هل ستنتهي مهمات فقاعة داعش (الجزء الأول)

د. محمود عباس

ظهرت تيارات راديكالية متطرفة متعددة في التاريخ الإسلامي تؤمن بالعنف كنهج مطلق، استندوا إلى مذاهب شرهة في تأويل النص الإلهي حسب رغباتها، والتفسيرات المشوهة لمضمون القرآن وإسنادها بأحاديث غير مسنودة، سهلت لخبثاء السياسة من استخدامهم وتأجيرهم لأجنداتها، فتلاعبوا بهم إلى حد ترسيخ ثقافة العنف الإنساني الموبوءة تحت غطاء الثقافة الإسلامية الإلهية، ونافقوا عليهم بكل جرأة، مستندون إلى طرف وحيد في جدلية الأديان، والمفاهيم الخاطئة في الإسلام، وفي حاضر جغرافيتنا ظهر أو صنع عدد من هذه المجموعات، وهي بينة للجميع وتكاد تكون مصادرهم وأسيادهم معروفة، إلى درجة أن أكثرهم تطرفا (القاعدة) كانت تتبع جهات غير إسلامية، وهي النواة لظهور تيارات أخرى أكثر عنفا وإجراما بحق الإسلام الإلهي والإنسانية عامة،
 فتجاربها الأولى مع العالم بينت لحكومات كالسلطة السورية وأئمة ولاية الفقيه مدى الفائدة المجنية من استخدام هذه التيارات العنفية والمجرمة تحت  مفهوم الجهاد لإنجاح خططها، فخلقوا منهم مجموعات، منها دولة العراق الإسلامية، يوم كانت تستخدم في العراق، وأضيفت إليها اسم الشام لتسمى مختصراً بـ(داعش) في مرحلة الإتيان بها إلى سوريا، ولتصبح المنظمة الأكثر بشاعة في المنطقة بالشر والإجرام ونشر الفساد فخرجت كأكثر التيارات الإسلامية الراديكالية عنفاً. وللعلم أدخلت داعش إلى سوريا بعد أن ظهر صراع بينها وبين النصرة على الإمارة في المنطقة من جهة، وانزياح النصرة إلى أجندات مغايرة، وهي المنظمة التي تكونت بأوامر من نفس القيادة، وشكلت النصرة في البداية لتكون الفرع الأخر لداعش في سوريا، فلا علاقة لهما بالثورة السورية وشعبها.

   تأييد إخوان المسلمين عن طريق المجلس الوطني السوري في هذه الفترة لداعش،  وهي من التيارات التكفيرية الأكثر تطرفا وشروراً، يعتبر خطأً تاريخيا وربما خيانة للثورة السورية، لا تقل عن بشاعة تأييد رئيس الائتلاف يوما بالنصرة يوم درجت  في قائمة الإرهاب، كما وتبين عقم مفاهيمهم ورؤيتهم للمستقبل، وتفضح إنتهازيتهم وغاياتهم الدونية، خاصة  تزامنه مع ضرب بشار الأسد لبعض تحركات تلك المجموعات، فداعش معروفة بأنها المنظمة الأكثر إجراما من بين التيارات الإسلامية المتطرفة، وهي حاضنة لخريجي سجون النظام، والبعثيين، تحمل شعار الجهاد من أجل الإمارة الإسلامية الملغية للقومية والوطن، والمنادية بالسبي ونظام الموالي وتطبيق العنف بفتاوى تعتمد على تأويلات الجهلاء من الناس. إنها منظمة لا تزال تستخدمها السلطتين السورية والإيرانية لتمرير أجنداتها، وهم بهذا التصريح يودون احتضان مجموعات مرتزقة مجرمة تكاد تنتهي مهمتهم عند السلطة السورية، وستتخلى عنهم يوما ما، خاصة بعد أن صنعوا لإحداث أبشع أنواع الفوضى العنفية في سوريا والعراق، إلى جانب خلقهم كل عوامل التنافر والصراعات بين الطوائف والقوميات المتواجدة في جغرافية الدولتين.
   إنها منظمة، غارقة في أجواء الثقافة الراديكالية الدينية، المهيمن عليه العنف والشر، والضامرة فيها عتبات الخير والسلام، تتشرب من الثقافة التي خلقت البيئة الملائمة لنمو الطغاة والانتهازيين والمنافقين وأصحاب الجرائم في شرقنا، الثقافة التي في أجوائها انبثقت دكتاتورية الأسدين واستمدت حلم ديمومتها، والتي من ضمنها ظهرت التيارات الإسلامية التكفيرية، مثل القاعدة وتوابعها.
  لا شك تتنافى مفاهيم الثورة السورية وغيرها من الثورات المنبثقة في الشرق مع الثقافة الدينية السادية بالعنف، وهي البيئة الجاهزة والملائمة لسلطة الأسد لتجهيز التيارات الإسلامية المتطرفة التي صنعت سابقا لأرض العراق وتسليطها على الثورة الشبابية السلمية، ودفعها فيما بعد لتتكالب على السلطة الدنيوية تحت حجة الدفاع عن الإله في الأرض، وإظهارها على أنها المدافعة عن الثورة السورية، والطرفين اعتمدا على ثقافة العنف، فاستخدموا الشر بكل بشائعه، لمصالح ذاتية طائفية لا علاقة للإسلام الإلهي بها. تقبلها البعض كالتيارات المتطرفة مثل داعش عن جهالة ذاتية، وخطط لها بدراية القوى التي سخرتهم لأجنداتها مثلما فعلها النظامين السوري والإيراني، فشوهوا بأفعالهم الرسالة الروحية والفكرية الإلهية على الأرض، أما البشرية فافسدوها قدر ما تمكنوا منه، باستخدامهم الإسلام بعنفه، وتهميشهم أو إدراجهم الروحانية في فترة ما بعد الموت، وشوهوا سمعة الثورة السورية وأبعدوا العالم الديمقراطي عنها.
   لم تلتقي يوما هذه الأطراف، المتناقضة عقيدة والمتشابهة نهجاً وشراً، إلا على تغيير أو تدمير الثورة، ساندت بعضها في سوريا والعراق إعلاميا، وعملت على تمتين البنية الثقافية الملائمة لبقائهم بالعنف، والجهتان سلكا درباً واحداً بتهميشهم للروح السلمية في الثقافة الإسلامية الإلهية، شبه المقضية عليها منذ عصور، فكانت أفعالهم مساهمة غير مباشرة لجوانب الثقافة السادية على طمس المعالم السلمية في الثورة، وبها أثاروا حفيظة شعوب المنطقة، الراغبة على إحداث تغيير في كلية النظام الدكتاتوري. فمن المعروف والمبان من مسيرة ثورات الشرق إنها ظهرت لتغيير ثقافة العنف، لكن قوى الشر أبت الاستغناء عن ثقافة الحروب، كالسلطات الشمولية التي استخدمت كل أنواع الخبث والدراية للقضاء عليها، والبعض من المعارضة الإسلامية الليبرالية بردود أفعال خاطئة، والراديكالية منها لإيمانهم بالإسلام العنفي المتلائم وثقافة الأنظمة الدكتاتورية، والطرفين الإسلاميين دعما بشكل أو آخر تكتيك سلطة بشار الأسد.
أدركت السلطة السورية المعادلة بشكل واضح، فكانت أوسع خبثا وتحايلا وتلاعباً بالثورات السلمية من السلطات الأخرى التي اجتاحتها الثورات. خلقت مع بداية الثورة اغلب التيارات الراديكالية الإسلامية المتواجدة اليوم على أرض الوطن وغذتها بالمجرمين والخارجين عن القانون الذين كانوا يقبعون في سجونها وسجون الدول التي تساندها، ودفعتهم لاستخدام العنف ضد جرائمها المنظمة أثناء المسيرات السلمية التي استمرت بحدود ستة أشهر، فشوهت بهم سمعة القوى الثورية المسلحة التي اضطرت للدفاع عن الشعب الأمن، لأن سلطة بشار الأسد توقع تقويض أركانها بسلمية المسيرات، فانتبهت إلى مصيرها وكثف كل جهودها لخلق المواجهات المسلحة. عمليا حاربت ذاتها في السنة الأولى من الثورة، مدركة أن المواجهة الدموية تؤمن حلم ديمومتها، لذلك فأن معظم الذين واجهوها بالعنف في البدايات كانوا منها وإليها، يستثنى تلك المجموعات التي ظهرت لرد المعاناة والعنف وإجرام النظام، والدفاع عن ذاتهم وعن الثورة. وعندما ضعفت السلطة أمام هذه المجموعات المسلحة النقية والمسيرات الشبابية السلمية جلبت فرع داعش الأول (النصرة) قبل حصول الصراع بينهم وبين قيادة داعش أو بالأحرى بينها وبين القوى المسيرة لهم، وعلى متن اختلاف الأجندات بينهما وتطور الأحداث الميدانية بعكس ما توقعته سلطة بشار الأسد، جلبت داعش إلى داخل سوريا لتأدية مهمات أبشع في الواقعين الروحي والعملي، واجهت وحاربت السلطة إعلاميا كمنظمة غارقة في الإرهاب لتشويه الثورة بإسنادها، وفي الواقع العملي ميدانيا حاربت الجيش الحر بكل ما تمكنت منه لتقويض المعارضة الداخلية، وحاربت النصرة على بنية الخلافات التنظيمية وعلى الإمارة، وتمكنت داعش من خلق اقذر الفتن في المناطق السورية التي بلغتها وعلى اطراف المنطقة الكردية، وحاولت على إحداث شرخ بين الكرد والعرب.
   وأسلوبها كتيار غارق في الإجرام والتي لا تعترف إلا بالإسلام العنفي، بادت معروفة من خلال أفعالها التي تتجاوز قدراتها العسكرية الحقيقية، والتي تعتبر خدمات مباشرة وغير مباشرة للسلطة السورية وإيران رغم تبنيها دعم المذهب السني بالشكل العلني، مثلما انحازت النصرة إلى ذلك الطرف المذهبي في الصراع الجاري بينهما، وأعمالها اللاإنسانية توضح ظاهرتين ماهيتها:
  الأولى، أنها تتكون من مجموعة من الأشرار المتمرسون في عمليات القتل والذين لا علاقة لهم بالإسلام أو الروحانية الإلهية أو أن خلفياتهم الثقافية عن الإسلام الإلهي معدومة أو ضحلة، والخارجيون هم مجموعات من المجرمين المدربين على الإجرام أرسلوا عن طريق دول تدعم بشار الأسد، لنشر الفساد بكل أبعاده.
 والثانية، أنها ليست بتلك القوة التي تمكنها من السيطرة على منطقة الأنبار وتحتل ثاني أكبر مدن العراق، والرقة في سوريا، وتصل أطراف بغداد، بل هناك القوى السنية التي تدعي الاسم شكلا، ويتوقعون بأنهم أخرجوها من حضانة أئمة ولاية الفقيه، فيستخدمون الاسم والصورة للترهيب. والمعروف أن مجموعات الأنبار الأولى كهيئة قيادية، والجسم الحقيقي بعشائرها، هم من قوى السنة المطالبة بكيان شبه مستقل، وبينهم البعثيون السنة العراقيون والسوريون، تدعمهم دول سنية المذهب، والانتفاضة السنية تظهر اسم داعش كمنظمة جهادية سنية لترهيب الأخرين، ولتضخيم حجمها، وعلى الأغلب كمنظمة بذاتها فقاعة أكبر بكثير من حجمها الطبيعي، فإعلام الدول التي تساندها هي التي تقف وراء هذا التضخيم مثلما هي وراء كل أنواع الدعم، وهي التي تخطط لها بالقيام بعمليات الإجرام التي خرجت عن التصور الإنساني، وهي في الواقع ليست وراء بناء الكيان السني مقابل ما تقوم به الهلال الشيعي العلوي في سوريا والعراق ولبنان، بل كلفت بنقل تجربة السلطة السورية إلى العراق، إنه من اخبث التكتيكات التي يمكن أن تخطر على الفكر الإنساني، تقوم به السلطتين السورية والإيرانية. فلا يمكن لفرد يملك جزء من إيمان الإسلام الإلهي أن يقوم بمثل هذا الإجرام، وهذا التدمير المخطط للإسلام الإلهي، وتحريف الرسالة، وتدمير الرموز الثقافية التاريخية مثلما فعلوه في الموصل، ومراقد أئمة لهم اعتبار في تاريخ الثقافة الإسلامية، لا شك أن الطرفان تجاوزا حدود ثقافة الإسلام العنفي ذاته.
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…