لماذا انقطع المفكر إبراهيم محمود؟

د. محمود عباس

  
  الفكر الذي
لم يعرف للراحة وقتا، والقلم الذي لم يثلم حتى اللحظة، يتوقف فجأة وبعد غزارة أمطر
بها القراء، وغطى صفحات موقع ولاتي ما، بمواضيع فكرية سياسية ثقافية مدموجة بنكهة
فلسفية عميقة، شملت معظم القضايا الجارية، دون مواربة أو تملق لقوة سياسية حاكمة
أو مشردة. عرف شنكال من آهاتها، وكتب عن صرخاتها المكلمة الصادرة من أعماق أوديتها
الجريحة، كتب عن الدمعة التي سقطت في الأعماق المهشمة، عن الإيزيدي الذي غبن من كل
الأطراف، كتب عنهم كل يوم منذ خروج الصرخة الأولى من أحضان شنكال الممزقة، إلى قبل
أيام، وسكت فجأة! الناقد الذي لا يقف عند حدود المعارف، عندما تتعلق القضية بالفكر
أو المفاهيم أو الثقافة، صريحا مع ذاته قبل أن يكون مع الأخرين، جرحه نقده اللاذع
يوما ما أمام أصحابه، واليوم يهدمه في أحضان هجرته. 
 عرفته لساعات ومنذ عقدين وأكثر، حينها لامه صديق
على عدم الكتابة بالكردية، فكان أن خرج من الملامة ليصبح ناقداً فيها، متجاوزاً
القراءة والكتابة، مترجما إليها ومنها، إنه العصامي الذي لولا كرديته لكان أحد
أكبر النقاد شهرة على الإطلاق في العالم العربي. 
 هجر مضطراً من أعماق مكتبة كانت تغرق بالمئات من
الكتب المتنوعة، ومن مدينة كتب عنها وألتصق بها روحا وثقافة، نزعته المعاناة
اليومية والمرض والواقع الاقتصادي من أحضان قامشلو التي أحبها، وتركها بدمعة،
فهاجر من كردستان الولادة إلى كردستان 
القيامة، كردستان اللجوء والأمان، كغيره من المثقفين والعامة، لكنه بخلاف
الكثيرين منهم كان حاملا معه فكره وقلمه، والتي كثيرا ما لا يتواجد لهذه
البضاعة  بائعاً، في أوطاننا، فتتعفن  على بسطات الطرق ولا تجلب انتباه المارة، ويتشربها
الضياع مع الزمن، وتهمل من قبل الأسياد، والحكام، وإن اشتريت فستكون لإدخالها إلى
الخدمة الذاتية. 
 استقر على مضض في مدينة دهوك، احتضنته حكومة
الإقليم، على كفاف العيش، بعد طول معاناة وبحث، وهو الباحث والناقد المعروف
إبراهيم محمود، صاحب ذخيرة أدبية تشمل كل الوطن العربي، وظف براتب كان يغنيه كفاف
العيش، قانع بالموجود، أملا باستمراريتها دون انقطاع، وهو الذي لا يبالي بقيود
الكتابة والنقد بكل أبعادها، ولا يعرف للمجاملة وجها، فكتب ونقد مخاطراً كفاف
العيش والوظيفة، وهذا الذي حصل. 
 إبراهيم محمود يغيب في ركن بيت لا ثمن لدفع
الإيجار، يفكر في كفاف العيش الذي انعدم، أراه من وراء الزمان والمكان وكأن
الكلمات لا تخرج فالغصة تتجاوزها، والحسرة تكتمها، والألم رهيب، وهو الذي يعاني من
آلام جسدية، لم تبارحه منذ سنين، يضاف إليها بين حين وآخر معاناة العيش ومتطلبات
عائلة تقاسي. لا شك إنه يعكس حياة أمة بكاملها، وشريحة لا تختلف عنه، لكن ويبقى
إبراهيم محمود الفكر والقلم، الذخيرة القومية والوطنية التي قلما تظهر، والتي من
المعيب جدا لكردستان الحلم وحكومتها إهماله هكذا وإدراجه ضمن قانونه الذي يلغي
وظائف كل الخارجيين. 
 ولكي نكون منصفين مع كردستان القيامة، والتي
تتكالب عليها الأعداء من كل صوب، ومن ضمنهم حكومة المركز والتي قطعت عنها حصتها
الاقتصادية ورواتب موظفيها، فاضطرت على تقليص موظفيها إلى الحد الأدنى، وكان أوائل
من شملهم هذا التقليص المفكر إبراهيم محمود، ولا شك الإقليم يئن تحت وطأة هجرة
تجاوزت حدود الإمكانيات، وهي مشكورة بما تقدمه من خدمات جليلة تجاه لاجئيها دون
مساعدات دولية كالتي تحصل عليها الدول المجاورة. 
  وبنقد
على سوية نقده، نقول: إن راتب أحد أنصاف الألهة في حكومة الإقليم كاف لإعانة
العشرات من العائلات كعائلة إبراهيم محمود، واحتضان هذا الناقد والباحث والمفكر
ضمن مكتبة بطاولة وكمبيوتر، وقليلا من الراحة النفسية، وحرية الرأي والكتابة،
والنقد، فيا أمة لا خير فيها تهمل مفكريها وتقرب جهلاء سياسيين.   
د. محمود عباس 
الولايات المتحدة
الأمريكية 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح…

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…

صالح جانكو حينما يتوهم القائمون على سلطة الأمر الواقع المؤقتة بأنهم قد شكلوا دولة من خلال هذه الهيكلية الكرتونية، بل الكاريكاتورية المضحكة المبكية المتمثلة في تلك الحكومة التي تم تفصيلها وفقاً لرغبة وتوجهات ( رئيس الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية)وعلى مقاسه والذي احتكر كل المناصب والسلطات و الوزارات السيادية لنفسه ولجماعته من هيئة تحرير الشام ، أما باقي الوزارات تم تسليمها…

خالد جميل محمد جسّدت مؤسسة البارزاني الخيرية تلك القاعدة التي تنصّ على أن العمل هو ما يَمنحُ الأقوالَ قيمتَها لا العكس؛ فقد أثبتت للكُرد وغير الكُرد أنها خيرُ حضن للمحتاجين إلى المساعدات والمعونات والرعاية المادية والمعنوية، ومن ذلك أنها كانت في مقدمة الجهات التي استقبلَت كُرْدَ رۆژاڤایێ کُردستان (كُردستان سوريا)، فعلاً وقولاً، وقدّمت لهم الكثير مما كانوا يحتاجونه في أحلك…