«كوباني» … صورة الإقليم ومحصلته


عريب الرنتاوي

تختصر المعركة في “كوباني” ومن حولها، المشهد الإقليمي والدولي برمته … بضعة آلاف من المقاتلين الأكراد الأشداء، في مواجهة زحف الرايات السوداء المدججة بأفضل أسلحة الجيشين السوري والعراقي وأكثرها تطوراً … من خلف المقاتلين الأكراد يقف حلف إقليمي دولي، لأهداف متعددة وبدرجات متفاوتة من الحماسة … أما داعش، فيقف خلفها ويتواطأ معها، ويسعى في توظيف جرائمها خدمة لأهداف أخرى، حلف إقليمي دولي آخر.
تحت شعار “محاربة الإرهاب والقضاء على داعش”، تلتقي مختلف العواصم والمحاور في المنطقة والعالم … لكن “معركة كوباني” كشفت المستور في حرب الأجندات والمصالح الإقليمية والدولية المتضاربة … والمؤسف ان المدينة البطلة التي استحقت اسمها الكردي بعد أن تخلى العرب عن “عين العرب”، دفعت وستدفع أفظع الأثمان، لحروب المحاور والمعسكرات المتصادمة، والأرجح أن “داعش” ربما يكون أكمل سيطرته على المدينة السورية، ما أن يرى هذا المقال النور.
أنقرة تراقب الوضع في “كوباني” عن كثب، تتخذ من البلدة التركية الاستراتيجية، ورقة في يدها، أهدافها التي لم تعد خافية على أحد، تتلخص في المعادلة التالية: رأس الأسد مقابل رأس البغدادي … هي تدرك بأن داعش ستشكل في نهاية المطاف، تهديداً لأمنها الوطني، لكنها تدرك أيضاً أنها تهدد أمن العالم والإقليم، وأن المجتمعين الدولي والإقليمي، لن يقفا سكانين، أمام هذا الخطر، بيد أنها تسعى في توظيف القلق الدولي من داعش، لتصفية حساباتها المزدوجة: ضرب الكيان الكردي الناشئ في سوريا، وقطع الطريق على “الكيانية الكردية الناهضة” في المنطقة من جهة، وإسقاط نظام الأسد، الذي بات العدو الألد لأردوغان، حتى على المستوى الشخصي، بعد أن كان الصديق الأوثق للرئيس التركي من جهة ثانية.
 
الدوحة تدعم أنقرة، تريد هي الأخرى منطقة عازلة في شمال سوريا لتمكين الإخوان المسلمين والمليشيات “الصديقة” هناك، توطئة لخوض معركة إسقاط الأسد … ومن خلف العاصمتين الحليفتين اللتين شرعتا في “حوار وتعاون استراتيجيين”، تقف باريس الداعمة بقوة للمنطقة العازلة و”حظر الطيران” وإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، مع أن باريس لا تبدي القدر ذاته من “التحفظ” حيال المشروع الكردي، كما هو حال كل من الدوحة وأنقرة.
 
في المقابل، تنخرط الرياض في الحرب على داعش، ومعها محور عربي اتهمت بعض عواصمه بتقديم أشكال متفاوتة من الدعم للتنظيم الأصولي في مراحل سابقة … لكن هذه الدول تشترك مع بعضها البعض في “كراهية” الإخوان المسلمين ووصف الجماعة بالإرهاب، وهي إذ تشاطر دول المحور التركي – القطري – الفرنسي رغبتها في ترحيل الأسد عن عرينه، إلا أنها تتحسب لنوايا قطر وتركيا الرامية لدعم جماعة الإخوان وتمكينها في سوريا، لذا نرى هذه الدول، لا تستعجل التدخل التركي، ولا تميل لإعطاء انقرة دوراً فاعلاً في الملفين السوري والعراقي، وتفضل الانضواء تحت الراية الأمريكية في إطار التحالف الدولي العريض، الواسع والفضفاض.
 
على جبهة أخرى، ثالثة، تقف طهران، مدعومة من موسكو وبقية أطراف المحور الذي عرف ذات يوم، بمحور “المقاومة والممانعة” … هذه الأطراف، لا تكتفي بمتابعة مجريات الوضع في “كوباني” ومختلف الجبهات المفتوحة مع داعش وضد النظام في دمشق، بل وتنخرط بقوة في الحرب الدائرة هناك، سعياً لحفظ مصالحها وتدعيم مواقف حلفائها في بغداد ودمشق والضاحية الجنوبية لبيروت … هذا المحور يجد نفسه في حالة صراع مع المحورين السابقين … وهو وإن كان بدوره يناهض داعش ويسعى في استئصالها، إلا أنه لا يريد لحلفائه أن يسقطوا في الطريق لإسقاط “داعش”، حيث القلق ينصب خصوصاً على مسعى البعض، لتوظيف الحرب على داعش لحسم الصراع مع الأسد في دمشق.
 
في “كوباني”، اتضحت الأجندات والمصالح: تركيا تدعم ضرب داعش بالأكراد، فتتخلص من خصمين، الأكراد سيفقدون فرصة انتزاع كيانية مستقلة لهم، وداعش ستلاقي حتفها وإن بعد حين وطول عذاب، على يد التحالف الدولي … أما طهران، في وإن كانت تشاطر أنقرة قلقها حيال “الصحوة الكردية” إلا أنها لن تسمح لهذا القلق بأن يجرها إلى مواقع ومواقف، تتسبب في خسارة حليفها الدمشقي لسلطته … القاهرة “خارج السمع” في كل هذه المعارك، وإن كانت معنية بضرب داعش والإخوان، وكل من يدعمهما.
 
واشنطن، زعيمة العالم، التي تبدو بلا استراتيجية حتى الآن، تتجاذبها مواقف ومصالح حلفائها المتعارضة … تريد لتركيا أن تنخرط بنشاط في الحرب على داعش، وهي لا تستطيع أن تقامر بإغضاب السعودية ومصر، بقبول الشروط التركية والسماح لأنقرة بلعب دور مقرر في مصائر الأزمتين السورية والعراقية … هي تريد “تجميد” الملف السوري المثير للانشقاق في أوساط التحالف، وأردوغان العنيد يريد فتحه منذ الآن، وكشرط مسبق لدخول أنقرة على خط الحرب على الإرهاب … هي تنتظر نتائج مفاوضاتها مع طهران، ومنشغلة إلى حد كبير بانتخابات نصفية للكونغرس … هي حائرة، وتفضل أسلوب “إدارة الأزمة” سياسياً وعسكرياً، عبر مشاغلة “داعش” لا شن هجمات استراتيجية عليها، حتى وإن كانت النتيجة “مأساة كبرى في كوباني”، لن تغير في استراتيجية الولايات المتحدة بعيدة المدى على حد تعبير جون كيري.
 
في معركة كوباني، ظنت أنقرة أن “الصحوة القومية الكردية، ستتلقى ضربة قاصمة تعيق انبعاثها لسنوات وربما عقود قادمة … ما لم تدركه حكومة العدالة والتنمية، أن معركة كوباني، وما إشيع حولها من تسهيلات تركية لداعش وتضييقات على المقاتلين الأكراد، ستفجر المسألة الكردية في تركيا، بدل أن تقطع الطريق على أحلام الأكراد في سوريا … وأحسب أن عودة الاشتباكات المسلحة بين حزب العمال الكردستاني والقوات الحكومية، والتظاهرات التي راح ضحيتها عشرات الأكراد في تركيا، كفيلة بنقل أزمة كوباني إلى الداخل التركي، بعد أن ظن أردوغان، أن سقوطها في يد داعش، سيكون عنصر قوة له في مفاوضاته مع عبد الله أوجلان.
 
صمدت “كوباني” أم سقطت، فإن “المارد الكردي، خرج من قمقمه، ولن يعود إليه من جديد … ومثلما أطاحت داعش بحدود سايكس – بيكو التي قسمت الأمة العربية، فقد تطيح “كوباني” بحدود سايكس – بيكو التي قسمت الأمة الكردية، وأحسب اليوم، مثلما توقنا منذ وقت طويل، بأن التاريخ بصدد فتح صفحة جديدة لأكراد المنطقة، لإعادة بناء “دولة / الأمة” في هذا الإقليم، وهي دولة سيكون لها أصدقاء وحلفاء في هذا العالم، بدءاً بواشنطن، وإن بعد حين.
—————

مركز القدس للدراسات السياسية

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…