جان كورد
مما لاريب فيه أن معظم أسباب الانشقاقات والانشطارات التنظيمية في حركتنا الوطنية الكوردية “السورية” تكمن في ضعفها المستمر أمام القوى المعادية المتربصة بها، منذ نشوء أوّل حزبٍ لها في خمسينيات القرن الماضي، وهو الضعف المتعدد الوجوه والأسباب والنتائج، فهذه الحركة لم تلد كحركة مقاومة مسلّحة لتدافع بما لديها من أسباب القوة عن نفسها وسياساتها وكوادرها وقواعدها، كما كان شأن الحركات اليسارية والشيوعية المسلّحة في أمريكا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا وفلسطين وسواها، ولم تنشأ في مساحةٍ ديموقراطية يظللها دستور يسمح للأحزاب السياسية بالعمل الديموقراطي وبتطوير أنفسها، كما في الهند واليابان وأوروبا الغربية مثلاً، وإنما تولّدت كرد فعل على سياسات الاقصاء والاضطهاد التي اتبعتها الحكومات المتتالية على كرسي الحكم في سوريا ضد الشعب الكوردي، من بورجوازية محافظة تتحكّم بها عقلية شوفينية، وتسيطر عليها النزعات المناطقية والمذهبية والعنصرية، وبورجوازية صغيرة تتقنّع بالشعارات الاشتراكية وهي أبعد ما تكون عن الاشتراكية وحقوق الإنسان المستضعف،
ولذلك فقد ظلّت هذه الحركة أسيرة عالمٍ لا يحترم المعايير الديموقراطية الحقيقية، بل لا يحترم أي نصٍ تشريعي أو قانوني ينتجه ويضعه بنفسه، إلا بقدر ما يتوافق ومصالح الحاكمين الذين كان ولا يزال ديدنهم الاستبداد والفساد طوال تاريخ سوريا الحديث، منذ الاستقلال في عام 1946. وعليه يمكن القول بأن دسائس النظم المتعاقبة على البلاد السورية وقمعها المستمر للحريات السياسية وللحق في التنظيم وتنكرها لحق التعبير عن الذات القومية لشعبنا الكوردي، قد سهل التسلّط على أحزابنا الوطنية الكوردية وارغم قياداتها على تغيير سياساتها أو تلطيف أساليب معالجتها لأخطاء النظام السياسي العام وتقزيم حجمها وبالتالي تفتيتها وبعثرة قواها بكل السبل، حتى صارت التنظيمات الكوردية نسخاً متشابهة من بعضها البعض، ومنشقة على نفسها مراتٍ ومرات، ومرتبطة بهذا الجهاز الأمني أو ذاك، سراً أو علناً. بل إنها كانت تفرض على ممثلياتها في خارج البلاد أن تحذو حذوها في التواطؤ مع النظام بذريعة “العمل ضمن الإطار المسموح لها من قبل النظام المدعوم من المعسكر الاشتراكي ومن دول من خارجه تزعم أنها ديموقراطية وتؤيد حقوق الأقليات العرقية والدينية”، وتمكنت قيادات الأحزاب التي صارت بلا حول أو قوة تقمع بدورها كل عملية داخلية من بين صفوفها لتصحيح مساراتها السياسية وأساليب نضالاتها، وأتذكر أن محاولة الشباب المنظّم في حزبٍ من الأحزاب الكوردية “الديموقراطية جداَ!” لتغيير أسلوب النضال لحزبهم من “نضال سياسي” إلى “نضال سياسي ثوري” قد باءت بالفشل التام قبيل قيام الجنرال حافظ الأسد بانقلابه على رفاقه البعثيين تحت يافطة ” الحركة التصحيحية” في عام 1970 م. كما باءت بالفشل محاولة “الحد من تدخّل قيادات الأحزاب في نشاطات ممثليات أحزابٍ كوردية سورية خارج البلاد، بعد أكثر من 30 سنة من تلك المحاولة الشبابية، بذريعة “يجب مراعاة الظروف الإقليمية والدولية التي تمرّ بها سوريا الأسد” وذلك على الرغم من الاختلاف التام للأطر الظرفية بين المرحلتين زمنياً وكذلك الاختلاف بين تنظيمات الداخل والخارج مكانياً من توافر للحريات واستعداد للقيام بالتظاهرات وإصدار المجلات وشت النظام وتعرية سياساته دون عقوبات في مختلف عواصم العالم الحر الديموقراطي… فالحركة الكوردية “السورية” كانت مسكونة داخلياً بالروح الشريرة الفاسدة لنظام الأسد البعثي المتخلف عن ركب الحضارة البشرية.
إلا أن الأوضاع قد تغيّرت منذ اندلاع الثورة السورية فقد اختل النظام الأمني – العسكري، وظهرت معارضة وطنية قوية للنظام كما تشكّل الجيش السوري الحر، ولكن قيادات حركتنا الوطنية الكوردية لم تستوعب تماماً أن “الربيع العربي” سيجرف نظام الأسد مهما طال عمره واشتدت قوته لأنه يسير بعكس طموحات الأجيال الشابة في الحرية وعلى خلاف مسار التاريخ، ووجوده يتعارض مع القيم الإنسانية للمجتمعات الحديثة، واقتصاده متدهور، وإداراته فاسدة، والعنف لا يمكن أن يقضي على إرادة شعبٍ من الشعوب مهما تعاظم. فتم تشتت الحركة الكوردية في ظل الثورة أيضاً، سياسياً قبل كل شيء، مما أدى إلى حدوث انفجارات بركانية في تنظيماتها، كان لابد من تقليل خسائرها بالإعلان عن قيام تحالفات ومجالس فوقية للحركة بأسماء وأشكال متعددة، وذلك بدون أن يكون هناك أساس سياسي ثابت لها. والغريب أن أكبر مجلسين كورديين سوريين (المجلس الوطني الكوردي ومجلس شعب غرب كوردستان) لم يتفقا حتى اليوم بعد ما يقارب ال4 سنوات من عمر الثورة السورية، ورغم كل الجهود الخيرة التي بذلتها قيادة إقليم جنوب كوردستان في ظل الرئيس مسعود البارزاني، ورغم الأخطار المحدقة بوجود الشعب الكوردي والناجمة عن عدوان تنظيم الدولة الإسلامية على المنطقة الكوردية في شمال البلاد، حيث تحوّل الصراع السوري الداخلي هناك إلى صراع دولي مرير، وعلى الرغم من التقارب الكبير بين ما يقوله الطرفان (المجلسان) بصوتٍ عال، إذ يقول حكماء من المجلس الوطني بأن على الحركة الكوردية الاحتفاظ ب”استقلالية القرار القومي” أي بجملة صريحة: عدم الانخراط في تحالفات ملزمة مع المعارضة الوطنية السورية المطالبة بإسقاط النظام ورفض الحوار معه، في حين أن الطرف الآخر الذي أسس لنفسه “إدارة ذاتية ديموقراطية” ليس فيها ما يدل على كونها “إدارة قومية كوردية” رغم أن مجلسه يدعى بمجلس “شعب غرب كوردستان!!!” يكرر على مسامع العالم بأنه ينتهج سياسة “الطرف الثالث!” بمعنى ألا يلتزم بأي معارضة تطالب بإسقاط الأسد، فالمجلسان من هذه الناحية متشابهان في المواقف حيال السلطة، وهذا يعيق فعاليات كوادرها الناشطين الذين يسهرون على إيجاد أرضية مشتركة مع المعارضة الوطنية الديموقراطية في البلاد، والانخراط في التيار العام العامل من أجل “إسقاط النظام”. وهنا تظهر ملامح الانشقاقات من جديد في صفوف الأحزاب الكوردية على الرغم من أن ضغط النظام على قياداتها قد انحسر وهزل إلى حدٍ ما. وأعتقد أن هناك الآن عدة تنظيمات كوردية على وشك الانشقاق أو الانشطار.
فالموضوع كما أراه ليس مرتبطاً بقمع النظام وحده، وإنما بفقدان سياسة شاملة بدعائم متينة ترتكز عليها التحالفات والمجالس، وهي برأيي ركائز قليلة ولكنها هامة لتدعيم أسس البيت الكوردي، وهي:
1-الموقف من النظام: إسقاطه أم الحوار معه كطرف كوردي أو كفصيل في المعارضة السورية؟
2-الموقف من عدوان تنظيم الدولة الإسلامية ومن على شاكلته والتحالف مع الجيش السوري الحر.
3-الموقف من الحلول الدولية المطروحة والمساعي الحالية لتحقيق هدنة تدوم مدة محددة، في منطقة سورية أو أكثر.
4-تنظيم العلاقة كوردستانياً واقليماً ودولياً كقيادة كوردية أو كجزء من قيادة للمعارضة السورية.
ولذا فإن أي محاولة لتجميع كتل أو منظمات أو أحزاب كوردية سورية ستبوء بالفشل مالم تتفق الكوادر العاملة لذلك على تحديد هذه المواقف كوردياً، بالتشاور مع الأحزاب الكوردستانية الشقيقة أو بدونها، في حال توافر إمكاناتها المادية والإعلامية الذاتية، وما لم تتأكّد من أنها في سعيها ذاك منسجمة مع بعضها البعض فكرياً وسياسياً، فالقضية ليست مجرّد تصفيات في صفوف التنظيم وتبديل عناصر بعناصر، وإنما ببناء أرضية ثابتة من خلال الحوار السياسي (الديموقراطي) كخطوة لابد منها لإيجاد النواة الصلبة الساعية لبناء معارضة كوردية شاملة وقادرة على الصمود وقيادة الجماهير…
يقيناً، إن الانتصارات العظيمة التي حققها شباب الكورد الأبطال في كوباني “طروادة كوردستان” وغيرها من ساحات القتال لا تكفي لبناء قدرات شعبٍ تم اضطهاده واقصاؤه لأجيال متعاقبة، وإن هذا الشعب بحاجة إلى قيادة تؤمن بدور كل فرد من هذا الشعب، وتسهر على تطوير القدرات، ليس ببناء قوة عسكرية فولاذية فحسب وإنما ببناء هيكلية ديموقراطية حقيقية تستوعب التيارات الفكرية المختلفة على أساسٍ ومرتكزاتٍ قوية تتماشى مع التطورات المستجدة دولياً وسورياً وكوردستانياً، وإلا فلا مجال للتخلص من ظاهرة التآكل الداخلي ومسلسل الفشل السياسي لحركتنا التي لا أشك بتواجد قدرات رجالها ووعي الكثيرين منهم وإخلاصهم للعمل من أجل الحرية والديموقراطية لسوريا وحقوق شعبهم القومية التي تتضمنها برامج أحزابهم السياسية.
28 تشرين الثاني، 2014