3-ما كان من وجود لداعش
الحرب لن يكون لها وجود. فبعد الحرب الساخنة، وصراعها العنيف، وبعد الحرب الباردة،
ها نحن أمام الحرب الميتة: حرب أُخرجت للتو من البرّاد تضعنا على محك جثة الحرب وتجبرنا
على التعاطي مع جسد في طور التفسخ .)
” جان بودريار ”
وهو لمّا يزل يهدد ويتوعد، يقتل، ويدمّر؟
كيف يوضع حد/ خط نهاية مفترضة لما هو مرفوض
بداية؟ أي بالنسبة لداعش القائم ؟
أعتقد أن اللعبة كامنة في هذه المعادلة :
موجودة وغير موجودة، ونفي وجودها كلياً .
هذا يتماشى أو يتوازى مع جملة سياسات إعلامية وضمن
إعلامية أفصحت عن داعش !
علينا أن ننطلق مما توقفنا عنده:
ما لم نستطع استدراكه في الحالة الأولى ” افتراض
ما كان “، يحول دون تبين الحالة الثانية ” افتراض ما هو كائن
“، يحول منطقياً هذه المرَّة دون مكاشفة الآتي.
لكن المغامرة التي تقفز على الواقع وترتبط بما يتعداه، تضعنا
في حمى ” ذاكرة المستقبل ” .
إنه نوع آخر من المكان والزمان اللذين يعصيان
منطق السائد، بما أن داعش تحرك ويتحرك دون وجود حدود تسمّيه، كونه هو الذي يسمي حدوده
التي تتحرك معه، كما أنه يزمّن لساعته.
لعله مجتمع ديجيتال فوق النص المعهود، يعلو
الزمان والمكان المعتمدَين في الكشوف الجغرافية بالتأكيد، أي إننا أبعد ما نكون في
إطار ” ناشينال جغرافيك ” المعيَّن، إذ يتحدد الزمان والمكان
والخطاب المبرمج وزمن الرحلة والموضوع بداية ونهاية، إنما في عهدة ” ناشينال
يوتوبيك “،
وهذا الاستشراف النوعي، الاستثنائي العائد
إلى داعش الذي لم يجد من يحتضنه مباشرة، وانتفى وجود قاعدة جماهيرية، شعبية،
سياسية قائمة في حدود أرضية تكون قابلة للمساءلة، هو الذي يغيّر في بنية الاستشراف
ويدعنا نهب أسئلة لا تهدأ مع أي جواب، مهما برز دقةً، مثل:
كيف انطلق داعش، وأين، ومتى، ومن قبَل من ؟
أي عقد تلوَّن بمؤثرات عقيدية، واجتماعية، وسياسية، ومصالحية، من جهة أطراف اللعبة
؟ ماذا يمكن استخلاصه من مسيرة داعش ؟
حرب لم تكن حرباً، وحرب كانت حرباً بالفعل،
وحرب خلَّفت ضحايا وكوارث وفظائع، إنما يصعب البت بوجود آثار دالة، فعلياً، على الجناة،
وعقود عملهم الفعلية فيما قاموا به جُرمياً .
هذا يدخلنا في منعطف تاريخ مغاير لكل صنافات
التاريخ التي عرفها العالم، أي التاريخ الذي كان مدرَكاً بالوثيقة، بالحدث الجاري
تعيينه، وتشخيصه، إلى التاريخ الذي يلحُق بحدثه شديد الخصوصية والإشغال لعموم
القوى النفسية، التاريخ الذي يتمرد على اسمه بأصول تنتظره، وليس تبعاً لقواعد
موضوعة، كما هو مفهوم ” المنهج ” بالذات، تاريخ لا يوهب لحماً وعظماً
ودماً عبر اليوم والشهر والسنة، وحتى الجزء من الثانية، طالما أن الأثر نافذ الفعل
كثيراً، حيث لا يعود من أثر للذين انخرطوا في اللعبة المدمرة، فدمروا ودمّروا، حيث
ظلالهم كانت داخلهم.
في المدى المجدي جداً لمفهوم المستقبل، أو
أفق منظوره، بافتراض أن داعش انتهى في تاريخ معلوم، فإنه يعدِم قوام الصورة
المعتادة، وإمكان تحرّي خطوط تحرك القائمين بأمره بدقة، إذ سيكون هناك المزيد من
التكهنات، والارتطام بالمزيد من الجدران الصلدة، أو بتصورات مرهقة إلى حد بعيد،
لأن حواضن داعش لم تُسم، ولأن مرابي داعش لم يكشفوا عن أنفسهم، بقدر ما كان هناك
من يمارس تغطية لأخبارهم، وما في ذلك من تبنٍّ ضمني، تعبيراً عن مصالح قوموية،
وعروبوية، وسلطوية موجهة” عبر تعامل داعش مع الكرد، وفي إقليم كردستان
تحديداً “، إلا أن ذلك لا يسمح لأي متتبع سياسي، أو خبير استراتيجي عسكري، أو
باحث في هذا الشأن، في أن يحدد نطاق بحثه، ويرسم سهماً أو أكثر يقود إلى نقاط توتر
الموضوع، أو دائرة بطريقة ما تحيط بالحدث
المفترض، والأسماء الفعلية التي انتسبت إليه، أو عرِفت من خلاله.
لن يكون في مقدور أي مخضرم في أمور كهذه، من
أن يقدم معلومة مفيدة، لها قيمة وثائقية، أو أثر تاريخي معتمد، لإعلان العثور على ”
رأس الخيط “، سوى الممكن تعيينه دون تردد، على إثر هذا الإقلاق
المركّب لعالم كامل، والذين استحالوا ضحايا بالآلاف، وحصر الخسائر، وتسمية الكوارث
والفظائع أو المجازر، وهو أن تجلي صدوع في أرضية تاريخ العلاقات البشرية، وعلى
مستوى قاري، دون أي استثناء لقارة لحساب أخرى، دون تغييب القيمة التفاضلية، وحساب
التفاوتات، لكن ذلك يبقي النار الساخنة: الحارقة والمحرقة، والتي تجعل الجميع على
أهبة الاستعداد لمواجهة ما ليس معهوداً بنتائجه الوخيمة، مقابل الصادم، حتى
بالنسبة للذين يبقون طي الكتمان، مواظبين على عزل أنفسهم عن تحمل أي جزء من
مسئولية الجاري، طالما أن مجرد التلميح بوجوده يفتح محاضر ضبط، تسخّن جليداً شديد
السماكة، وتهدد بلدان ومجتمعات معروفة بالاستقرار ” باستقرار نسبي سياسياً
بالتأكيد: أميركية وأوربية “، وما تشهده أميركا وأوربا من حالات تذمر وتسمية
مخاوف، وظهور مسيرات لخلايا أكثر من كونها نائمة، هي مشاريع داعشية، وردود أفعال
مجتمعاتها، يهدد أنظمة الديجيتال نفسها، مثلما أنه يضع العالم أجمع، ولأول مرة، في
مواجهة مخاطر مصيرية، تتعدى إمكان الضبط والتحكم.
أي حديث يشفع في التذكير بمؤاساة لحظة إدراك
أن سلسلة من التهديدات الصفيقة تتهدد الهوية، ومنطق العالم، وعصبة الأمم، وخرافة
حكمة الإنسان، عبر الحدث المتعدي لأصوله التقليدية، وقد استحال العالم مرتجاً،
مخضوضاً في زق كوني هائل الزلزلة، على وشك انفجار، وأي انفجار، لا يعدو أن يكون
شظايا متناثرة لا تبقي ولا تذر في قانون وحدة الكائن العظيم ؟!
مثلما أنه ينزع الزمن عن سياقه، مثلما يثقِل
على مفهوم السياق كمتتالية هندسية لها منطقها ذي الألفة، مثلما يضفي على اللغة بوضعيتها
القاموسية والإنشائية والتركيبية ما لم تعهده هي ذاتها، مثلما يجرّد المكان من
مكانيته ” سلسلة العبورات الداعشية والمصوَّرة بكل دقة ، إلى جانب الدقة
الميكروسكوبية المسجّلة والملتقطة لأقل الحركات والأصوات وتداعياتها، إلى جانب
عامل الدعم المقطوع الوسيط، أي علامة الربط، لجعل المقاربة مقدَّرة ومشجعة على
اتخاذ قرار: حكم قيمة، استخلاص العبرة من الجاري تحرّيه، تشظي المفهوم، بحيث يتحدى
المعني الرئيس نفسه.
على كل زمان معتبَر، وزلزلة كوكب كامل، لأن نوعية الكوارث، إلى جانب نوعية
الفظائع، وسمات الضحايا ومواقعهم، تواجَه بعماء
يمحو ما عداه، ولا يعود ينحصر في بقعة معينة من الأرض، وقد تقاربت الأرض
والسماء …!
ملاحظة: تلك هي اللحظة الثالثة، المقال
الثالث، كنتيجة مركَّبة لما تقدم ذكره، مقابل ما أثاره جان بودريار في مقاله
الثالث في السياق المذكور، وهو” حرب الخليج لم تقع ” ، أي :
La Geurre du Golfe n,a pas eu
lieu
والمنشور في الصحيفة الفرنسية ذاتها بتاريخ
29 آذار 1991، بصدد حرب الخليج الثانية، وعلينا أن نعيش هول المتردد ورقعة الموت
والدمار راهناً، وتالياً، ولزمن يطول، مقارنة بفسحة حرب الخليج الثانية جغرافياً،
والذين شاركوا فيها من الجنود وحدود الحرب وأنظمتها ….