مستشارة أوباما للأمن القومي سوزان رايس والمتمسكة باستراتيجية البيت الأبيض، حيث يرون أن غياب السلطة والإرهابيين يجب أن يتزامنا. 
2-   أمريكا فتحت مجاري عسكرية وتبادل معلومات استخباراتية مع السلطتين السورية والإيرانية، رغم أن مستشارة الأمن القومي تنفيها كليا، لكن الإعلام تبدي شكوكها وتبين عن رؤوس خيوط لهذه العلاقات، واغلبها حول المنظمات الإسلامية الإرهابية وعلى رأسهم داعش.
3-    مهدت لسوريا وإيران على إظهار ذاتهما كحليفين غير معتبرين لمحاربة الإرهاب وبتدرج، وتبينت بوادرها عند عدم اعتراض أمريكا على خرق الطيران السوري للمجال الذي حدده أمريكا لذاتها في السماء السورية، فقامت السلطة السورية بضرب داعش في الرقة، علما أنها تخلت عن الرقة وسلمتها لداعش مع الفرقة 17 واللواء 93، ولا سلطة لها على أجوائها بعد دخول طيران الحلفاء على 80% منها وبموافقتها وإيران وروسيا. وهي نفسها التي فعلتها إيران بسلاحها الجوي عند قصفها لمواقع لداعش مؤخراً في الأنبار على الحدود مع سوريا. وفي الحالتين اكتفت أمريكا بتبيانها إعلاميا وهي المتمكنة من إسقاط أي طيران غير معتبر في هذه الأجواء كاحتياط أمني لطيرانها هناك. والغاية من الغارتين: أولا إظهارها للعالم انهم يشاركون الحلف المحارب ضد الإرهاب، حتى ولو كان غير رسمي، والثاني أنهم الأن على علاقة مع الأمريكيين في بعض المجالات العسكرية.
4-   تقريب الاستراتيجية الأمريكية والروسية من بعضها، وهي تتضمن الاتفاقية على كلية الخلافات، من أوكرانيا وشرق أوروبا إلى الشرق وكل دول الربيع العربي، ولهذا نشاهد خمود الحرب الإعلامية السابقة بين الدولتين إلا ما ندر وللضرورة الإعلامية.
وعليه فالتغييرات التي ستحصل في الاستراتيجية والمتفقة عليها بين أمريكا وروسيا، والتي تبين عن تراجع فاضح لسياسة إدارة أوباما، بسبب الخسارة الواضحة لإدارته في الشرق، ستدفع أمريكا ثمنها مستقبلا، والتغيير المتفق عليه بين الدول الكبرى، يتضمن أبعاد رأس السلطة السورية وليست كلية السلطة ومزجها ببعض المعارضة المعتدلة والتي قد تكون من شريحة البعث السني السابق، وبعض الوطنيين العلمانيين، وهذه ما تؤدي إلى تحرك تركيا وبعض الدول العربية كالسعودية وقطر لخلق جبهة مناوئة تساند المعارضة الإسلامية، وتبلغها أبعاد هذه الاستراتيجية السرية، كرفض للجاري. 
  كما وتتضمن الاستراتيجية قطع الطريق على كل التيارات الإسلامية في قيادة المعارضة السورية، وعدم بلوغها المراحل التي مرت بها مصر سابقا وليبيا الجارية، أي عمليا عزل تجربة الإسلام السياسي بأي نوعية كان للاستيلاء على السلطة، وهي قناعة بأنها ستكون عودة إلى الماضي الدكتاتوري نفسه بوجوه جديدة مع عداوة للغرب، وسيستمر الدمار في سوريا إلى أن يتكون البديل المطلوب عن السلطة والتيارات الإسلامية معا، قادر على حكم سوريا القادمة، ومتفق عليها روسيا وأئمة ولاية الفقيه، وبمعارضة واضحة من الدول المساندة للمعارضة الإسلامية المسلحة كتركيا وقطر وتذبذب السعودية.
   ولا شك هذا التغيير في الاستراتيجية تحتاج إلى تمهيد زمني وتحضير للوعي البشري، ومحاولات لتغيير المعارضة الخارجية التابعة والمتضاربة، والتأثير في المعارضة المسلحة بإضعاف الأكثر راديكالية وإبعاد القوى المحاربة من العامة عنهم، ستؤدي هذه ثانية إلى مرحلة انتقالية جديدة سيزداد فيها معاناة الشعب السوري، فهم الوحيدون الذين يدفعون ضريبة هذا الصراع الذي خرج من بين أيديهم، فهم الضحية وأمامهم جلاد بعدة أوجه، لن يكون هناك انتصار، فالصراع جرف إلى حرب طائفية أهلية بامتياز حيث الجميع خاسرون.
 فسوريا المدمرة شعباً وأرضا وبنية تحتية تحتاج إلى ما لا يقل عن نصف قرن من إعادة بناءه، مع أموال ضخمة تتجاوز قدرات الدخل القومي السوري لأكثر من قرن. فالمهاجر والمهجر سيبقى يعاني على مدى أجيال قادمة، وعوائل الشهداء سوف لن يكون لهم معيل في سوريا المدمرة، مع عدمية الاحتياط المادي وغياب السلطة الوطنية، وطغيان القوى الخارجية الجشعة. والجرحى وهم اشد الناس معاناة وأكثرهم فقدانا للأمل في هذه الظروف، يحملون كل آلام الأمة، النفسية والفكرية والمادية، سيداوون جراحهم بأيديهم وببعض القريب، فأعدادهم تتجاوز قدرات أكبر وأغنى دول العالم تطورا. مأساة أمة ستبقى عالقة، بشعة في وجه التاريخ. كيف سيكتب تاريخ بشار الأسد وعائلته ومن حوله من المجرمين، ودول وسياسيين ومرتزقة وتجار حروب وأحزاب انتهازية؟! وهل ستكون هناك قوة داخلية أو دولية قادرة على أن تقدم أحد من كل هؤلاء المذنبين إلى المحاكم الدولية أو الوطنية كمجرمي حرب.  
د. محمود عباس 
الولايات المتحدة الأمريكية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…