أثار انسحاب البشمركة أمام زحف
قطعان دولة العراق والشام من بعض نواحي وأقضية الموصل وكركوك صدمة محلية وعالمية
مدوية، خاصة لما تتمتع به قوات البشمركة من سمعة قوية، عمت أصداؤها أرجاء المعمورة
منذ ما يزيد عن سبعين سنة اكتسبتها من خلال خبرتها الطويلة في مختلف أشكال وصنوف
القتال، زائدا عليها ما تلقته تلك القوات في العقدين الماضيين من التدريب والمران
نتيجة لحالة الازدهار والاستقرار والاستقلال النسبي التي حظي به إقليم كرستان.
أول سؤال يمكن أن يتبادر إلى الذهن للمطالع
في هذا الشأن هو، لماذا تنسحب قوات نظامية مدربة على مستوى عال من التدريب
والتأهيل مفسحة المجال لقوات داعش للتقدم في مناطق واسعة؟، تاركة أهل تلك المناطق
بمختلف انتماءاتهم تحت رحمة قوات داعش ذات الفكر التكفيري المتوحش الإجرامي؟، وهل
دولة العراق والشام أكثر عدة وعديدا أو أقوى شكيمة وبأسا وشجاعة من قوات البشمركة
حتى تتقهقر قوات البشمركة أمامها؟
أمور منها: المناطق التي تم انسحاب البشمركة منها كلها مناطق متنازع عليها
وبالأحرى مناطق كردستانية أعلن البيشمركة عن السيطرة عليها حديثا، إثر السقوط
المدوي لمدينة الموصل في يد قوات داعش وهذا ما يفسر رخاوة القبضة العسكرية على هذه
المناطق رغم أهميتها البالغة لإقليم كردستان، واعتبارها جزءا لايتجزأ منها تاريخيا
وجغرافيا، وهذه المناطق تقع في محافظة صلاح الدين ونينوى وكركوك كالكوير وزمار
والسعدية والحمدانية وسد الموصل وبيجي وسنجار وقرقوش ومخمور وطوزخورماتو، رغم
استعادة البشمركة لسيطرتها على قسم كبير منها بعد سقوطها بيد داعش بفترة وجيزة،
ومع ذلك فقد أثار سقوط سنجار وقرقوش بيد داعش قلقا عميقا وجديا في أوساط الإقليم
وكل المتابعين للحدث في العالم، خاصة بعد نزوح عشرات الآلاف من الأكراد الإزديين
والمسيحيين والتركمان وطوائف أخرى وتقطع السبل بهم في أودية الجبال الوعرة وشعابها
دون طعام أو ماء، هائمين على وجوههم يحثون الخطا هربا من ملاحقة عناصر داعش
الإجرامية التي أعملت السيف والسبي فيمن تبقى منهم من الرجال والنساء والأطفال.
إذاً الانسحاب من هذا المنطلق هو انسحاب من نقطة
أقل تجمعا وتماسكا وتنظيما إلى نقطة أكثر جاهزية واستعدادا وتماسكا، وبالمنظور
العسكري لا يعد الانسحاب هزيمة أو معركة فاصلة، بل مجرد تراجعية اختيارية للمناورة
تبتعد فيها القوات عن مناطق التماس والالتحام دون الوقوع في شرك الكمائن والالتفاف
حوله من قبل العدو، وقد يهدف إلى تجنب معركة بظروف غير متكافئة في قطاع معين يؤدي
إلى كسب الوقت لاحقا، لتعديل الوضع وتدعيم التعبئة واستدعاء الاحتياط، أو استدراج
العدو والانتقال به إلى مكان يحقق التفوق عليه وربما لإطالة خط إمداد العدو، بغية
تشتيت قواه وبعثرته وإضعافه وهذه الطريقة تذكرنا بحرب العصابات التي تتجنب فيها
القوات خوض معارك فاصلة حاسمة مع العدو.
وقد صرح الناطق باسم ديوان إقليم كردستان
الأستاذ كفاح محمود بأن انسحاب البشمركة كان انسحابا تكتيكيا، الهدف منه تجنيب
عشرات الألوف من المدنيين مآسي وويلات الاشتباك، وقد كان الجيش البريطاني يوصف
قديما بأنه الجيش الذي يكسب معاركه بالانسحاب الجيد، ومن المعروف أن الجيش
البريطاني كان من بين الأقل خسارة في حرب العراق وأفغانستان، إلا أنه وفي الوقت
نفسه فإن الجندي البريطاني يوصف في نفس الوقت بأنه حين يهاجم يهاجم بتسعة أضعاف
قوة المدافع وفي هذا المجال لايمكننا إغفال جانب الأدوات والآليات والمعدات
القتالية واللوجستية في الحرب ومدى كفاءتها وقوة نارها ودقتها وتطورها، وكذلك لا
يمكن إغفال غياب عامل الغطاء والإسناد الجوي، الذي يحسم كثيرا من المعارك خاصة
كتلك التي تخاض ضد قوات متحركة مكشوفة من طراز دولة العراق والشام، فهل كان تراجع
وانسحاب قوات البشمركة من نقاط التماس مع داعش، شبيها بتراجع الكبش الذي يتهيأ
للمناطحة فيعود خطوة إلى الوراء ليتقدم خطوتين بعد بعد تجميع قواه.