هذا ليس من الدين

زاغروس آمدي
لماذا عندما نرى شيئاً دنيئاً أو قبيحاً يرتكبه متدين ما، يقول أغلب المتدينين وبشكل عفوي أن هذا ليس من الدين؟
الجواب ببساطة،لأن المتدين العادي لديه تصور معين للدين والإيمان ويظن أن الدين شيء جميل، وغالباً ما يخلط بين الإيمان والدين، وبالتالي يستبعد أن يفرز الدين شرّا أو عملاً قبيحاً.
 لكن أحياناً يمكن أن تكون الحقيقة غير ذلك تماماً، كيف؟
 لأن الإنسان بما في ذلك الإنسان المتدين  يحمل في ذاته  قدرة ذهنية تستطيع التمييز بين الخير والشر، والجمال والقبح، والفضيلة والرزيلة.. إلخ. والدليل على ذلك أنك عندما تصدر حكمك “بأن هذا ليس من الدين” تصدره بعفوية تلقائية دون الرجوع إلى مراجع الدين. فالغزو والسبي وإغتصاب النساء على سبيل المثال، الذي تقوم به بما تسمى الدولة الإسلامية، ومع أنه مشرّع دينياً ومثبّت في التوراة والقرآن والسنة، وبعض رسل بني إسرائيل والإسلام إرتكبوا مثل هذه الأعمال. وعندما تعرف ذلك بالدليل القاطع لاتريد أن تصدق ذلك، والسبب هو لأنك لم تربط بين الدين وبين مبادىء الأخلاق الإنسانية فحسب، وإنما أيضاً قدمت الدين على منطقك الذاتي العفوي.
 وهذا برهانٌ بيّنٌ بأن المسألة الأخلاقية مسألة إنسانية بحتة لاعلاقة لها بالدين كما يعتقد أكثر المتدينين. بل يمكن أحياناً أن يكون العكس ، أي أنّ الدين يمكن أحياناً أن يحرض أو يدفع المتدين إلى إرتكاب أعمال قبيحة، مثل الرجم والذبح والصلب والتمثيل بالجثث. وهذا ما نشاهده بأم أعيينا هذه الأيام. لكن مع ذلك يظل الانسان المتدين غير مصدق بأن ذلك من الدين أو بأن أنبياء بني إسرائيل ومحمد (ص) وأصحابه فعلوا ذلك أيضاً، والسؤال هنا لماذا قمت بربط الدين  بمسألة الأخلاق؟ والجواب هو لأنك قدمت الدين على العقل وبذلك وظَّفتَ قدراتك الأخلاقية والتميزية لخدمة الدين، وبذلك ترفض في وعييك كل شيء قبيح ينسب للدين.
وعندما يرتكب قائد ماركسي أو نازي أو بعثي أو أي قائد صاحب أيديولوجية ما جريمة أو مجزرة أو إبادة ضد شعب ما، يبرر أتباع أمثال هولاء جرائمهم أو حتى أن فيهم من ينكرها لنفس السبب. 
هناك ثمة تشابه كبير جداً وقد يصل أحياناً إلى حد التطابق بين أتباع الديانات وأتباع الأيديولوجيات، ولتوضيح الفكرة أكثر أضرب لك مثلاً من حياتنا الواقعية المعاشة، هناك دائما فئة (كبيرة او صغيرة)  تساند الديكتاتور أو تخضع لسطوة الدين، من ضمن هذه الفئة هناك أشخاص مستعدون للتضحية بأنفسهم من أجل هذا الديكتاتور، أو من أجل هذا الدين، لأنه تشكل لديهم مبدأ أو مفهوم او قناعة لأسباب متعددة، بأن هذا الديكتاتور قائد نبيل وذكي ومخلص للأمة والدولة ولايمكن بدونه أن تزدهر وتتقدم الدولة،بالنسبة للفئة الأولى. وبالنسبة للفئة الثانية ترى خلاصها وإزدهارها وتقدمها في دينها. هؤلاء الأشخاص يصدقون أي شيء يقوله قائدهم أو كتبهم دون النظر والتفكير بما يقول القائد او بما تدلي به الكتب كل حسب فئته، ولا يتشكل لديهم أدنى حرج  عندما يدلي القائد بتصريح وبعكسه، أو بتناقضات الكتب بالنسبة للمتدينين، والسبب لأن قدرتهم التميزية تابعة  وخاضعة لمشيئة الديكتاتور او لسطوة الدين.
ومن الشخصيات المستبدة التي إستطاعت إخضاع قدرات الناس العقلية إلى مشيئتهم أدولف هتلر وستالين  وماو تسي تونغ  بشكل أساسي وصدام حسين وحافظ الاسد وابنه إلى حد ما لفئات معينة.  
    
يعلل علماء الإجتماع هذه الظاهرة بقولهم بأن نزعة البقاء على قيد الحياة لديهم إرتبطت بإحكام (لارجوع عنه) ببقاء الديكتاتور، لذلك فهم مستعدون دائما تنفيذ أوامره دون تردد، ويذرفون الدموع بحرارة أثناء مرضه او موته، وقد ينتحر بعضهم من أجله،ولذلك أيضاً يصفق لهم الجمهور دائما، بغض النظر فيما يقوله صح أو خطأ، معقول أو غير معقول.
أما في حالة الدين فإن خضوع العقل إلى سطوة الدين  أعمق وأقوى،  وإذا كانت نزعة البقاء تدفع الناس إلى تأليه الديكتاتور، فإن الخوف لما بعد الموت هو الذي يدفع الناس إلى قبول الخضوع الكلي أو الجزئي للدين.
 هنا يلح علينا سؤال كبير وهو لماذا يربط معظم الناس مصيرهم بديكتاتورٍ ما أو بدين ما؟
أعتقد بأن معضم الناس بسطاء، أي أن قدراتهم العقلية والنفسية لاتستطيع أن تعتمد على نفسها في المسائل الكبيرة، كمسألة الوجود والمصير والأخلاق والأمن النفسي. لذلك فهم بحاجة دائما إلى من يركنون إليه في هذه المسائل.
في بعض المجتمعات نجد أن السياسة نافست الدين وتغلبت عليه أيضاً، لكن المؤسف أن الناس خضعت لهذه السياسة أكثر مما خضعت للدين، وبدا ذلك جلياً عند جمهور هتلر وماو ، فهتلر في وسط أوروبا إستطاع إخضاع الألمان والنمساويين والسويسريين الألمان وبنسبة عالية جداً إلى أفكاره الشوفينية بما في ذلك الكثير من الأدباء والفنانين والمفكرين والفلاسفة أيضاً، كالموسيقي ريتشارد فاغنر والفيلسوف مارتن هايدغر. وعلى الطرف الآخر من العالم خضع مئات الملايين من الصينيين  لماو واعتبروا كتابه الأحمر عن الثورة الثقافية توراة مقدسة لهم.
 ويذهب بعض علماء النفس والإجتماع كغوستاف لوبون إلى القول:
 “الجماهير مجنونة بطبيعتها .. فالجماهير التي تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل او لفريق كرة القدم الذي تؤيده تعيش لحظة هلوسة و جنون .. والجماهير المهتاجة التي تهجم على شخص لكي تذبحه دون أن تتأكد من أنه هو المذنب هي مجنونة ايضاً .. فاذا ما أحبت الجماهير ديناً ما أو رجلاً ما تبعته حتى الموت كما يفعل اليهود مع نبيهم و المسيحيون المتعصبون وراء رهبانهم والمسلمون وراء شيوخهم .. والجماهير اليوم تحرق ما كانت قد عبدته بالأمس و تُغير أفكارها كما تُغير قمصانها.”
راودني هنا حدث يظهر صحة مقولة لوبون، ففي خطاب لجمال عبدالناصر القائد المصري الذي إستحوذ على قلوب الملايين من العرب، أعلن بأنه أرسل قواته البحرية لإعادة الوحدة بين مصر وسوريا، فقاطعه الجمهور بتصفيق حادٍ استمر بضع دقائق، ولما أكمل خطابه، أردف يقول: لكني عدلت عن موقفي وأمرت بعودتها لإجتناب حرب بين الأخوة، فقاطعه الجمهور أيضا  بتصفيق حادٍ  إستمر أيضا بضع دقائق.
يقول الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون الذي  خاض عميقا  في علم النفس: “من يعرف إيهام الجماهير يصبح  سيداً لهم، ومن يحاول قشع الإوهام عن أعينهم يصبح  ضحية لهم”. 
وهو في هذا مصيب لدرجة كبيرة، فأكثر الناس تميل إلى الفكر الأسطوري القادر على تحقيق المعجزات،وتعشق القوة والجبروت حتى لو كان وهماً، لأنها تنال أمنها وتسد ضعفها الذاتي، وبنفس الوقت فهي تنفر من الفكر المنطقي الذي يظهر عجز الإنسان على تحقيق مثل هذه المعجزات. 
لذا نجد أن معظم الشخصيات التاريخية كانت تعد الناس بأهداف كبرى عظيمة، وأن تحقيقها لايطالها الشك. وكان ينال تصديق الناس بسهولة.
 
عندما تجتمع مجموعة مؤمنة أو غير مؤمنة يكون لها إلهاً واحداً (سماوي أو أرضي)، وعندما تتفرق، يصبح لكل واحد منهم إلهاً، ولذلك تحرص الأديان وكذلك الإيديولوجيات على وضع طقوس أو نظام معين لإجتماعات مستمرة وبصورة منتظمة، لتجديد إعطاء الأنزيم الديني أو الأيديولوجي لضمان إستمرار خضوع الناس.  ويتمثل هذا الأنزيم في عبارات في كتب معينة أو صور قادة أو تماثيل أو أيقونات رمزية.
فحاذري عزيزتي القارئة وعزيزي القارئ في أن تنزلا إلى صفوف الجماهير كيفما إتفق، لأن ذلك قد يعيداكما قليلاً إلى الخلف إذا صح ما فكر به غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير: 
“مجرد أن ينطوي الفرد داخل صفوف الجماهير فإنه ينزل درجات عديدة في سلم الحضارة”
زاغروس آمدي/ فيينا – النمسا
07.11.2014

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…