صدمة غزو الظلاميين شنكال، في فجر يوم الثاني من
آب الجاري إلى مرتبة هاتيك الصدمات الكبرى التي تظل ندبة في الملامح
الشخصية للأمم والشعوب التي تتعرض لها، وندية
الدم والألم، في وجداناتها، مهما تقادم بها العهد، في ظل انعدام الوازع
الأخلاقي والإنساني، وذلك لأسباب عديدة، في مطلعها أن أبناء منطقة شنكال من عداد
هؤلاء المسالمين، المجربين، في الأرض، نتيجة عاملين رئيسين، أولهما: طبيعة كرديتهم
التي كانت سبباً في اهتمامهم، طوال التاريخ بمن حولهم، وحتى على حساب خصوصيتهم،
وهي في عمقها مثلبة كبرى، بات الكردي يستشعر بخطورتها،
العرب، بعد أن تمّ فك الارتباط العلني بينه والأمم والشعوب التي شاركته خيمة
الإسلام عبر قرون طويلة، لاسيما بعد الحرب العالمية الأولى وتقاسم تركة “الشيخ
العثماني المريض” وتطويب ذلك من قبل الغرب، سايكسبيكوياً، ليمارس كل من
اقتسموا كردستان من: ترك وفرس وعرب سياسات تذويبهم العرقي، كل في بوتقته، من خلال
الشوفينيين المغالين من أبناء تلك القوميات الذين وصلوا دفة حكم، وكانت مجازر كمال
أتاتورك وسياساته ضد الوجود الكردي، في كردستان الشمالية، الوجه الأقبح في ذلك،
كما تم استنساخ ذلك من قبل الأنظمة الدموية في الأجزاء الأخرى، كل منها بحسب طريقة
و حجم ترجمة الحلم القومي الكردي، في فضائه، حيث لم يكن هناك أي فرق في الجوهر بين
هؤلاء جميعاً.
وثاني هذه العوامل يتجسد في سماحة روح
الإيزيدي، حيث استهدفت رقبته سكين الغدر، وبقي وفياً لقيمه التي تربى عليها،
دون أن يتنازل عنها، وإن كان من صفاته ككردي قبل كل شيء أنه يرفض الذلَّ والخنوع،
وأن تشبثه بإيزيديته دليل على أن شموخه، وتضحياته، حتى وإن كان ثمن ذلك روحه، وهو ما
جعله محط احترام من قبل كل من هو متجرد من سطوة الأحكام المسبقة ضده، وهي أحكام
إلغائية، ناتجة عن عقل كارثي وبائي بات يتعرى على حقيقته، حتى في أبرز محطاته: منذ
ظهور الخوارج في زمن عثمان بن عفان، ومن
ثم فكر ابن تيمية الذي لم يفت في استهداف الإيزيديين، بيد أن فكره يشكل مرجعية
التكفير الأكثر بروزاً، مروراً بمحمد بن عبدالوهاب”1791-1703 ومنظرالحاكمية أبي علاء الودودي ” –ت 1979ومحمد
بن عبدالوهاب وحتى أسامة ابن لادن وأواخر التكفيريين
الذين نجدهم الآن.
وطبيعي، أن البيشمركة التي استطاعت-تاريخياً-
تحقيق المعجزات في مقارعة نظام بغداد، لها صورتها وصداها المائزان لدى
الشعب الكردي، بكل مكوناته الدينية والإثنية، كما لدى الخصوم، والمتابعين
لسيرتها،لاسيما أنها وباعداد قليلة لها، لا تقاس بقوة جيش جرار، كالجيش العراقي، الذي كان قد تزود بأحدث أسلحة ومعدات الشرق والغرب، وبخاصة خلال فترتي
الستينيات والسبعينيات، فقد استطاعت أن تقهر هذا الجيش النظامي أمام أعين الملأ
أجمع، إلا أن دخول فلول داعش إلى شنكال، كان من شأنه أن يسيء-لأول وهلة- إلى هذا
الانطباع، لاسيما أن مجزرة رهيبة تقشعرُّ لها الأبدان قد تمت، بل قدتم سبي بناتنا
ونسائنا وقاصراتنا الإيزيديات، وأعلن عن بيعهن في أسواق النخاسة، ناهيك عن قتل
الأطفال، والشيوخ، والشباب، وتهجير المنطقة من ذويها.
مؤكد، أن أي استقراء للوحة، ضمن هذه
التوصيفات هو محبط، ما لم نضع أمام أعيننا، أسباب انسحاب البيشمركة،
بعد استشهاد بعضهم في المواجهات، وهو أمر خاطىء بكل المقاييس، وإن كان لسان حال من
يرافع-هنا-هو أن ما ارتكبه هؤلاء الوحوش الضارية في”شنكال” غير مسبوق،
وإن دخولهم إلى كل من الرقة والموصل، ورغم كل ما قاموا به من أهوال، فإن الأمر لم
يبلغ هذه الدرجة، مادام أنهم قد أعلنوا أن عدوهم الأول” حزب العمال
الكردستاني” ومن يدور في فلكه، كما قوات الحماية الشعبية” ي ب ك”، من
جهة، والبيشمركة، من جهة أخرى، كما أنهم لم يرتكبوا مجازر مفتوحة ولا سبياً
رسمياً، بحق مسيحيي، وشبك العراق جنوبي كردستان، و إيزيديي غرب كردستان ” رغم
استهدافهم قبل ذلك من قبل بعض التكفيريين”، وهو ما تناولناه آنذاك مع آخرين
في بعض متابعاتنا..!.
رغم أن بعضهم استهزأ من افتراضية انسحاب
البيشمركة من “شنكال” أمام قوة داعشوية غير محسوبة، عمادها مسلحو هذا
التنظيم الإرهابي وحاضناتهم القبلية، عبر ستمئة آلية، وهي كبيرة جداً، ناهيك عن
تسليحها الهجومي، الذي حصلت عليه وفق “مسرحيات معدَّة” فاحت رائحتها،
وباتت معروفة من قبل كل متابع فطن، مع مراعاة العامل الأكثر حسماً، وهو عنصر المباغتة
الذي بلغ أوجه، في شنكال، على خلاف ما تم في الموصل، أو المحطات الأخرى التي مر بها
داعش، أو توغل فيها، أو احتلها، وذلك حرصاً على أرواح المدنيين الذين-يفترض- في كل
الغزوات، والحروب، أن يكونوا في معزل عما يتم، بل أن هناك أمراً جد مهم، يحاول
كثيرون تجنب الحديث عنه يتعلق بحداثة محاولة البيشمركة تعزيز حضورها في منطقة
شنكال، وحمايتها، إلى جانب جيش المركز الاتحادي الذي لا يشير إليه أحد، فالمنطقة-برمتها-
تابعة للمركز-أي بغداد- ومن ضمن المناطق المتنازع عليها، وأن هناك تحريضاً ضدها، مما
حولها، من قبل الأوساط التي لا تريد الخير للإيزيديين، وأهلهم الكرد، على حدّ سواء،
وماغزو شنكال إلا أحد نتائج ذلك..!؟
أتبع داعش سياسة مخطط لها على نحو دقيق، ومسبق، قبيل دخوله إلى سنجار، بدءاً بإعلانه أن لا خطر له على
الكرد” و”الإيزيديين” وطل وعلى صعيد الإشاعة”، ومروراً بقطع
الطريق على البيشمركة عبر مسافة أكثر من ستين كيلومتراً، من أصل مئتين وخمسين
كيلومتراً يفصل شنكال عن مركز دهوك، وهي كيلومترات مسكونة ب”بعض عنصريي و
شوفينيي” المنطقة المتراوحة مابين “ربيعة” وحتى
أطراف”زمار” الذين غدروا بالكرد ، ليسهموا معاً في الفتك بالإيزيديين، بعد اللجوء إلى ارتكاب
مجازر تمهيدية وعمليات انتحارية ترويعية، في القرى الإيزيدية” قرب البعاج
جنوب شنكال كسيبا وشيخ خدر وكرعزيز و كرزرك”، لتبقيها بين فكي كماشتها
بين”الجبل الأجرد، والصحراء الهالكة، بيد أن قوات البيشمركة استطاعت أن تصل
بعد أسبوع-وتحديداً في العاشر من الشهر الجاري- إلى أعالي شنكال، مع وصول الطائرات
الأمريكية المنقذة للعالقين.!؟
إن من يريد أن يعرف سايكولوجيا و ماهية
البيشمركة، فإن عليه أن يستقرىء-وبضمير يقظ- إنجازاتها، واستبسالها -شنكالياً-
منذ لملمة نفسها، بعيد وقوع الصدمة، مباشرة، وإلحاق الهزيمة تلو الهزيمة بداعش،
وإن كانت تتكبد أرواح الكثيرين من أبطالها، وفي هذا ما يدحض أي تشكيك بافتراض
تواطؤ رسمي مع المخطط الذي تم، لأننا هنا أمام محاكمات من نوع آخر، بعيداً عن ردود
الفعل، أوالتجني، أو التجديف، لأن لشنكال مكانة مقدسة لدى كل كردي شريف، ولا يمكن
أن يفرط بها، إلا من يخون نفسه-والخونة موجودون بين الشعوب كلها- وأن معرفة بدهيات الحروب، ومنها ثنائية الكرِّ
والفرّ “رغم بشاعة الفرّ” موجودة، وليس في تاريخ العالم كله، ثمة جيش لم
ينتصر، بل أن الإمعان في تاريخ جيش صلاح الدين الأيوبي نفسه الذي يتصادى صيته، بين
الغرب والشرق، بل وفي الجهات كلها، قد تعرض في أكثر من مرة لكبوات معروفة، خارج إرداتها،
بيد أن ما سجل للقوة العسكرية هو ما تحسمه في النهاية.
لا أنفي أن أية شكوك تساور نفس أي امرىء منا،
من الممكن مناقشتها، مشروعة، في حدها الطبيعي، بيد أني أرى- وهو رأيي
الذي كتبته أكثر من مرة للصديق إبراهيم محمود في رسائلنا المتبادلة يومياً بعيد
نكبة شنكال- أن على أقلامنا أن تساهم-مادامت رحى الحرب دائرة- في شحذ الهمم،
وتصليب الإرادات، والرد على فحوى الحرب الإعلامية القذرة التي يمارسها داعش، وقد
وجدنا أن اللقطات “الإرهابية” التي بدأ التنظيم ينشرها، بعد مرور سنة له
في الرقة، وهو في إطار تنفيذ مخططه، وتوسيع رقعته، من الافتراض إلى الواقع، ساعدته في دب الهلع في النفوس، وكان جزءاً
كبيراً من هزيمة الجيش العراقي في الموصل بسببه، وهو ما يفرض علينا اليقظة، لاسيما
في إعلامنا، ورصدنا الثقافي لما يتم، إذ يطلب منا ألا نخدم داعش في تشويه صورة
المقاتل الكردي، سواء أكان من قوات الحماية الشعبية في كوباني ومدن كردستان الغربية،
أو قنديل، أو جنوبي كردستان، وحتى خارج كردستان، عامة، وهو ما أنتبه إليه، رغم
ضرورة التركيز على النقد، في حال ثبوت أسباب ذلك، حيث أن السكوت عليها، تدفع
باتجاه هزيمتنا، حتى في دواخلنا.
وفي ما يخص موضوع افتراض صفقة محددة، بين
الإقليم وداعش، رغم أنه أمر جد خطير، بيد أني لست في صدد مناقشته، لأنه
من نتاج “المظنة”، لا أكثر، ولا يمكن القبول به، بل هو لا يصمد أمام أية
محاكمة عقلية، ضميرية، وقد تخلق لدى من ينضح بالوطنية، والحرص على شنكال، والقضية،
في لحظة ردود فعل، وهو أمر مستوعب، وإن كان له تأثيره الخطير، لاسيما عندما يتم
استغلاله من قبل هؤلاء الذين طالما اشتغلوا على تمزيق الصف الكردي، والفصل بينه و
إيزيدييه، أو محاولة استئصال قلبه الإيزيدي خارج قفصه الصدري، وقد وجد هؤلاء
الفرصة مؤاتية، بل وجدنا من راح يهلل من خارج المشهد.
قلت لأحد الذين ناقشوني، منذ أيام، حول
احتمال فرضية وجود تواطؤ من قبل بعض الضباط لاستدرار الغرب لتسليح
الإقليم: إن من يتحدث بهذه الطريقة لا يعرف منظومة القيم الأخلاقية لدى الرئيس
البرزاني الذي سيضحي بكل أسرته، رافضاً أية ميكافيلية لا تليق بتاريخه، وتاريخ
أسرته، بل وأنه لو كان موقع سنجار هو أسرة البرزاني نفسه، لتم استهدافها، بغض
النظر عمن يسكنونها، ناهيك عن أن الغرب الذي بات يجد داعش يخرج عن “كونتروله”
بعد أن نما في مختبراته المرصودة، يجد في الكرد بعامة، وإقليم كردستان، بخاصة، خير
واجهة لمقاومة هذا الوباء الكوني الذي يعد نسخة إيبولاً الدموية في الشرق الأوسط
كله..!
البرزاني، من تر كيز على محاكمة القيادات المسؤولة أمر جد مهم،
لأن هناك خللاً تم، وكان ثمنه جد باهظ، وجد خطير، ولابد من كشف الأمور أمام القاصي
والداني، وبجرأة، رغم أن من ينذر روحه ك”بيشمركة” من أجل قضيته وشعبه وقيمه
ومبادئه، لا يمكن أن يكون في روحه مساحة للمساومة، أو التخاذل، بيد أن تبيان
الأمور، لاسيما أمام حجم الكارثة الشنكالية التي تطعن أعماق كل منا، تطعننا في ضميرنا،
ووجداننا، ولا يمكن أن نهدأ، لو أزيل داعش والفكر الداعشي، ألف مرة، فكل ذلك لا يعادل
دمعة طفل إيزيدي، و”لاذرّة غبار من حذاء” أية من بناتنا وأخواتنا
وأمهاتنا الإيزيديات، كما هو مضمون أحد الأمثال الكردية.
وأخيراً، فإن ممارسة”جلد الذات”
و”الآخر” في إطارالبحث عن مسوغ لما حدث، لا يفيد البتة، بعد وقوع “الفأس
في الرأس”، لأننا جميعاً مدعوون لتشريح ما تم، في مختبر العقل والحكمة، من
خلال فهم عال لطبيعة المرحلة، لاسيما أن المؤامرة لما تزل في أولها، ومن هم وراء
داعش لا يمكن لهم أن يتوقفوا عند حدود ما ارتكبته أياديهم الآثمة، من توزيع
لحراتنا، حتى على حراس حقول النفط في ديرالزور-كما روى لي شهود عيان من هناك- فهم
يريدون ل”قيامتهم”المزعومة، أن تتوازى مع”حشرنا” الأخير، لأنه
مهما كانت أغراض داعش متعددة، فإن استهداف الكردي يدخل في رأس قائمته، كما بينت
لنا مجازر شنكال الأبية.
29-8-2014