البعض يتعرضون إلى القضية من تحت غطاء الوطن، والإخوة، والمساواة في القادم من الزمن، وفي النهاية يضعون الخيانة لمن يخالف طروحاتهم، وتبقى في أذهانهم ودساتيرهم الجمهوريات العربية أو الفارسية أو التركية خطوط حمراء لا يسمح بلمسها، وكأن هذا التشويه في ثقافاتهم مخلفات وراثية لا قدرة التخلص منها، ولا يبحثون في غيرها، مرة تحت عباءة الثقافة الإسلامية والوطنية مرات، وفي النهاية يتداركون الانتقادات بخبث ومهارة.
لا شك كردستان الحلم لا تزال بعيدة، وما يبحث فيه جزء أقل من ربع الحلم بكثير، لكن الخوف ينتابهم من أن تكون بداية لتكوين كلي، والفكرة هي التي تقلق مضاجع الطغاة والعنصريين، علما أن جغرافية الشرق الأوسط تبحث من جوانبها المتعددة وتعرض على التغيير، من قبل معظم مكونات المنطقة وتدرس في الأروقة السياسية الداخلية والخارجية وبشراهة، لكن الجرأة تنقصهم، للإعلان عنها، لا شك في بعضه لا تزال التحضيرات الكلية غير مكتملة، والبعض من قادة الدول المحاطة أو المستعمرة لكردستان ينبهون إلى أن تشويها للأوطان تجرى له، بدون تحليل لمنطق التشويه التي بنيت عليها الجغرافية الحاضرة.
أمواج الانتقادات تنهمر على الكرد من الأخرين، ومثلها التنبيهات والنصائح المبطنة، إلى جانب التهديدات المتتالية، لكن على الكرد أن ينتبهوا إلى أن الفرصة تأتي مرة كل مائة سنة أو أكثر، وهؤلاء يمهدون لتمريرها على الكرد، فعليهم أن يعتمدوا على نباهتهم ويستخدموا كل مداركهم على مراجعة التاريخ الماضي ومقارنته بالحاضر الجاري وأخذ العبرة، فأي استرداد لجزء من كردستان الكل مكسب، ولا يوجد في المنطقة أفضل من الشعب الكردي حفاظاً على الإخوة وتطبيق المساواة والعدالة بحق الأقليات والطوائف الأخرى المتواجدة على أرض كردستان، فهم الذين ذاقوا الويلات من هذه الثقافة وهم أدرك من غيرهم ببشائعها ونتائجها المهلكة للإنسان، لهذا فالكردي سيكون بحكم التجربة التاريخية أفضل الشعوب في المنطقة عدالة واحتراما للأخر وحقوقهم.
الاستقلال بين قاب قوسين وأدنى، وهو حق إلهي وإنساني مشروع، والإعلان عنه لا يخسر فيه الكردي شيئاً، وهو الذي لم يملك إلا الإبادات بحقه والعبودية على مدى قرون، فالشعب يطمح إلى الحرية والاستقلال، والمنطقة في جنوبه محررة بعد أن ماطل فيها قادة العراق العربي سنوات واتجهوا في السنوات الأخيرة على اتباع منهج البعث ومنطق صدام في الطغي وإلغاء الكرد من الوطن. أما إذا كانت الغاية محصورة في إقليم جنوب كردستان كبناء كيان ذاتي محاط بسياج فكري ينظر إلى إقامة تكوين اقتصادي سياسي مثالها دول الخليج! ولا تهدف إلى كردستان الكل، فسيكون خطأ استراتيجي مهلك للذات ولضياع كردستان الحلم إلى عقود قادمة أخرى، وسيؤدي في المستقبل لانهيار بطيء للإقليم ذاته ولكردستان الكل جغرافيا وثقافيا وسياسيا.
إنها المصلحة، والكل يبحث عن مصالحه، حتى ولو أدرجها البعض في سويات متنوعة وبأغطية مزركشة، لكنها هنا في القضية الكردستانية غير مبنية على الأنانية أو الحقد تجاه القوميات الأخرى، بل تحقيق لحرية شعب عانى ويعاني أكثر من كل من عانوا تحت نير السلطات الشمولية والدكتاتوريات، والكل يدرك أن الكرد شاركوا في الثورات والمعارضات الوطنية بكل إمكانياتهم ، بل في العراق كانت كردستان موطن المعارضة العراقية على مدى عقود، ونفسهم الذين أكلوا من خبزهم وعاشوا في كهوفهم وفي حمايتهم، اليوم يظهرون العداوة تجاههم ويعارضون مطالبهم بالحرية واستقلال كردستان قبل غيرهم، كما وأن الجميع يعلم أن السنة العربية تطمح إلى دولة سنية قبل الكرد ومثلهم الشيعة العربية والعلوية العربية، وعلى الأغلب في القادم من الزمن سيكون شيعة العرب العراقيون أول من سيطالبون بخوزستان وسيحاربون شيعة الفرس عليها، وسيحرفون تاريخها الماضي لصالحهم. وهنا يطرح السؤال ذاته أي الشعوب والطوائف أحق بالإعلان عن استقلال دولها، عرب الجمهورية السنية العربية أم عرب الجمهورية الشيعية العربية أم كرد كردستان؟!
ومن المؤسف، أنه لا تزال الحيرة والشكوك تنتاب الكرد، في لحظة عرض القضية على بساط البحث، يتناولون مواقف الدول الكبرى، ويتحذرون من الجوار، الأعداء منهم والأصدقاء، علما لا نرى صديقا حقيقيا، والصديق إن كان موجودا فهو صامت في المواقف الحاسمة، والتردد ينتاب قادة الكرد، تحت حجة عدم ورود اللحظة المناسبة، أو أن الأجواء السياسية والدبلوماسية غير مهيأة بعد، وكل هذا منبعه الثقافة التي فرضت على الكردي على مدى قرون، ثقافة الاستجداء والتسول على أبواب دوائر الدكتاتور أو السلطات الشمولية. متناسين أن الثورات الجارية في الشرق خلقت أجواء منطق فرض الذات، وقضت على ثقافة الطلب بالذل، فعلى الكرد أن يعلموا الصديق قبل العدو من الشعوب الذي نشاركهم الأوطان بسرائه وضرائه، أن الاستقلال رغبة من الشعب في إدارة ذاته، ومشاركة الإخوة في المصالح والمعادلات الإنسانية تأتي بعد أن تتساوى الحريات والقيم، فالشعوب الحرة فكراً وإرادة لا يقف عائقا أما حرية الأخر.
ظروف فرض منطق الأمر الواقع متكاملة في الإقليم الفيدرالي العراقي، لتشكيل جنوب كردستان، والأجواء الإقليمية والدولية إن لم تكن مهيأة، فالزمن كفيل بتهيئتها، تشبه المسيرة التي فرضت في بدايتها جغرافية عشوائية على المنطقة منذ العشرينات من القرن الماضي وأصبحت اليوم واقع يتخوف الكل من تغييره. فالانتهازيون يدافعون عنها تحت عباءة الوطن، ويهددون الكرد باستخدام كل الطرق ضدهم وضربهم للحد من تحقيق حلمهم، والسلطات الشمولية تستخدم نفس المنطق، والتيارات الإسلامية العروبية تستخدم عباءة العالم الإسلامي، والجميع لا ينسون مصالحهم كشعوب فوق الكل.
استقلال كردستان حتمية يجب أن يعلن عنها وتحدد جغرافيتها. المخاطر عديدة وشائكة، لكن الخطوة الأولى أصعبها والدروب وعرة والعوائق ستظهر من كل الأطراف، لكن اصعبها تلك التي سيواجهها من الكردي نفسه، والتاريخ يثبت على ذلك في كل المحاولات التي جرت لإقامة كيان كردي. هذا القادم سيخلق أجواء مغايرة لأقسام كردستان الأخرى ومعاملة مختلفة من الدول التي تستعمرها، أبواب غريبة ستفتح ولا يهم إن كانت مداخل لأهوال وصراعات من نوع آخر أو لمستقبل أكثر غموضا من الجاري، لكن المؤكد أن تعامل الدول الكبرى والدول المجاورة والمحتلة ستنتهج طرق أكثر إنسانية وستتعامل مع الكردي باحترام ومساواة، وستضع قضية استقلال كردستان الكل على طاولة التعامل السوي في المحافل الدولية، والقادم من الزمن كفيل بفرض هذه التوقعات وإثباتها.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com