فرمان صالح بونجق
ثمة دلالات ومؤشرات عديدة تنبئنا ، أن العقل الكوردي يتعرض للأتمتة من جديد ، بعدما انفضّتْ عن بعضه مراكمات ثقيلة منذ أكثر من نصف قرن ، وحاول هذا العقل جاهداً ، منفرداَ أو مجتمعاً ، الولوج إلى مرحلة جديدة ، سيماؤها تدشين نمطٍ منفتح من العقلانية ، التي ترتكز أساساً على حرية التفكير ، وحرية التعبير ، كمقدمات لحرية الاختيار والتفاعل ، وصولاً إلى حرية الإبداع ، وإن في مراحل لاحقة .
ويبدو ومن خلال ما يظهرعلى السطح ، أن هناك عدة مدارس تسعى لأتمتة هذا العقل المتمرد بطبيعته ، إرتكازاً على قاعدة إحياء الموروثات التي تفتّتَ الجزء الأعظم منها ، بفعل امتدادات ماحدث في 2004 وما بعدها ، والتي تعتبر بحق مرحلة إرهاصات 2011 وما بعدها أيضاً. والتي قطعت الطريق نسبياً أمام المحاولات اليائسة التي دأبت على إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء ، وإعادة إنتاج نمط جديد من أنماط التدجين ، وتسويقه على أنه جزء من الثورة ، بل على أنه الثورة نفسها .
المدرسة الشمولية بنسختها الكوردية ، والتي هي امتداد لمدرسة البعث الشمولي ، وربما النسخة الكوردية من هذه الفلسفة ، تحاول جاهدة وضمن محيط يمكن أن يتواءم مع تطلعاتها ، خلقَ النموذج الستاليني على بقعة جغرافية صغيرة نسبياً ، خالية من خيارات أتيحت للستالينية من خلالها “منافي سيبيريا” ، وأيضاً خالية من خيارت امتلاك ” السلطة والثروة والسلاح ” بشكل فعلي ، على غرار الشموليات العريقة الأخرى ، لذا فقد سعت هذه المدرسة على إثبات ذاتها ، بسفك المزيد من دماء الوطنيين ، وبممارسة المزيد من العنف ، والعنف فقط ، والذي لن يؤدي إلاّ إلى العنف المضاد .
أمام هذه الحالة المأساة ، برزت مدرسة أخرى اتسمت بالمرونة والاعتدال نسبياً ، ولكنها لم تستطع امتلاك أوراق كثيرة في سياق “الصراع على السلطة” ، وبالتالي فقدت هوامش الخيارات المتعددة ، وارتكزت في مناكفاتها على الصوت المرتفع ، والذي يشبه إلى حدما الصراخ ، كتعبير عن الرفض السلبي ، إزاء ما يجري ، دون الارتكاز إلى عناصر القوة المجتمعية المتوفرة ، والتي كان من الممكن توظيفها لصالحها في فترات معينة ، إلاّ أن غياب الحد الأدنى من الرؤية السياسية ، وغياب المشروع السياسي الوطني ــ القومي أفقدها الكثير من مواقعها. وأفقدها الكثير من الفرص المتاحة أيضاَ .
هذا الصراع السلطوي بين هاتين المدرستين ، والتي بدأت مبكراً من جانب إحداهما ، استلزمت البدء بمحاولات أتمتة العقل الكوردي ، في محاولات للسيطرة عليه ، واعتبار أن الكمّ قد يرجح الكفة على حساب الكيف ، على قاعدة امتلاك القاعدة الجماهيرية العريضة ، وفي كلتا ” الحالتين المدرستين ” ، تم رفع سقف استخدام الشعارات الثورية ، والوطنية ، والقومية ، والأممية أحياناً ، ولم يغب المال السياسي عن هذه المعركة ، حتى استُميلت شرائح واسعة من أشباه المثقفين من الكتّاب والشعراء والفنانين ، ودفعها إلى الواجهة ، بقصد الترويج لاغير .
ثمة ما يشير إلى أن ” النخبة العاقلة ” ، هي الشريحة الوحيدة التي نأت بنفسها ، تارةً بالمجاراة ، وتارةً بالمهادنة ، وتاراتٍ كثيرة بالفرار ، حيث بات العشرات إن لم يكن المئات من هؤلاء خارج دائرة الصراع ، وهذا في حد ذاته شكل من أشكال أتمتة العقل ، أو تحييده في أفضل الأحوال . وتبين أنها ليست نخبة عاقلة كما كان ينبغي . أو كما كان أن يجب .
كمحصلة ينبغي القول : أنه وعلى مرّ العصور، وتاريخ البشرية زاخر بهذه الحالات ، وسجلات كافة شعوب المعمورة تقر بهذا المبدأ ، أن الضرورات التاريخية تفرز شريحة متمرّدة ، تتميز بالنضوج الفكري والذي يسبق النضوج السياسي ، تبحث عمّن يقودها إلى الخلاص ، عبر إنتاج ظاهرة تاريخية فريدة ، تتسع يوماً بعد يوم ، وتتقدم إلى الأمام ، في حين يتسكع الآخرون على سرد سيّر أمجادهم الزائفة ، هذه الشريحة المتماسكة والمتصالحة مع ذاتها ، والتي لازالت تقاوم من أجل الانفلإت من ظاهرة أتمتة عقولها قسراً ، هي التي ستنجز ماهو مطلوب تاريخياً ، بحيث يمكنها تصويب الأخطاء الفادحة ، وإعادة دوران عجلة التاريخ إلى إتجاهها الصحيح غصباً عنها .