والصراعات الدامية مشتركين في وحدة حال: ثمة من يهرب لأنه ضعيف الصلة بالمكان، أو
صار ضعيفها، وربما يفتقر إلى الانتماء المكاني لعلة اجتماعية ومعتقدية في نفسه. من
يهرب لأنه قد أثقل على جيبه، فصار أمَّعة جيبه، والمال هنا يسلب المكان اسمه. ثمة
من يهرب مدَّعياً أنه لا يهرب إنما يبحث عن جهة يستطيع الحديث عمن يدّعي تمثيلهم،
وهو هروب مراوغة ومكر. ثمة من يهرب لأنه يجد نفسه مضطراً إلى الهرب، حين يجد نفسه
وحيداً في عراء المكان. الهروب قاسم مشترك بين المذكورين، ولكن التفاوت كبير بين
الواحد والآخر. لنكن واضحين، دون مواربة، ومن خلال مثال عملي: في اليومين
الفائتين، وفي إقليم كردستان بالذات، وكما تردَّد في وسائل الإعلام، إنما الأكثر
ما بقي خارج الصورة المتلفزة، والصوت المباشر، ما كان في الإمكان السير في الطرق
التي تربط ما بين مدن الإقليم وقراها.
قومية، نوروزية لنشهد مثل هذا الاحتفاء الشعبي الكردي الكرنفالي المهيب، إنما هذه
” المورّثة ” الخاصة بالهروب والنشطة في وضعيات حاضنة وراعية لها، وفعل
الهروب في نسبة ملحوظة من الناس، وهم يحملون ما خف وزنه وغلا ثمنه، رغم أن الذي لا
يعوَّض ولا يثمّن هو المكان الذي يغادره/ يفارقه صاحبه دون وجود الحد الأدنى من
المبرّرات.
مناطق، محافظات تنافست فيما بينها وبنسب متفاوتة في عمليات الهروب الجماعي،
وكما شاهدت بأم عيني، وتابعت من خلال اتصالات، وعبر وسائط إعلامية وغيرها”
وحيث أقيم في دهوك “، وقد فرّغت نواح تقريباً من أهليها ” ناحية فايده
” التي تربط ما بين الموصل ودهوك، وكانت رؤية سيارات تتزاحم على مداخل المدن
أو مخارجها بحثاً عن الأماكن الأكثر أماناً لبعض الوقت في سياق سباق مع الزمن ومع
أخطار جرى تركيبها في أذهان من هربوا في المجمل، كما لو أن فيلم ” القيامة
الآن ” على الأبواب .
هذا ما انطبق في عدوى الهروب على مخيمات اللاجئين الكرد في
” دوميز ” دهوك، وغيرها، بزعم أن ” داعش ” قادمة. بلبلة في
الإقليم : هذا ليس مانشست صحفي، إعلامي، تجاري، إنما واقعة عاشها كثيرون من أهل
المكان واللاجئون فيه من الكرد وغيرهم، جرّاء هذا التناثر والتشظي في الجهات
المعتبَرة : الأكثر أماناً .
ولكنه بلغ الذروة في اليوم التالي: الخميس، رغم المحاولات الحثيثة من الجهات
المعنية أن لا شيء يدعو إلى كل هذه البلبلة، إنما دون جدوى، جرّاء ” سيول
” الهاربين التي تدفقت خارج المدن الكبرى ويممت صوب قرى وأقضية صوّرت أكثر تأميناً
لأمان معين .
من ذلك، ومن خلال تجوال شخصي، ومعاينة شخصية وفي مدينة ” دهوك ” كان
ثمة ازدحام منذ يومين، وتدافع الهاربون إلى أماكن، جهات أبعد، حتى خارج الإقليم،
أمام مكاتب السفر السياحية، أو بطاقات السفر: إلى تركيا خصوصاً، وبأرقام خيالية في
تأمين عملية ” الهروب “، وتزايد الطلب على الدولار الذي سجَّل ارتفاعاً
في قيمته جرّاء الطلب الهائل عليه، لتنخفض بالمقابل قيمة الدينار العراقي .
كان ثمة من يتنشطون في الاتجاه المعاكس: والمطلوب والرائع:
إلى أين تهربون ؟ لا شيء يدعو لكل هذه البلبلة ، وأمضينا ليلتنا الدهوكية حتى
الهزيع الأخير من الليل، وليل دهوك يؤانسنا مع جيران دهوكي، كرد، وسماء دهوك كانت
تنبئنا بسطوع أنجمها .
ثمة من تحدث ويتحدث عن طابور خامس ومن يأتمر
بإمرته بدواعي شتى، رغم أن الأخبار القادمة من ” الجبهات ” وليس الجبهة
الواحدة، كانت تدعو إلى التفاؤل.
السهل رؤية نِسَب من الهاربين من الأطراف وقد احتلت الحدائق، وافترشت ظلال
الشجر، وبجوار الماء، لأنها فشلت في تأمين ما كانت تبحث عنه . إنما أيضاً، كان
هناك من رتّب لذلك منذ دخول داعش، أو إدخالها إلى الموصل “حيث الإقليم الكردستاني يسيل له لعاب من
أعدوا له عدتهم منذ عقود، كما هو شأن أسلافهم منذ آلاف السنين، وأعني هنا
الجغرافيا الكردية كاملة “، إذ حددوا إحداثية ” الهبوط في نقاط مؤمَّن عليها أكثر،
مدفوعين بغريزة ” الشم عن بعد ”
وقبل سماع أي لغط، كما لو أن كل شيء جرى
أو يتم في منحاه الطبيعي، حتى في السفر السهل جداً إلى أوربا لأن ثمة نسبة لافتة
من الكرد يحملون أكثر من جنسية، إلى جانب تحويل رؤوس أموالهم إلى جهات بنكية،
مصرفية، أو خارجاً.
كان ثمة من يشدد على أن ثمة ” ملعوباً ” وتتم
طمأنة مترددين، إلى جانب سماع أو رؤية من يلحون على البقاء مهما كانت النتائج، إذ
لا يمكن مفارقة المكان وتركه للجائحة الإرهابية : داعش ومن وراء داعش، ومن يتقدم
داعش، ومن يصفق ويهلل لداعش بطرق شتى .
متفاقم بالأسى
والسخط إزاء الجاري وبهذه السهولة، إنما تتطلب العملية المزيد من البحث والدراسة،
وليس الدخول في إطلاق حكم أخلاقي، أو اختزال الظاهرة وليس الحالة: ماالذي يعزّز
فعل الهروب، وليس كيف ؟ وفي إيجاد المبرّرات ما أيسر سماع من يعدُّ من الواحد إلى
ما بعد العشرة، مشرعناً لهروبه: من المبرّر السياسي، والعقيدي، والاجتماعي،
والاقتصادي والأمني…الخ، وهذا وجه آخر من وجوه ” اللعبة ” في المتن.
لا أخفي أنني التقيت بالعديد ممن هجروا من ”
روجآفا ” وأنا منهم، وهم يشعرون بالغضب والسخط والخجل مما يجري، وتحديداً،
لأن رؤيتهم لفعل الهروب، نبهت قسماً كبيراً منهم، إلى أن وراء هذه العملية واقعة
وشيكة الحدوث، لأن هاربي المكان لديهم خبرة بالمكان هذا: مدناً وأقضية وقرى
وقصبات…الخ، وهنا لا أبرّر لكل من ” ترك ” موطنه، بيته، وأصبح لاجئاً،
إنما أثبت صنافة، كما ذكرت لصور الهروب أو عملية اللجوء بالذات، وإضاءة الموضوع
تتطلب متابعة أخرى .
للمعنيين بالعملية، حيث إن الحديث المسموع ومنذ زمان طويل عن أن الأرض هي شرف
الإنسان وعنوان كرامته، وأن بيته هو سجل عِرضه، لا يأتي بتلك النتيجة التي تتضمنها
المقدمة، لنعترف بمرارة الحقيقة هذه: لأن الموضوع أبعد أفقاً، وأعمق غوراً من هذا
” التتبيل ” العاطفي والمجيش للمشاعر.
ووطني، وليس كل من يتردد بينهما، يسمى بالقِلق عما يجري، وليس كل متشدد على الهروب
وبتعميم، يسمى الحريص على المكان: الوطن، وليس كل لائذ بالصمت، بناشد الأمان ولو
بينه وبين نفسه، وليس للهروب محل من الإعراب في قاموسه اليومي. إنما الممكن قوله،
ربما في جواز مخاطبة المصابين بإسهال عملية الهروب، وليس من داع، وقد سمكت جلودهم،
ونعمت أطرافهم، وأصبح الاتصال بالمال التعبير الأوحد عما هم عليه، وعما يمكن أن
يقال فيهم، ولن يطمئنهم مالهم.
أجدني هنا
مستدعياً إلى الذاكرة القريبة، قصة للكاتب الكردي ” نيروز مالك “،
ملخصها التالي: أغار العدو على مدينة، فخرج من خرج، وكان من بين الخارجين أحد المعنيين بأمن البلد
وحمايته، تاركاً وراءه بيته وعائلته، وبعد عدة أيام، تسلل تحت جنح الظلام، وتمكن
من الوصول إلى بيته، حيث لم تبرحه زوجته، فنام، وفي الصباح الباكر استعد للخروج
قبل أن يراه العدو، فتنبهت له زوجته، ومن ثم استوقفته بالقول: لقد نسيت أن تدفع
النقود ؟ ..!