الطبيب الجيد يبحث عن الأسباب الحقيقة الكامنة وراء مرضٍ ما يصيب أحد زبائنه ولا يكتفي بإعطاء الأدوية المسكّنة أو المهدئة التي تخفف من آلامه من دون أن تعالج ما أصيب به فعلاً. وعلى كتابنا الكورد أيضاً أن يغوصوا في أعماق المشكلة الداعشية ويحاولوا علاجها أو على الأقل فهمها وشرحها لشعبنا الذي بدا في حيرةٍ من أمر ما يحدث الآن حوله.
ما أردت قوله في نهاية مقالي هذا أقوله هنا:
داعش يمارس سياسة، فهو ليس مجرّد جماعة من غلاة دين ومتطرفي مذهب، وإنما هو أداة سياسية ذات توجهات إقليمية ودولية وأهداف عديدة، وفي مقدمتها جرّ الولايات المتحدة إلى حرب استنزاف لطاقاتها وامكاناتها الضعيفة في المنطقة، وهذا يعني أن هناك مستشارين لداعش يملون عليها السياسات الإقليمية، مثلما للأسد وزبانيته أيضاً مستشارون روس وصينيون وإيرانيون، وبالتأكيد فإن لروسيا قبل سواها أصابع في هذه الطبخة التي يتم طبخها في المنطقة ما بين حلب وبغداد، بعد أن وقفت أمريكا وأوروبا ضدها في شرق أوروبا عامةً وفي أوكرانيا خاصةً، فإن أي تغيير في خريطة منطقةٍ ما من العالم يستوجب التغيير في خريطة منطقةٍ أخرى، هكذا كان وسيبقى هكذا، فهذه أسس اللعبة الدولية القذرة التي سماها صحافي عريق أثناء الحرب الباردة ب”لعبة الأمم”.
ولنعد إلى الوراء قليلاً حتى تتضح لنا الصورة.
كلنا يتذكّر كيف اتهم السيدان وزير خارجية العراق (الكوردي) هوشيار زيباري ورئيس وزراء العراق نور الدين المالكي (شيعي) نظام الأسد السوري قبل سنواتٍ بأنه يدعم الإرهاب في العراق، وكيف هددا نظام الأسد بالشكوى ضده لدى الأمم المتحدة… في تلك المرحلة بالذات تشكّلت منظمات ومجموعات إرهابية عربية مؤيدة لتنظيم القاعدة الذي أعلن عداءه للولايات المتحدة الأمريكية، وزاد في عدائه ذاك غزو أمريكا للعراق واسقاط نظام صدام حسين في عام 2003، مما جعل من المناطق السنية التي كانت تتمتّع في ظل نظام البعث الصدامي بالكثير من المنافع والمناصب الحكومية وخسرت بسقوطه الكثير من تلك المصالح، مرتعاً للإرهابيين والمغامرين، واستطاع تنظيم القاعدة توحيش “النظام الديموقراطي للعراق الجديد” واعتبار كل من تسلّم منصباً في العراق بعد سقوط البعث، عميلاً خائناً جاء على ظهر دبابة أمريكية، في حين أن كثيرين من العراقيين عادوا بشكل طبيعي واعتيادي كنتيجة لرحيل صدام وزبانيته إلى بلادهم بعد سنواتٍ طويلة من الهجرة المريرة، ومنهم من خرج بعد سنواتٍ من السجون والمعتقلات، ومنهم من كان يقاتل النظام كقادة الكورد على اختلاف أحزابهم وتنوّع خلافاتهم… ومما زاد في الطنبور نغماً الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها الأمريكان مثل حل الجيش العراقي وإصدار قانون اجتثاث حزب البعث عن طريق برلمانٍ غير ناضج وتنفيذ حكومةٍ لم تقرأ مستجدات الساحة العراقية بشكل جيد، إضافة إلى استغلال الأوضاع غير المستقرة من قبل جماعات وتنظيمات “قاتلة” للشيعة بدأت باختطاف العشرات يومياً من أبناء السنة واغتيالهم ورمي جثثهم في دجلة والفرات، بهدف تقليم أظافر “السنة” الذين كان منهم من يساهم في حكم العراق ذي الأغلبية الشيعية بالحديد والنار عقوداً من الزمن ، فوجد أبناء السنة الفارين من الجحيم ملاذاً لهم في الدول العربية التي كانت ولا تزال تعتبر العراق قد صار لقمةً سائغة في فم النظام الطائفي الفارسي في طهران، ورأت كما ترى الآن أي حكومة عراقية مجرّد أداةٍ للسيطرة الفارسية الشيعية ليس إلا، ومنهم من لجأ إلى سوريا التي استغلت حاجتهم وضعفهم استغلالاً بشعاً. فقامت جهات عربية عديدة بدعم كل النشاطات السنية المعادية لإيران في العراق، بل في سوريا أيضاً، وهكذا كان ميلاد سائر أطفال القاعدة وأحفادها في بلاد الرافدين والشام.
وكلنا يعلم أن ما يهم نظام الأسد في سوريا، ليس توحيد العرب ولا تحرير فلسطين ولا بناء أمة ذات رسالةٍ خالدة وإنما استمرار الحكم الطائفي “العلوي” المستفرد بالسلطة والناهب لخيرات البلاد ولأموال الشعب، فلا العقائد مهمة ولا البرامج جادة، وإنما اللعب بالأوراق كلها وخلطها كلما دعت الحاجة من جديد وعقد التحالفات مع الجميع بهدف ضرب كل الأطراف بعضها ببعض ولا يهم إن كان الحليف ذا ذقنٍ طويلة أو بلا ذقن، المهم أن يستفيد منه النظام الذي لم يكن يتوقّع تغيّر الأجواء العربية من خلال ثوراتٍ شعبية، سميت فيما بعد ب”الربيع العربي”، وكيف ظن حتى حدوث أوّل مظاهرةٍ سلمية متواضعة قادها مهندس في مدينة حلب ضده أنه حصين ويتمتّع بتأييد شعبي لامثيل له، فرايات حزبه وصوره الملونة كانت تملا شوارع حلب ودمشق، وظن أنه قادر على لجم أي معارضة لأنه اخترق صفوفها كلها خلال عقودٍ طويلة من الزمن. إلا أن الهجمة الوحشية لزبانيته على أطفالٍ في جنوب سوريا وتعذيبهم بوحشيةٍ ونذالة ومن ثم قتل بعضهم قد دفعت بالجماهير الغاضبة إلى الخروج إلى الشوارع تعبيراً عن سخطها على النظام وتنديداً بالجريمة النكراء، فأطلق الجنود ورجال المخابرات النار على المتظاهرين، ودفعت بالشرفاء من ضباط وجنود الجيش السوري إلى التساؤل عما إذا كانوا في الخدمة للدفاع عن هذا الشعب أم لتقتيله، وكلنا يعلم كيف تحوّلت الثورة السلمية إلى ثورةٍ مسلّحة جعلت من “اسقاط النظام” بقوة السلاح هدفاً أساسياً لها… حينذاك لم يتحدث حتى “الإخوان المسلمون” ولا “حزب التحرير الإسلامي” ولا أي منظمة مسلّحة موالية لهما أو خارجة على عليهما عن إقامة “دولة الخلافة!” التي أعلن عنها تنظيم داعش مؤخراً إعلاناً غريباً وعجيباً جاء من غرباء ملثمين، لا عراقيين ولا سوريين، ممن لا يعرفون جيداً عن طبائع السوريين والعراقيين والمكونات الكثيرة المختلفة لشعوب البلدين، ويجهلون عما إذا كانت هكذا “دولة” قادرة على الحياة والبقاء في هكذا منطقة من العالم اليوم.
بدأت الثورة السورية بهدف إسقاط نظام الأسد، إلا أنه اكتسب خبرة من نظام أبيه الذي سبقه في استخدام العنف الوحشي لقمع المعارضين بلا شفقة، كما جرى في ثمانينات القرن الماضي، وعلم كيف يتصرّف لتشويه سمعة الثورة وجعلها تبدو أمام أنظار العالم كتنظيماتٍ إرهابيةٍ إسلامية، فأطلق سراح العديد من المعتقلين الإسلاميين من سجونه، ودفع ببعض ضباطه إلى استخدام شتى الأساليب للظهور بمظاهر الإسلاميين من إطلاق لحى وارتداء ألبسة كما لدى الجماعات التكفيرية ورفع رايات إسلامية، وخلط الحابل بالنابل، في حين فشلت المعارضة السورية “المخترقة” في تبديد أكاذيب النظام وألاعيبه لاشتغال طواقمها بالنزاعات على المناصب والأموال وفقدان بوصلةٍ سياسيةٍ شاملة لها وانقسام ولاءاتها العربية لهذه الدولة أو تلك، وإهمالها نداءات الثوارالفعليين والحقيقيين على أرض المعركة، مما دفع العالم الحر الديموقراطي إلى إهمال “الموضوع السوري” كلياً والاهتمام بشمال أفريقيا، ومصر بوجه خاص، فاستفاد تنظيم داعش وأمثاله على توسيع نفوذه من خلال “غض النظر” من طرف النظام لما يقوم به، بهدف جعله مستقبلاً “هدفاً إسلامياً إرهابياً” له أمام أنظار العالم، وبالتالي إرغام المجتمع الدولي لتفضيله على “الثورة” بعد رؤية العالم للمشاهد المروّعة التي يشاهدها عما يرتكبه الدواعش من مجازر، في ذات الوقت الذي يتضاءل الاهتمام الإعلامي الدولي بالمجازر اليومية التي يرتكبها النظام ذاته، من خلال منع الإعلاميين العالميين لدخول سوريا وقتلهم وطردهم، بحيث تبدو سوريا كما يريدها هو: “نظام علماني يحارب منظمات إرهابية!!!”، فنجح في تحقيق ما أراده نجاحاً باهراً فعلاً، بينما فشلت المعارضة السورية، الداخلية والخارجية في إظهار الصورة الحقيقية للجريمة الكبرى ضد الإنسانية على أيادي نظام الأسد، إضافةً إلى الدعم الكبير له على مختلف الصعد العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية من قبل روسيا والصين وإيران وشمال كوريا وسواها، دون أي مراعاةٍ لحقوق الشعب السوري ومعاناته الكبيرة وتضحياته الجسيمة، ما أدى إلى تراجع المجتمع الدولي، وسكوت الإدارة الأمريكية، كرهاً أو طوعاً، عن جرائم النظام الأسدي وعن تعاظم قوى المنظمات المعادية للولايات المتحدة الأمريكية، بحيث بدت هذه الإدارة ضعيفة وغير مالكة لاستراتيجية ما بصدد سوريا والعراق، في حين تمكنت هذه المنظمات مستفيدةً من التكتيكات والسياسات الخاطئة لنظامي الأسد والمالكي معاً، من كسب آلاف الشباب الأوربي المسلم حديثاً واجتذابهم عبر تركيا وسواها للانضمام إلى صفوفها، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى القول بأنهم سيرفعون علمهم على البيت الأبيض في المستقبل.
قد لا يفهم البعض أسباب هروب القادة العسكريين العراقيين دون قتال في الموصل وتركهم كل أسلحة قطعاتهم العراقية لداعش، ولكن الجميع يعتقدون أن هذا الهروب جرى على شكل “مسرحية”، كما يعلم الجميع أنه لم تكن ثمة أسباب عسكرية أو سياسية وجيهة لهجوم داعش على الكورد والمسيحيين في المناطق الواقعة شمال الموصل، فالأسباب الدينية غير كافية لشرح ما جرى، فنحن نعلم أن داعش ارتكب ويرتكب المجازر ضد السنة (تصفية 700 شخص من عشيرة عربية سنية) والشيعة (قتل اكثر من 1500 جندي بالجملة) والمسيحيين والشبك وآلاف اليزيديين وسواهم، وأنه يحارب ضد الكورد والعرب، بل ضد المنظمات الإسلامية المنافسة له، إلا أنه لم يرتكب حتى الآن أي مذبحة – حسبما نعلم – ضد العلويين مثلاً، وأنه هدم مساجد وحسينيات ومزارات ومراقد المسلمين قبل أن يهدم الكنائس ومعابد اليزيديين، ولكن مع الأسف يتجاهل بعض كتابنا الكورد ذلك، ويحاولون تصوير المسألة وكأنها حرب الإسلام على الديانات الأخرى، سواءً في المدن السورية أو أرياف سوريا. لقد انقلب داعش على من دفع به للهجوم على الكورد الذين قال قادتهم بأنهم سيستفتون شعبهم بصدد البقاء ضمن عراق “المالكي” أو “الاستقلال” عنه، وهل هناك سوى أعداء الكورد الذين يقولون علناً بأنهم لن يسمحوا للأمة الكوردية بالاستقلال، رغم أنه حق شرعي ودولي للكورد؟
الآن، يزعم كلا النظامين في بغداد ودمشق ومن وراءهما، سراً وعلانيةً، بأنهما يحاربان داعش، ويطالبان الولايات المتحدة بل العالم كله بالوقوف إلى جانبهما، إلا أنهما يتهربان من الإدلاء برأيهما بصدد المعونة العسكرية للبيشمركه الكوردية بصورةٍ مباشرة، وهذا يفضح حقيقة مواقفهما التي في صميمها مواقف من يسعى لدوام استعماره لكوردستان.
لذا من المجحف اتهام دينٍ ما ككل في المجازر المرتكبة من بعض أتباعه والتي تقشعر لها الأبدان، فهل يمكن القول بأن المسيحية كانت وراء جرائم أدولف هتلر بحق اليهود؟ إذ كيف عاش اليزيديون والدروز والعلويون والإسماعيليون والشبك والصابئة والسريان والآشوريون والكلدانيون واليهود والأقباط وغيرهم في العالم الإسلامي طوال هذه القرون من تاريخ البشرية، وقد يتحدث البعض بجرأة عن اضطهاد الأقليات في ظلال الحكومات الإسلامية المستبدة، وهذا ما لا ينكره أي عاقل، ولكن هل فاق ذلك الاضطهاد ما جرى لشعوب أمريكا الشمالية والجنوبية في ظل الكنيسة، أو ما جرى لليهود في ظل النازية، أو ما جرى للمسلمين أثناء الحروب الصليبية؟ وهناك الكثير الذي يستدعي النظر في الأمور بموضوعية وإخراجها للناس بموضوعية أيضاً…ومع الأسف يفتقدها بعضنا ويحاول البعض الآخر الاصطياد في الماء العكر، في حين أن البعض يبرر إرهاب النظام الأسدي ويسعى للتسويق له بين الشعب الكوردي رغم كل جرائمه ضد الإنسانية.