كوباني بين تركيا وبرنار هنري ليفي


ابراهيم محمود

يعلم المعنيون بالأزمات والحروب أن ما يتسرب من ” أسرار ” خارجاً، لها صلة بدولها ومجتمعاتها، خلال فترة قصيرة، يقابل عقوداً زمنية في حالات الاستقرار النسبية، ولهذا فإن ما عُرف عن ” داعش ” الإرهابي حتى الآن، منذ غزوه لموصل في 10 حزيران، ولاحقاً لإقليم كوردستان العراق في مطلع آب ، وراهناً، ومنذ 15 أيلول 2014، لمناطق كردية في روجآفا، وتحديداً كوباني ” عين العرب ” في سوريا، ربما يصعب تقديره في سياق المدى الزمني: من مع داعش، ماذا وراء داعش، إلى أين يتجه داعش..الخ، وفي الواجهة تبرز تركيا إذ إنها في وضع لا يُحسَد عليه عبر موقعها في ” الناتو: حلف شمال الأطلسي، وجهة ارتباطها بالمنطقة الشرق أوسطية، وبعدها الإسلامي، ولعل الأحداث الدامية في المدن الكردية فيها، وحتى في المدن التركية الطابع ” استانبول وغيرها “، ورعايتها لداعش عبر أنفاق تصل تركيا بسوريا لدعم الدواعش، وكوباني المحاصرة من قبل هذا التنظيم الأكبر من تنظيم إرهابي والتغطية على أنشطته، وعدم التجاوب مع مساعي ” دول التحالف ” في محاربة هذا التنظيم..الخ،
لعل كل ذلك، يضع المتابع أمام مشاهد مركَّبة للعبة السياسة الدولية ما بعد العولمة، والداخلين فيها، والمرشَّحين لأن يكونوا جلادين وضحايا بالمقابل” والكرد هم المرشحون الأوَل ضحايا هذا الإرهاب ذي البصمة الدولية والإقليمية ..
كل ذلك يستشرف بنا مدى انشغال العالم أجمع بالجاري، وتحديداً، عندما أفصحت ” أميركا ” عن تحركها لمحاربة داعش، وهذا التحرك له امتداد عالمي منشَّط يشغل الساسة وخبراء الحروب والإرهاب، إنما يكون بالنسبة إلى المثقفين والمفكرين أو الفلاسفة باعتبار الجاري قضية رئيسة لهم طبعاً.
والمفكرون أو الفلاسفة مستويات، ولكل منهم رؤيته الخاصة إلى الأحداث، انطلاقاً من موقعه، وما أثاره الفيلسوف والسياسي الفرنسي برنار هنري ليفي ” تولد 1948 “، والذي يرتبط بأحداث 1968 وتأثيرها الصاعق في الثقافة العالمية والفرنسية في العمق، إلى جانب التوسير، جيل دولوز، جاك دريدا، ميشيل فوكو..الخ، في مقاله ” النداء الأخير من أجل كوباني ” يوم الاثنين وفي أكثر من صحيفة عالمية، من ردود أفعال، يعبّر عن أن للفكر تداعياته، وتحديداً، لأنه جمع بين الفكر والسياسة، بين ما هو تأملي وما هو عملي، وبصورة أخص، لأن المقال يتعلق بدولة ذات لونين في السياسة، هي تركيا: بين تكون إسلامية ومتشددة تجاه مجتمعها، وتجاه دول الجوار، والكرد هم أكثر من يتعرضون لهذه السياسة المتشددة منذ عقود زمنية طويلة، وأن تكون أوربية، منفتحة، مدنية في توجهاتها.
برنار الفيلسوف الفرنسي اليهودي الأصل، لا يخفي موقفه من تركيا، كما لو أنه وضع تركيا على المحك : إما أن تكوني أتاتوركية، وهذا يعني الخروج من دائرة حلف الناتو، وتلك التوجهات التي تصلها بأوربا وسياساتها الاجتماعية، وإما أن تكوني أوربية، وهذا يقتضي لزوم الانفتاح على الشعوب التي تضطهدها والكرد في الواجهة، وأن ما يجري في كوباني وعلاقة تركيا القوية بكل شاردة وواردة داعشيتين لا يحرج تركيا فحسب، وإنما يعرّيها من آخر ورق توت تخفي بها سوأتها، وهي تحاول إبراز براءة ذمتها مما هو داعشي، أو إرهاب دولتي، وما يخص سياستها الداخلية.
سقوط كوباني، يعني تجريم تركيا في الحال، والنتيجة تتمثل في عدم التزامها بما تدعيه في توجهها الأوربي، والنهاية الوخيمة لها هي السعي إلى إخراجها” طردها ” من الناتو، والطرد يعني تعريضها لما يقشعر لها ” بدنها ” الخراساني ” الاسمنتي المطحلب.
في هذا السياق، لا بد من التركيز على أن نداء فيلسوف وسياسي ضمناً من وزن برنار لا يستهان به وفي أوساط اجتماعية تهتم كثيراً بالمؤثر الثقافي وليس ما هو قائم في ” أوساطنا ” هنا وهناك، وكون برنار هذا يصله بما هو يهودي وما يترتب على هذا الارتباط من تداعيات موجية جهة الأنشطة اليهودية والنفوذ اليهودي في أروقة السياسة الأوربية والأمريكية بالذات، والذاكرة التركية- العثمانلية على بيّنة مخيفة مما هو تاريخي جهة العلاقة مع اليهود والسياسة والدين …الخ، ولا بد أن تركيا متخوفة من تداعيات من هذا القبيل، على الأقل في نطاق تنامي الضغوط على تركيا والدفع بها نحو ما تتخوف منه وتكرهه أشد الكراهية: كيفية الخروج من ” كهفها ” التاريخي شديد الرطوبة، والاعتراف بأن تركيا ليست للترك فقط، وأن الشعار المقيت ” طوبى لمن يقول أنا تركي ” لم يعد يفيد حتى في الاستهلاك المحلي، وأكثر من ذلك: إن ما كان يقوي رصيدها الاعتباري في نظر” مواطنيها الترك ومن تتركوا داخلاً وخارجاً “، شارف نهايته، أي انكشف عن وهم كبير، حيث إن الذين كانت تعتبرهم ” أتراك الجبل ” وتارة أخرى غير متواجدين كلياً، ها هم يطرقون أبوابها الداخلية وينفخون في صور القيامة عليها، وكوباني التحدي الكبير! ليس بمعنى أنها ستعلن نهايتها، وليس لأنها سوف تطرَد من حلف الناتو الذي اعتبِر لها بمقام صدفة السلحفاة الحامية لها، فثمة اعتبارات مصالحية قد تبقيها، لكن الجاري على خلفية ضغوط داعش الإرهاب وسلبية تعامل تركيا مع الجاري، لا يجب أن يحرّف أنظارنا عن المؤثرات المحيطية، وخاصة من قبل أميركا وتعاملها معها.

” النداء الأخير من أجل كوباني ” ربما يأتي في دائرة ” الفرصة الأخيرة لتركيا ومن معها إقليمياً كذلك، لكي تكون في مقام ما تدعيه جهة مزعم الديمقراطية “، وتحديداً لأن ثمة تاريخاً طويلاً لبرنار في هذا المسعى واهتماماً بأحداث كثيرة في العالم وفي الجانب الفكري والفلسفي، فمن كتبه مثلاً:

: بنغلاديش، الوطنية على طريق التطور .Bangla-Desh, Nationalisme dans la révolution, 1973.
: البربرية وتحدي الإنسانLa barbarie à visage humain, 1977.
: الإيديلوجيا الفرنسيةIdéologie française, 1981.
: الشرّير داخل الرأسLe diable en tête, 1984.
: الأيام الأخيرة لشارل بودليرLes derniers jours de Charles Baudelaire, 1988.
: العدالة الأخيرةLe jugement dernier, 1992
: الرجال والنساءLes hommes et les femmes, 1994.
: مغامرات على طريق الحريةAdventures on the Freedom Road, Harvill Press, 1995 
: الكوميدياComédie, 1997.
: عصر سارترLe siècle de Sartre, 2000.
: أفكار حول الحرب، الشر ونهاية التاريخRéflexions sur la Guerre, le Mal et la fin de l’Histoire, 2002.
: سارتر فيلسوف القرن العشرينSartre: The Philosopher of the Twentieth Century, translated by Andrew Brown, Polity Press, July 2003, hardcover, 456 pages, ISBN 074563009X  
ما يجدر التنويه إليه، هو أن الذي يثار، يعرّف بأمور محيطية تكون على غاية من الأهمية، وأحياناً تكون أكثر أهمية من ” الأصل “، كون المثار الأخير يصلنا عن قرب بما حولنا ويتقاسمون مصيرنا كثيراً، وهنا أشير إلى أن المقال الذي يتضمن إشارات إلى برنار هنري ليفي، منشور في صحيفة ” القدس العربي- 12 تشرين الأول 2014 “، لتكون التعليقات التي جاءت في النهاية مفصحة عن تلك التوجهات المخزية حقاً، وهي تنصب على برنار باعتباره متآمراً على العروبة والإسلام، وأنه يريد دق الإسفين بين الأتراك والأكراد والعرب وغيرهم، بتعبير بعضهم، وهو صهيوني معروف بعدائيته تجاه الآخرين، وبالتأكيد، أو هكذا أرى، فإن برنار هذا لو عنى ” الرقة ” بمقاله، أو ” الموصل ” لما كانت تعليقات من هذا النوع، أي كون الكرد في المتن، وفي هذا التركيز ما يصدم تلك العقيدة المتصلبة بطابعها الإسلاموي والعروبوي ضدهم، والناظر في مجمل المواقف التي يسهل تلمسها في حركية الإعلام العربي، وفي الشارع العربي، وأروقة ” المثقفين ” العرب، يمكنه ملاحظة هذا التوجه كثيراً، أي التدرع بمقولة لا يبدو أنها مستهلكة زمنياً، إنما تتجدد: أنا وأخي ضد ابن عمي، وأنا وابن عمي ضد الغريب! ولا بد أن داعش، على الأقل، في مقام ابن العم ” في تكوينه ومسرحه الجلي”، وأن الغريب في الواجهة، هو : الكردي.
م: يمكن مراجعة المقال المذكور على الرابط التالي:

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…