تمكن قادة البعث من تغيير الكثير من مفاهيم الحزب، فأدخلوا تغييرات لوجستية في أيديولوجيتها لتتلاءم والظروف الحالية، فهم الأن يضعون في أولوية اهتماماتهم عمليات الربط بين العلمانية والدين، ويدعون على أنها كانت ضمن إيديولوجية الحزب منذ البداية، وأن العروبة والإسلام هما السندان اللذان كانت تبنى عليها ركيزة الحزب، ومن هذا المنطلق تمكنوا التقرب من التيارات الإسلامية المتطرفة، وهذا التكتيك عملية تدريجية متنقلة ما بين التخلي عن التحالف مع الهلال الشيعي أثناء وجود الأمريكيين، إلى التركيز على القوة السنية، رغم النفي المطلق عليه، لأنهم يظهرون البعث على أنه حزب يشمل الوطن العربي وكل القوى الإسلامية الموجودة فيه، والأخبث في طروحاتهم، تخليهم الكلي عن أعمال صدام الإجرامية وتبرأة ذمة الحزب من دكتاتورية صدام حسين، وادعائهم على أنه لم يكن يمثل فكر الحزب عندما كان يقوم بجرائمه، ولا ينسون إدخال بعض الاستثناءات، وهي نفس الخطة التي سيقومون بها في القادم من الزمن، في عملية تكتيكهم مع منظمة داعش، فيما إذا نجحوا في تكوين الدولة الجديدة الممتدة بين سوريا والعراق، حينها من السهل التخلي عن جرائمهم وإدراجها ضمن جرائم ومجازر هذه المنظمة ، ومهاجمتها على إنها منظمة إسلامية تكفيرية، مفاهيمها وأيديولوجيتها تختلف عن مفاهيم وإيديولوجية البعث، وهذه خطة تكتيكية مستقبلية، بإظهار داعش وتقديمها في كل العمليات التي تقوم بها عناصر البعث تحت يافطة ورايات داعش، بدون ظهور أية راية للبعث حتى الأن، وما بدر من عزت الدوري تحت راية المجموعات النقشبندية، خليط بين البعث والمجموعات الإسلامية أو العشائر السنية، وهذه بحد ذاتها مهارة خبيثة في التخطيط والعمل الميداني، ففي الإعلام بدأ يظهر البعث كحزب مدني يعمل في المجال السياسي، ويطالب بالتدخل في العمليات الانتخابية مع الأحزاب العراقية كبعد ديمقراطي، وفي الواقع العسكري يظهر عزت الدوري ممثلا عن الفكر العروبي الإسلامي، وفي المد الحقيقي للسيطرة يقدمون داعش المدعومة بجيش صدام العقائدي ومعظمهم من السنة الذين كانوا تابعين للبعث، ويدعمونها بكميات من أسلحة جيش صدام حسين والتي كانت قد أخفيت من قبل الضباط الذين يخططون ويقودون معظم العمليات العسكرية لداعش، وبمساندة البعثيين، والموالين لهم من العشائر، والتي في كثيره تحتاج لصيانة واسعة، لكنها قابلة لإدخالها إلى المعارك أمام قوى لا تملك الكثير من السلاح، هذه مع الأسلحة الثقيلة والمتطورة التي قدمت لهم من السلطة السورية وحكومة المالكي، وضباط البعث في الواقع الفعلي يديرون معظم العمليات، ومفهوم خلق دولة جديدة في المنطقة ما بين سوريا والعراق، هي من تخطيطهم، فهم منتبهون إلى أن خريطة المنطقة ستتبدل عاجلا أو آجلا.
الخلاف بين سلطة الأسد والبعث السني أو العراقي، لم يظهر، وهي من ضمن خبرة السلطة السورية التي تتمكن من خلق التوازن بين أجندات الهلال الشيعي والبعث العراقي والذي من خلالهم استفاد من التيارات التكفيرية كداعش المرتبط مع البعث العراقي بقوة، بل وعلى الأغلب هم من يديرون قيادتها والمنظمة بشكل كلي، وبقاء سلطة الأسد كحلقة وصل بين البعث العراقي وأئمة ولاية الفقيه، تصطدم بمعارضات من ضمن بعض قادة الشيعة في العراق، وما يظهره المالكي من الصراع مع السنة أو البعث العراقي، هي عملية لا تتعدى تكتيك ساذج، فهو القائد العام للجيش وكان على دراية بأن معظم الضباط الذين كانوا على رأس الفرق المتواجدة في الأنبار هم من السنة والموالون للبعث سابقا، وهو الذي كان على دراية بتجمعهم في تلك المنطقة دون غيرها من المناطق، والجيش هو عراقي بكليته، وما حصل من عمليات التخلي للأسلحة بعد هجمات داعش لم تكن صحيحة، فالعملية كانت مسرحية غير فيها الجيش لباسه العسكري وبقي كما هو مع ظهور مجموعات بعثية من العشائر يتقدمهم مجموعات من التكفيريين المتطرفين تحت راية داعش، ولم تحدث أي مجازر هنا، بل المجازر حدثت في مناطق تكريت وهي في عمقها ثأر من انهيار دكتاتورية البعث السابقة، ولا شك أن المجازر الطائفية والدينية في مناطق العراق وسوريا، مثلما حدث في الموصل وشنكال، تقوم بها مجموعات تكفيرية تؤمن بالجانب المتطرف من الإسلام الذي يتبناه داعش، وهم بهذا يستندون إلى تاريخ الإسلام ونصوصها وتأويلات ذاتية، وهذه ليست المرة الأولى التي تحدث في التاريخ الإسلامي، ولولا وجودها كمفهوم ومدعومة بنصوص لما تمكنت مجموعات متنوعة ومتعددة وعلى مر التاريخ أن يحدثوا مجازر وراء أخرى، ومن بينها 74 فرمان ومجزرة بحق الكرد الإيزيديون ومثلها بحق الديانات الأخرى في العالم الإسلامي. وهم الأن في منظمة داعش في الواقع لا يتعدون عدة آلاف من الخارجيين الذين جاء بهم سلطة بشار الأسد وقلة من الداخل المغرور بهم دينيا، والمجازر في كل بشاعتها يستفيد منها سلطة بشار الأسد أولا وقادة البعث العراقي لمستقبلهم المنشود، ولا ينسى أنه هناك المجموعات الكثيرة والمتعددة المشابهة لداعش والذين يدعون بأنهم يمثلون الثورة السورية، كالنصرة وجيش الإسلام وغيرهم بالعشرات من المنظمات الذين لا يختلفون في كثيره عن داعش أو البعث المتخفي تحت عباءتها.
ليس فقط اجتثاث البعث من الضروريات التي يجب أن تضع على عاتقها الشعوب والثورات الجارية، والتي ترفع شعار أسقاط الأنظمة، بل يجب التركيز على اجتثاث الفكر الظلامي الإسلامي والمتطرفين فيه، بسنيتها وشيعيتها، فالفكر المتطرف إن كان دينيا أو قوميا، يهدم اللحمة الوطنية بين الشعوب ويقتل التآلف والإخوة بين الأديان والمذاهب، ويلغي قبول الفرد للأخر المخالف، وهذا الفكر الظلامي الديني والدنيوي يتبناه اليوم البعث الجديد المنبثق من بين الركام، وهو الحزب الذي له تاريخ حافل بالطغيان والحقد والكراهية ونشر الثقافة العنصرية بين الشعوب.
خمدت القناعة بوجود الثورات في الشرق عند الكثيرين، من وراء الإجرام والدمار، وهو ما قامت بها السلطات الشمولية بتخطيط دقيق خبيث، ومعهم التكفيريين الذين لا يؤمنون بالحضارة إلا من خال مفاهيمهم الظلامية، وأصبحت الدول الكبرى تتلاعب بمقدرات جميع الشعوب، وتوجه مسيرة الثورات، مع ذلك ورغم تلكؤها وتباطؤها لكنها تتجه إلى نجاح، رغم أن الأثمان باهظة جدا. ولم تكن التدخل الخارجي لسبب بقدر تدخل التيارات التكفيرية والتي أدت إلى ظهور أحزاب شمولية إلى الساحة كالبعث، وعليه فمقولة رئيس أمريكا بارك أوباما اليوم بأن العملية التي كلف بها الجيش الأمريكي في العراق ستستمر ربما لشهور، والتي في عمقها ليست لوجه الكرد أو الإيزيديون أو المسيحيون بقدر ما هي حماية لأعضاء سفارتهم في العراق وقنصليتهم في أربيل، محاطة بالقيم الإنسانية أمام البشرية، لئلا تستمر عمليات الجونسايد بحق الأقليات أو الطوائف المذكورة، والتي للبعث العراقي والبعض من عشائر الأنبار والسلطة السورية دور رئيس فيه، يقوم بها مجموعات داعش تحت رايتها الإجرامية السوداء.
تدخل أمريكا في الوقت المتأخر هذا، مصالح، وسكوتها على جرائم بشار الأسد، مصالح، ولتكن، إذا كانت تلك المصالح تأتي بالخير والدعم لاجتثاث البعث والقضاء على الظلاميين، حتى ولو كان قليلا لشعوب ليس لها سند ومحاطة بأحقد وبأبشع الأعداء، دينيا وقوميا، ليس باليد حيلة غير تقديم الشكر على ما يقدمه أمريكا من مساعدة. أيام وشهور، وطائرات المالكي وقبلها طائرات بشار الأسد كانت تقصف داعش وتبين فيما بعد أنهم كانوا يمدون داعش بالسلاح من جهة ويقصفون الصحراء أو بعض المجموعات التي تخرج من طاعة قادة داعش، وإلا فكيف لعمليتين أمريكيتين قلبتا وجه المعارك، وعمليات متواصلة لطائرات المالكي لم توقف سيارة لداعش، وأدت إلى خروج قادة البعث العراقي إلى الإعلام مطالبين بالشراكة في الحكم، مرافقاً لظهور عزت الدوري مهدداً تحت رايتي المجموعات النقشبندية وداعش.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com