كردستان تتلاحم على جرحها

د. محمود عباس

مصائب قوم عند قوم فوائد، تحمل الأنانية بأبشع صورها، والانعدام الأخلاقي بأدنى سوياتها، أسألوا شنكال أو استمعوا إلى صدى آهاتها التي تردده وستردده أودية جبالها الأشم حتى الأزل، المنطقة التي على جروحها المثخنة بدأت تجتمع كردستان، وتتفق على كلمة سواء، لإيصال قطرة ماء لطفل إيزيدي يودع البشرية الميتة ضميراً، ومساعدة عائلته الذي على عمق مآسيهم تبرز نبتة خير لكلية كردستان. فهل القادم المأمول كردستانيا تستأهل ما لحق بالكرد الأصلاء! وهل ظهور جزء من كردستان قادمة ستكتم صدى آهات النساء السبايا من أعماق الضياع، أم أن القوم هو نفسه، مصائبهم ومآسيهم واحدة، والكل في الضياع والبحث عن إنقاذ كرامة لا تزال تهدر، ولن يتجاوز الاتفاق على أكثر من خلاص مؤقت، وبناء مخيمات أو تنظيف أودية من أشباه الموتى، والتلاحم لن تتجاوز حواف صخور شنكالهم، لأن البعض لا يرغبونه لغاية، والبعض يهدمونه لجهالة أو خبث بجهالة.
 لا الكلمات والآهات ولا الدموع، تستطيع أن تزيل نقطة من الكرامة التي هدرت، وكم من الكرامات يا كردستان هدرت على مر تاريخك، وتبقى المسيرة مستمرة، والحلم يظل كشاهدة لمقبرة متحركة بعيدة في السراب، يلحقها الكردي حاملا مصائبه وآلامه وكرامة ممزقة حتى العري، وكلما اقترب منها ليلمسها ليجدها وهماً، وتبتعد الشاهدة نحو المستقبل، غارقة في الأبعاد مرفوعة على قبر جديد لكرامة هدرت أو على قبر مفتوح لكرامة ستغتال وستهلك قريبا.

 على أشلاء شنكال تجتمع القيادات الكردستانية، فظهرت البسمة من خلف الدموع المدرارة على وجوه الكرد، وتلاقت فوهات أسلحة كردستانية كانت حتى البارحة الخوف قائما من أن توجه لصدر الكردي الأخر، حتى ولو كانت رمزية وفي مجموعات قليلة، لكنها خلقت إيمان بإن المستحيل غير موجود، وإن هناك أمل من الخلاص من الطغيان الإقليمي. صرخات شنكال كانت أقوى وأعمق تأثيرا من نضال عقود من الأقلام والسياسيين المطالبين بالتجمع على كلمة سواء، فكل طفل وامرأة أنقذت من أحضان الأودية بمساندة البيشمركة وال ي ب ك تعتبر أيقونة الوحدة الكردستانية، مثلما هي صفحة عن آلام الوطن المهدور عفتها، وما قامت به القوات الكردية مشتركة، حتى ولو كان التلاقي على سلام وكلام عابر أو خطة آنية تعتبر ثورة في التاريخ العسكري الكردي، تلاقيهم رغم الإملاءات المبطنة من القوى الإقليمية، بينت على مدى إحساس البعض بالشعور الوطني الكردستاني. ولقاء رئيس إقليم كردستان العراق السيد مسعود برزاني بالقيادات الكردستانية الأخرى والصور التي نشرت عنها، ودون الدخول في التفاصيل والتحليلات وأبعاد اللقاء وما وراء الأروقة السياسية والأجندات الإقليمية، تعد صفحة مجيدة في تاريخ كردستان القادمة، وتكوين جديد للوجدان السياسي الكردستاني الممزق على مدى عقود بسبب الصراعات المدمية والخلافات الأبدية.
ما يؤسف عليه، إن هذه الأبعاد الكردستانية لم تسقط على المريدين من تابعي الأحزاب، ولم تلقنهم العمل على ردم هوة الصراعات، حتى ولو كانت الخلافات الفكرية حاضرة، لكن لم تملى أوامر على الأعضاء الحزبيين والأقلام الملتزمة، والأفواه المتحدثة عن الأمجاد الحزبية دون الوطنية، على ترك الهجمات المبتذلة والتي تصل حد الخيانة وأبعد. وربما هذه هي المرة الأولى في تاريخ كردستان، يكون الواقع السياسي والعسكري عكس السائد فيها، حيث القيادة تلتقي والقوى العسكرية تتلاحم، والجماهير الحزبية تقوم بالنفخ في النار وإشعال لهيب الصراع وتوسيع هوة الخلافات  وبالطرق السهلة المتوفرة في النت، نظرة سريعة على الإعلام الكردي ومواقع التواصل الاجتماعي  تظهر الصورة بكل أطرافها الجميلة والقبيحة، منها تبين لقاء قادة كانوا على خلاف استراتيجي وإيديولوجي، وقوات البيشمركة والعمال الكردستاني أو أل ي ب ك يتلاقون، وفي الطرف الآخر التعليقات وردود أفعال القراء والحزبيين ومريديهم  يقذفون السم وينشرون الحقد والكراهية بين الحراك السياسي الكردستاني، فإلى ماذا تؤشر هذه الظاهرة الغريبة الخطيرة، ظاهرة أن القاعدة  الجماهيرية الحزبية تود الشقاق والصراع وتوسيع الهوة، في الوقت الذي تقوم فيه بعض القادة بردم الخلافات حتى ولو كان ظاهريا!؟ إنها مخلفات ثقافة رسختها السلطات الشمولية عن طريق أدواتها، ولإزالتها يحتاج الكردي إلى المزيد من التركيز على الحس القومي ويتطلب من القيادات الكردستانية، إنكار الذات الأنانية على الأقل تقديرا أمام الفاجعة الكردستانية الإيزيدية، ومحاولة تبديل الثقافة الحزبية إلى ثقافة وطنية، وخاصة في الحاضر المؤلم الجاري، فالألآم تتجاوز مقدرة الاستماع إلى المصالح الحزبية، وحتى التعرف على النزعة القومية، فالمطالب بالاستماع لا يزال ينحر، روحا وكرامة وتنتزع وجوده من مقدساته، فهل من مجيب، بالنقد المنطقي أو بالسكوت على الأقل.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…