نار التطرف الديني «العربي» ومطافئ الآخرين

ابراهيم محمود
 

التطرف الديني بطابعه الإسلامي يضرب بجذوره
في المنطقة العربية ! عنوان عريض يمكن أن يشغل أكثر من موضوع بحثي سياسي واقتصادي
واجتماعي وتاريخي وتربوي وبيئي، وحتى في سلسلة كتب، كون الموضوع الواحد قابلاً
للتجزؤ إلى موضوعات، نظراً لحجم التحدي الذي يشكله هذا التطرف.

سوى أن الأخطر هنا، هو أن هذه النار التي
يصعب، وربما، يستحيل تجاهل خاصيتها العربية في الحرق والإيذاء والتهديد بصور شتى،
تتجاوز حدود اشتعالها، في تحركها، وقفزاتها، وتستعر في بؤر توتر أو تجدها صالحة
للتنشط فيها، وهنا يجد الآخرون أنفسهم مضطرين إلى أن يجدوا ” مطافئ ”
تتناسب وخطورة هذه النار وألسنتها الحارقة المحرقة.

سوى أن الأكثر خطورة بالمقابل، هو مدى تجاهل
الأنظمة العربية وأجندتها الخاصة بها والمعنيين بأمورها الأمنية، وحتى أولئك الذين
يجدون أنفسهم على تماس معها في الميول والموالاة والمشاعر المسهّلة لهذا التطرف،
لحقيقة هذه النار، لحظة الحديث عنها، أو التنبيه إلى مخاطرها بين الحين والآخر في
الإعلام وفي لقاءات واجتماعات الساسة العرب، وعلى أعلى مستوى، واستخدام عبارات
وحتى توجيه أنظار إلى أن لزوم تحديه في إطار ما بات يعرَف بـ” مكافحة الإرهاب
“، دون أن تلزَم أي جهة نفسها بالاعتراف بأصول هذا التطرف: مبعثه، ووقوده،
ومن يكتوي بناره . 
 
إن أي اعتراف يعني أن تواجه هذه الجهات/
الأطراف نفسها، أن تنظر ملياً في الأرض التي تقف عليها بأجهزتها الإيديولوجية وتلك السياسات
التي تختطها وتعتمد عليها في علاقاتها مع مجتمعاتها ومع العالم الخارجي: أجهزة
تغفل عن ثلاثة أرباع المشكل الذي يحمل طابعاً من الجينية ” المورّثة ”
المستحدثة والمهجنة ” المطعَّمة ” العربية في الصميم، بما هو جار في
محيطها، وفي إطار التقدم التقني وخطوط التواصل الاجتماعي، وهي تغذي الأذهان،
باعتبارها مساع لضبط مجتمعاتها، وإيذاناً دورياً على أنها متنبهة لكل جديد أو خطر
يتهددها، وفي سياساتها المعتمدة إجمالاً مبعث الخطر. 
 
الحامل الرئيس لهذه السياسات ديني : إسلامي،
وهذا ليس بجديد، إنما الجديد و” المفيد في المحرّك البحثي المرئي “، هو أنها بقدر
ما تشدّد على الدين الإسلامي ” الحنيف ” وقدرته على تقديم الحلول لكل
المشاكل، حتى تلك التي تواجهها البشرية أو العالم من حولها، كما هو مدرَك في
المقولة التي أصبحت كلاسية ” الإسلام هو الحال “: شعار أكثر الحركات
الإسلامية جذرية: وداعش هو الجيل الأحدث والأكثر تنشيطاً وممارسة للإرهاب والتعامل
مع الآخرين: حتى الأكثر قرباً منه في ” أخوَّة الدين الواحد “، أي لحظة
الشعور بأن الإسلام كحل لا يقتصر على اعتباره مصدراً  للشريعة في جل البلدان العربية، ومحكّماً في
كافتها، بقدر ما يفتح الحدود في التعاطي الديني وفي مسارات وممرات أخرى، يتخذ
هيئات أخرى تكون نقيض النسخة ” الدينية ” المعتمَدة في بنية السياسات
العربية إجمالاً . 
 
يشغل هذا التعاطي وهو غاية في التنوع
والتنافر: بين المعتبَر مؤسساتياً وقاعدياً وما يكون خلافه في المتحول المسلكي العقيدي والتشريعي
المباشر، جل المجتمع، ويهيئ لنسبة كبيرة من المنظّرين لهذه الحركات أو التنظيمات
أو الأحزاب الديني الإسلامية، والداخلين فيها باعتبارهم جنوداً وانتحاريين ”
مجاهدين “، وهم عرب، لأن يكونوا قادة وأمراء وأولي أمر لها، وفي إطار الدعوات
إلى الدين على طرقهم، وهم يوجّهون العنف المتصاعد في نفوس من يعيشون تهميشاً، أو
شعوراً بالغبن، أو بحاجتهم إلى المختلف، أو بشكل أدق إلى التعبير عن وجودهم بتلك
النخوة، أو الحماسة الدينية ذات الأصول السلفية، وأهليتهم لتنفيذ التعليمات، كما
لو أنهم يجددون الإسلام، ويحاولون إرشاد الضالين، التائهين من المسلمين قبل
الآخرين، والآخرين عند توافر الإمكانات في أي نقطة في العالم، وعبر ما بات يسمى
بمواقع ” التواصل الاجتماعي”: الفيسبوك وغيرها، إلى جادة الصواب، وما
يترتب على ذلك من كسب ثواب، أو نيل المكافآت الربانية الطابع، أين منها كل ما
أجزلت الأنظمة العربية ودوائرها السياسية والثقافية والاجتماعية في عطائه، كما لو
أن هؤلاء المتحمسين، وهم يندفعون في مسالك الدعوة والبحث عن المواقع التي تصلح
للقيام بمهامهم الموكولة إليها، كما لو أنهم موصولون بأولئك الأسلاف، ولكل منهم
” من أولي أمرهم خصوصاً ” ذلك اللقب الذي يحله في موقع ” الصحابي
” أو ” التابع ” أو ” تابع التابع “، مع اختلاف الشكل
ليس إلا، وفي أوساط اجتماعية متهمة بالكفر أو الابتعاد عن الدين وأصوله . 
 
هذه النار، نار التطرف الديني العربي، تتحمل
الأنظمة العربية بسياساتها شديدة التمركز والتي تترجم عنفها في التشكيل والتعامل مع
مجتمعاتها وطرق التجييش الوعي الشعبوي والقوموي العروبي أو الإسلاموي، دون وجود
ذلك الاستعداد للتوقف ومجابهة ما هي عليه، وكما هو السائد في جل البلاد العربية من
شعور ديني، هو حمّى دينية، وثمة جهات تغذيها وتحرص على تحديثها والدفع في جهات
مختلفة، وهو ما يخرجها من التاريخ بمفهومه المدني والثقافي الذي يكفل بناء المجتمع
ويؤمّن طرق الإمدادات الصحية والنفسية والمادية السليمة لبقائه، لأن النسبة الأكبر
من المنخرطين في إشعال هذه النار وتسعيرها وتمثيلها والحرص على توسيع رقعتها هم
عرب، ولهم أسماء وألقاب عربية، وهي نار تحفّز دولاً مختلفة في العالم على التعامل
معها واستغلالها تجاوباً مع سياساتها ومصالحها، في الحدود التي تبقي عنف النار
المدمرة وضحاياها أوسع  كما في سوريا
والعراق ” مع داعش وغير داعش “، وكأنها تتضامن مع أنظمة المنطقة بالذات،
والمحاولات التي تجمعها معاً، كما هو الحال الراهن، لا تعدو أن تكون نوعاً من
الطمأنة الذاتية المتبادلة، على أن كل شيء تحت السيطرة، أو لا بد أن تكون كذلك،
عبر سياسات إعلامية وفتح قنوات دبلوماسية لهذا الغرض، دون نسيان التصعيد بالموقف،
وممارسة نوع من شد الأحزمة وتنبيه الآخرين بلزوم أخذ الحيطة والحذر، لتبقى النار
هذه أو تلك مشتعلة، بينما أكثر الناس ” الغلابة ” يحترقون في نار هؤلاء
السعاة والدعاة والجناة والطغاة متعهدي هذه النار، بحيث إنه يستحيل في ضوء المعاش
وحتى في الأفق المنظور، القضاء عليها باعتماد كبريات المطافئ في العالم، ليس
لانتفاء التعادل بين سطوة الحريق وقوة النار، وإنما لأن المعنيين بالمطافئ في
الغالب، لا يدخرون جهداً حتى اللحظة، في الإيهام لمجتمعاتهم على أنهم في سعي حثيث
إلى إطفاء هذه النار، ولهم أساليبهم الدعائية والسياسية في ذلك، سوى أن العدد أقل
من المسمى، إلى جانب أن كثيراً من ” الإطفائيات ” دون المأمول،
وبدلاً من المواد المطفئة للحريق، وهي بحمولتها المرئية، تقوي صلاتها بمواقع النار
وتزيد في إشعالها: المهم هو بقاء هذه الأنظمة وإلى أجل غير مسمى: أنظمة داعمة،
وأنظمة تقف وراءها، وأنظمة تستند بها !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…