دهام حسن
إن الليبرالية طيف من آراء لطائفة من مفكرين من عهود مختلفة ومن مشارب فكرية متعددة ظهرت مع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر إلى أن انتهت بالتبلور والجلاء في القرن الثامن عشر ، فعلى إثر الحروب الدينية التي راح ضحيتها الكثيرون ، تنادى المصلحون بحق الناس في أن يكونوا أحرارا في ممارسة طقوسهم الدينية ، وبرزت فكرة تقول: كل إنسان حر في دينه ، وعلى مذهب الحرية كانت الليبرالية..
ناهضت الليبرالية ، الأرستقراطية ، والملكية ، و أنكرت على الملوك دعواهم بالحق الإلهي في الولاية على البشر ، وترافق هذا مع بزوغ طلائع البرجوازية كحامل اجتماعي مؤهل للتيار الليبرالي ، وأصبحت الليبرالية فلسفة البرجوازية الفتية المدافع الوحيد عن الحرية ، ولوحت الليبرالية بمبدأ اقتصادي ذاعت شهرته: (دعـه يعمل..
دعـه يمــر) أي ترك الأبواب مشرعة أمام الأفراد للنشاط الاقتصادي لتحقيق مصالحهم الخاصــة فتحقيق المصالح الخاصة هو الشرط لنمو وازدهار الحياة الاقتصادية للمجتمع بأسره ، وفي الجانب السياسي لليبرالية كانت هناك فكرة مماثلة ترى أن حرية الفرد السياسي هي هدف ووسيلة التطور البشري كما يقول العروي..
وهنا نجمل أهم الأفكار والحقائق والمفاهيم التي اتسمت أو تميزت بها الليبرالية ، كما سـوف نتوقف عند أهم المفاصل التاريخية لها ، مع إبداء ملاحظات ، لا بد من التذكير بها لاستجلاء الصورة الحقيقية لليبرالية ، وما التبس في أذهاننا من مفاهيم..
أ – الليبرالية سابقة للرأسمالية ، وليست منبثقة عنها ، فالليبرالية انبت على فكرة الحرية ، وانطلقت إبان حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر ، حيث لا تزال التشكيلة الإقطاعية تحتفظ بقوتها وهيمنتها ، ثم تبنتها طلائع البرجوازية الفتية الصاعدة كحامل اجتماعي وحيد ، ومدافع أكيد عن فكرة الحرية.
ب- الليبرالية لم تقترن بالضرورة بالديمقراطية ، فقد جاءت أولا ، ثم تمت دمقرطتها لاحقا ، نتيجة ظهور الطبقات الاجتماعية التي طالبت بحق الاقتراع والتمثيل ، وتشكيل روابطها السياسية ، تلك الطبقات التي ساهمت بقسطها مع الليبرالية في معاركها ضد الملكية والأرستقراطية ودعاوى رجال الدين ؛ ومن هذا التزاوج بين الليبرالية وبين الديمقراطية ، اكتسبت الليبرالية صيغة “الديمقراطية الليبرالية”.
جـ – نشأت الماركسية من رحم الليبرالية ، وتفاعلت معها ، وسعت للبناء على ما حققته الليبرالية من مكاسب إنسانية ، وبرز من الاشتراكيين من يقول : لقد نجحنا في تطوير الليبرالية السياسية ، وسنسعى لاستكمال هذا التطوير ، لتجاوز الديمقراطية الليبرالية ، إلى الديمقراطية الاشتراكية.
لكن الماركسية تتقاطع مع الليبرالية ، عندما تطالب الماركسية بتبنيها القضايا الاجتماعية، وتطالب بوجوب الجمع بين مبادئ الليبرالية ، وبرامج المساواة الاقتصادية ، وهذا المنحى بمثابة طريق غير سالك لا يمكن المضي فيه بالنسبة لليبرالية.
د – هوجمت الليبرالية بوصفها تمثل إيديولوجية الرأسمالية العليا ، ونسي هؤلاء أفضال الليبرالية وما حققته من إنجازات ، تعد اليوم مكاسب إنسانية لا يمكن لأحـد تجاهلها ، أو القفز عليها، مثل وضع الدساتير ، وسن قوانين الدولة ، وما أثر عنها من مفاهيم عديدة ، من حرية التفكير والتعبير وحرية الاعتقاد الديني ، والإقرار بمبدأ الأكثرية ، واحترام رأي الأقلية ، وإقامة هيئات تشريعية وتمثيلية، وخضوع مؤسسات الدولة والهيئات الحاكمة للرقابة الشعبية ، ونبذ حكم الفرد وإدانة القمع السياسي، ورفض صيغة حكم الحزب الواحد ، وأحقية تداول السلطة..الخ
أظن أن هذه المفاهيم من أهم الأسس التي تقوم عليها الليبرالية اليوم ، وأصبحت هذه القيم قاسما مشتركا بين سائر الأحزاب بحيث لا يمكن لأي منها التغاضي عنها في برامجه النضالية..
أما هذا التماهي بين الليبرالية والرأسمالية العليا كشيء محسوم ومطلق ، لا يقره الواقع ، فالرأسمالية تضرب الليبرالية إذا اقتضت مصالحها، وحالة تشيلي شاهد عيان ، حيث وجدنا كيف أن الرأسمالية الأمريكية أطاحت بالحكومة الوطنية المنتخبة ديمقراطيا ، بقيادة سلفادور أليندي ، بالتواطؤ مع ديكتاتور صنيع هو الجنرال أوغستو بينوشيت ، وأيضا ما تعمل الآن لتقويض حكومة هوغو شافيز في فنزويلا الرئيس الشرعي المنتخب ، رغم ظهور هذا الأخير بهرج صبياني في هيئة الأمم المتحدة ، ونزوعه إلى توسيع صلاحياته فخير للقائد أن يظل محاطا بشعبه، لا أن يرتفع إلى مرتبة ديكتاتور بالقوانين والإجراءات التعسفية والتحايل على القوانين ، فالانتخابات الديمقراطية هي الحكم والفصل فيما تسفر من نتيجة لتبوء من له الحق دفة القيادة طالما حاز على أصوات الأكثرية في المنافسة الديمقراطية والاقتراع الحر..
هـ – الليبرالية لا تبقى على حال واحدة ، فهي ليست ذلك التيار المنسجم المتناغم ، فمدلولها يتغير بتغير الزمان والمكان ، حتى أنها تتناقض مع ذاتها – كما يبدو لنا- وقد تنشطر إلى تيارين متعاكسين ، تيار ليبرالي ، وتيار آخر محافظ .
فمنذ تبلورها في أواسط القرن الثامن عشر ، وجدناها تقف مع حرية الفرد في التملك والعمل وضد تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ، أو تقييد الحريات.
وفي الثلاثينيات من القرن العشرين ، رأينا الليبراليين يقفون مع دعوة “جون ماينرد كينز” بضرورة تدخل الدولة في القضايا الاقتصادية ، والتوسع من حجم ملكيتها ، وتوجيه قسم من النفقات ، للتخفيف من معاناة الفقراء ، ودعم برامج الضمان الاجتماعي ، وتقديم إعانات الرعاية الصحية والخدمات الأخرى ، ضد حالات العجز والبطالة ، ودعم المواد التموينية ، حتى تحقق ما عرف بدولة الرفاهة في الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية إلى عام 1970 ثم أعقب ذلك في الثمانينيات موقف مغاير ، فقد طالبت الليبرالية الجديدة – كما سميت – مجددا بتحجيم دور الدولة ، كمـــا طالبت بخفض الضرائب عن الطبقات العليا مالكي الشركات , وذوي الدخل المرتفع ، والتخلي عن دور الضمان الاجتماعي ، وإلغاء الدعم عن بعض المواد والتخلي عن الإعانة ضد البطالة والعجز، وإجراءات عديدة ، تتضرر منها الطبقة الوسطى والطبقة العاملة والجماهير الشعبية الفقيرة..
و – أمام التحجر ، وقدسية النصوص ، والظلامية ، شق الوعي الليبرالي طريقه إلى الفكر العربي بمختلف تياراته ، القومية ، والدينية ، واليسارية ؛ فصارت الليبرالية تعني التفتح والانفتاح ، والأسلوب الديمقراطي في التحاور، وتقبل الآخر، والمشاركة السياسية في إدارة شـؤون البلاد.
إن تجربة الشعوب تؤكد على أهمية المرحلة اللبرالية في حياة الأمم ، وهناك من يعزو انحــراف ألمانيا نحو النازية ، وسقوط التجربة الاشتراكية في روسيا، لأسباب منها وربما أهمها، إن البلدين كانا يفتقدان التقاليد السياسية الليبرالية.
وتأسيسا على ما سبق بعيدا عن التشرنق الإيديولوجي والانعزالية ، لابد من الإقرار دون مكابرة بحقائق يظهرها الواقع..
فالليبرالية مرحلة ضرورية لا بد أن تلج إليها ، وتعيشها كل النظم العربية , وينبغي أن ينصب النضال على هذه المفاهيم ، عندها سوف تغدو الساحة فسيحة ومواتية للنضال السياسي ، وليقدم حينها كل ذي مشروع نضالي مشروعه ، ليكون التاريخ هو الحكم فيما يقع عليه اختيار البشر ، وما يختاره البشر عن وعي وتجربة هو المسار الصحيح ، وهو المنطلق نحو رحاب الحرية والعدالة الاجتماعية ، وهذا ما نادت به الديمقراطية الليبرالية ، وما سوف تؤسس عليه الديمقراطية الاشتراكية.