إبرهيم اليوسف
“إذا أراد الله هلاك النملة جنحها”
ما يدور منذ نحو سنة، تقريباً، في المنطقة، باسم تنظيم “داعش”، إنما هو نتاج مشيئة قوى إقليمية ودولية باتت تتحرك، عمودياً وأفقياً، لتجعل من هذه الخلايا الإرهابية عبارة عن وكالة عامة لها، تحقق مخططات متعددة الأوجه ومتناقضة. فالغاية الرئيسة من وراء هذا التنظيم كانت نتاج إرادة الغرب، أوروبا وأميركا، في آن واحد، مع إرادة من يريدون استمرار نظام الأسد، الذي انطلق في مواجهاته للثورة السورية تحت لافتة وجود مجموعات تكفيرية، تعمل باسم الثورة، وقد تم تحقيق ذلك إلى حد بعيد.
لا يزال تنظيم “داعش” في طوره البدائي، يعمل وفق ميكانيزمات عديدة، متناقضة. فالمرتزق الذي يقع فريسة هذا التنظيم يتم تسليحه بفكر ظلامي تجهيلي، يؤهله لارتكاب كل ما هو فظيع من الأعمال الإجرامية التي تسجل تجاوزاتها في سلم الإرهاب. هذا السلوك تحديداً، موظف لأغراض عديدة، في مطلعها إحداث حالة رعب تعكس شللا وبلبلة حقيقيين في المنطقة. على أن هؤلاء الوحوش الآدمية الضارية لا غالب لهم، بعد أن يتم دعمهم بأهم الحاجات التي تستلزمهم، الواقعي منها، والافتراضي. فالغرب وجد في التنظيم مصيدة للإرهاب، بالإضافة إلى تشويه كل ما هو إيجابي في المنطقة، عبر نسف أهم الوشائج التي تربط شعوب هذا الفضاء، بعضها بالبعض الآخر. فمرحلة الحرب الباردة التي استغرقت طويلاً، وتمت محاولة كسرها بتشويه ثورات المنطقة، وإقحام ثقافة غريبة عليها، تبدو نتائجها الآن، على أوسع نطاق، من خلال الاشتغال على ما يفرق أبناء المنطقة، وعلى نسف كل آصرة تجمعهم. ضرب الكل بالكل كما يقال، أو سياسة خلط الأوراق، هي الوصفة الأخيرة التي اعتمدها النظام السوري. ويبدو أن سقوط تنظيم “داعش” في فخ وهم إقامة دولة ضمن حدود معينة، جعله مرتعاً لتدخلات متناقضة، حيث نجد أن أطرافاً متناقضين باتوا “يدخلون على الخط”، ليظهر التنظيم مقدرة على تنفيذ الأدوار المتناقضة، والتعامل مع الجهات المتناقضة، لافتقاده حتى لمنظومة ضمير المجرم. فمن ينادي باسم دين ما، ويقتل، بل يمثّل وينكل بمن يتحلى بصفات هذا الدين، إنما يؤكد وحشيته، ولامبدئيته.
أجراس “داعش” والزمن الفاحش
الكرد مطالبون الآن بتجاوز كل ما يحول بينهم، ولا بد أن ينسوا كل ما بينهم من خلافات، وأن يتعالى كل من لديه أجنداته الحزبية الضيقة على أحلامه المتناقضة مع ما هو قومي ووطني. دخول “داعش” بهذا الشكل المفاجئ، رسالة إلى الكردي، في تيهه، لتقرعه، وتدله على طريق الصواب، لأنه وأخوته وشركاءه في المكان، ركاب سفينة واحدة. كل ذي عقل وبصيرة، يرفض الدعشنة، وسلوكياتها، وإرهابها. المطلوب، الآن، ألا يستثمر كرديٌّ ما، هذه المحطة، ليواصل المزيد من اغترابه عن شعبه في سبيل أناه الحزبية. تنظيم “داعش” خيمة التقت تحتها مجموعات من المهابيل المتعطشين للدم والقتل والمال وسوى ذلك، ومصيرهم محتوم. من هنا، فإن على الكرد العمل من الآن، لمرحلة ما بعد “داعش”. فهل نحن في مستوى فهم هذه الرسالة؟ أرجو أن نكون قد استفدنا كثيرا مما تم. على حزب ب ي د مراجعة نفسه، وأول ما عليه القيام به إطلاق الأسرى الذين لا يزالون في سجونه، والكف عن سياساته التغريبية عن روح شعبه، ومن بينها منع بعض الناشطين من دخول وطنهم، بل والاعتذار عن الانتهاكات التي قام بها، لأن البندقية الكردية بطرفيها باتت تتحرك في الاتجاه الصحيح، لرفع الشر المحدق، ومواجهته، وهذا ما كان منتظراً منها، طويلاً.
وصول إرهابيي تنظيم “داعش” إلى مدينة الموصل، واحتلال محافظة نينوى، أقرب إلى اللعبة الساذجة، من المسرحية المعدة بإخراج مقبول، رغم أنها لم تتم بشكل عفوي. فوراء الأكمة ما وراءها، ويمكن الحديث أن ما تم لن يكون البتة في معزل عن تواطؤ بؤرة النظام في بغداد، الذي بات يتجاوز بسلوكياته مرحلة استبداد صدام حسين وسياساته الفاشلة. وهو، وأياً كانت نتائجه الأولى، ليس في صالح المالكي، وزمرته، لأن المواطن العراقي، أينما كانت جغرافيته المكانية، أو السياسية، وصل إلى الاقتناع الكامل بـ”هشاشة” هذا النظام، ولا صلاحيته حتى لإدارة زريبة، لأن المساومة على القرار الوطني، من أجل أجندات إقليمية، مهيمنة، تؤكد ضحالة عقل الآمر وعقل المأمور، وهو تجاوز بذلك بلاهة تفكير الأداة المشابهة له، في الطرف الآخر، أي الأسد الذي يحفر منذ ثلاثة أعوام ونيف تحت كرسيه.
داعمو “داعش”، وهم من مختلف الهويات، عارفون في قراراتهم أن لا مكان لهذه الحثالة الوبائية في المنطقة عموماً، سواء أكان في سوريا، أم العراق. مجرد استمرارها أربعا وعشرين ساعة في الرقة، أو الموصل، أو دير الزور، يعني أن هناك تواطؤاً برؤوس كثيرة، ينتمي إليه جناحا الحكمين الآيلين إلى السقوط في دمشق وبغداد، وإن كانا قد سقطا كلاهما قبل الآن. بل يدل على ما هو أبعد من ذلك، وهو سقوط السياسات التي ينضمان إلى فضائهما. فمنطقتنا الآن، على بوابة مرحلة جديدة، تستكمل فيها شروط ربيعها الذي حورب إقليمياً، ودولياً، وعربياً، ومحلياً. لنعترف، أن من رمى بهذه القذارات في هذا الجزء الكردستاني أو ذاك، لديه أجنداته التي يريد أن يكمل رسالة من سبقوه ممن راموا إطفاء السؤال الكردي، ومحو وجود الكردي، وهو نتاج فكر يعبّر “داعش” عنه تماماً، مهما تستر باللبوس الديني أو القومي أو العلماني. بيد أن هؤلاء جميعاً يتجاهلون حقيقة روح الشعب الكردي الذي يستطيع أن يتغلب على هذا التحدي، العابر، وإن كان العالم كله مدعواً الآن لتطهير المنطقة، من هذا السلوك الكارثي الزنيم الذي لن يكتب له العيش، وها هو يجر أذياله، مندحراً، بعد أن تم سقوطه، واندحاره، في معاقله. ثمة رسالة إلى الأطراف الكرد، كلهم، لتجاوز خلافاتهم، لا سيما أن ثقافة الدعشنة الهجينة تسري في عروق جماعات تكفيرية، ونصف تكفيرية، وقومجية، وحتى شبه معتدلة، قد تكشر عن أنيابها، وتنقض على من حمى الإسلام، وحمل رسالته، وإليه يعود الفضل في ديمومته وحتى وجوده وحياته. أجل، مدعوون للتفاعل الإيجابي مع ما يتم، ليتجاوز ما هو عليه، مَن يسير من بيننا وفق سياسات العمى الأناني، ويعود إلى جادة الصواب. كما أن العزف النشاز على ما هو جزئي كردستاني يجب الكف عنه الآن، أمام كل ما يحدث.
و رغم أن تنظيم “داعش” لا يزال بعد، في حدود الأكذوبة التي تنامت تدريجياً، في الجحيم السوري، حيث أن الأجواء مهيأة للبكتيريات، والطفيليات، بسبب عفن أرواح القتلة، ودماء وجثث القتلى، ما جعلهم يبوصلون أنفسهم في ثياب القديسين، عبر لحى اصطناعية، ورؤى اصطناعية، وقوى اصطناعية، بيد أن المعادلة الدولية المتفق عليها، حول الوضع السوري، جعلت بذرة هذا العفن “الداعشي” تنتشر، وهي لا تكتفي باستعادة الإرهاب “القاعدي”، بل تسعى لتجاوزه، بغرض تحقيق رقم قياسي، هو مدروس، لنشر، هيبة هؤلاء. وكان لهم أن ساهموا مع الجماعات التكفيرية التي سبقتهم، سواء أكانت “النصرة”، أم من سبقها، وواكبها، وتلاها، من التكفيريين، لتغيير ملامح الثورة السورية، وما كان لذلك أن ينجح، لولا ضعف رؤى من ابتلي بهم، “المجلس الوطني السوري” و”الائتلاف”. ينتعش الدواعش، وأشباههم، على إيقاع عالمي، بات وجهه الحقيقي ينكشف على ما هو عليه، من تبادل للأدوار، القائمة على أسس المصلحة، بعد أن يدفع مغالو التطييف، وهم احتياطي الفتنة منذ أربعة عشر قرناً، وحتى الآن، ما يلزم ذلك من الوقود الخطابي، والآدمي، لتحقيق الأكذوبة الكبرى التي أطلقها النظام السوري، عندما أعلن أكثر من ممثل له أن استمرار “الثورية السورية” يعني إشعال النار، إقليمياً، وعالمياً. ولا بد من التنبيه، أن مصطلح “داعش” حتى الآن، لا يعبّر إلا عن حالة “هلامية” مرتبطة بـ”الصندوق المالي” الداعم له، وفق حركات أيدي من يمتلكون مفتاح هذا “الصندوق” وأوراق “الكروكي” التي يقدمونها له، كي يتحركوا وفقها. إذ يلتقي “حارس النفط” و”حارس الفتنة” ومن وراءهما في العالم، كي تتفاقم الأوضاع، وقد استشرى الأمر، على نحو كارثي، عند بلوغ هؤلاء حدود نينوى، ما دفع بـ”أيتام صدام حسين” للدخول على الخط، وإعلان مساندة الوضع، مدفوعين بحقد ثأري، مبيت، ببعدين طائفي، وقومجي دموي صدامي، فأسقط الأمر بين يدي المالكي الذي لعب أدواره بالخفاء والعلن لمساندة نظام الأسد، بيد أنه الآن يفاجأ بأن “السحر قد انقلب على الساحر”، لا سيما أن من صفات تنظيم أنه “داعش”، كـ”الإسفنجة”، تمتص كل السوائل، ولا مانع لديه من تلاقي “الأحماض” و”المياه” المتناقضة” مهما تفاوتت درجات اتساخها. بشار الأسد هو الأكثر استفادة، حيث أن سياسات “خلط الأوراق” التي اعتمدها قد أوتي أكلها الآن. كما أن مخطط “تمرير الغاز” بل “النفط” الذي كان يحذر منه بعض الدارسين منذ أكثر من ربع قرن، ها هو الآن يدخل “حيز التطبيق”، ولعل المستفيدين من مد هذا الخط، من منابعه، إلى مصباته، استطاع منذ “بدايات ربيع المنطقة” أن يستثمر كل ما يجري من أجل نفسه، وهو ما استفاد منه النظام السوري، ومن هم وراءه. بيد أن الأمر يحمل في ثناياه، مفاجآت للجميع، لأن من كان يريد أن يستفرد وحده، بات يتقهقر، ويبدو هو وخططه وأدواته في العراء، ناهيك عن أنه كان من صلب مطالب هؤلاء جميعاً محو الوجود الكردي، لا سيما أنه تمت استمالة الأطراف الكردستانيين إلى عدد من المراكز المحتلة لكردستان الكبرى، ومن وراءهم. بيد أن ثبات سياسات “إقليم كردستان” رغم ما تواجهها من تحديات داخلية كردستانية، وخارجية، استطاعت أن تنجح في حركتها الأولى، حيث كلهم خسر، وإن المادة 140 المتعلقة بالمناطق الكردستانية المستقطعة، باتت الآن في حيز التطبيق، بعد أن نبهنا إليها، عقب إسقاط نظام صدام حسين، وهو ما يتطلب حراكاً كردياً محلياً، عربياً، إسلامياً، دولياً، وينبغي قبل كل شيء: تجاوز الشق الكردستاني من التحديات.
ليس في إمكان أحد أن يطمئن إلى ما تم. الاحتمالات كلها واردة، في ظل اكتفاء أميركا بأداء دور المتفرج، حتى في ما يتعلق بآثار تركتها من الاضطرابات التي خلفتها وراءها، وهو تحدٍّ لصدقيتها، وفتح للمجال أمام عالم جديد، لا تصرف فيه “فيتوات” الدول الكبرى، التي صرفتها في الاتجاه الخاطئ، كما فعلت روسيا على امتداد أكثر من ثلاث سنوات مضت، مع الشأن السوري.
ثمة حقيقة، وهي قانون حركة التاريخ الذي يجهله من هم وراء أول تطبيق لـ”الفوضى الخلاقة” في سوريا، وهي أن محاولة النفخ في جسد النظام الميت، باتت هي الأخرى مشرفة على نهاياتها، بعدما تحملت وزر كل ما سيترتب على هذا الدمار الشرق أوسطي، أو العالمي، من كوارث، وويلات، ونتائج. وبشيء من تحوير المانيفستو الشيوعي الذي كتب في العام 1847 ونشر في العام 1848 أن الكردي لم يخسر في كل هذه التبدلات التي تتم منذ نحو ربع قرن، وها هي تبلغ ذروتها مع ثورات المنطقة، إلا “قيوده”، وكأن من سنن الحياة، أن “المضهطد” بفتح الهاء، تاريخياً، لا بد أن يسترجع حريته وحقه المهدور، من قبل “مضطهده” بكسر الهاء، وهو ما يتم، حالياً، وعلى الكردي أن يكون في مستوى ذلك، قبل أن تفوته الفرصة التاريخية، التي لن تفوته “البتة” في دورتها، الجديدة، إلا بخيانة الكردي للكردي التي لا بد من أن نحذر منها، من دون خجل، أو خوف، أياً كان وراءها.
أجراس “داعش” والزمن الفاحش
الكرد مطالبون الآن بتجاوز كل ما يحول بينهم، ولا بد أن ينسوا كل ما بينهم من خلافات، وأن يتعالى كل من لديه أجنداته الحزبية الضيقة على أحلامه المتناقضة مع ما هو قومي ووطني. دخول “داعش” بهذا الشكل المفاجئ، رسالة إلى الكردي، في تيهه، لتقرعه، وتدله على طريق الصواب، لأنه وأخوته وشركاءه في المكان، ركاب سفينة واحدة. كل ذي عقل وبصيرة، يرفض الدعشنة، وسلوكياتها، وإرهابها. المطلوب، الآن، ألا يستثمر كرديٌّ ما، هذه المحطة، ليواصل المزيد من اغترابه عن شعبه في سبيل أناه الحزبية. تنظيم “داعش” خيمة التقت تحتها مجموعات من المهابيل المتعطشين للدم والقتل والمال وسوى ذلك، ومصيرهم محتوم. من هنا، فإن على الكرد العمل من الآن، لمرحلة ما بعد “داعش”. فهل نحن في مستوى فهم هذه الرسالة؟ أرجو أن نكون قد استفدنا كثيرا مما تم. على حزب ب ي د مراجعة نفسه، وأول ما عليه القيام به إطلاق الأسرى الذين لا يزالون في سجونه، والكف عن سياساته التغريبية عن روح شعبه، ومن بينها منع بعض الناشطين من دخول وطنهم، بل والاعتذار عن الانتهاكات التي قام بها، لأن البندقية الكردية بطرفيها باتت تتحرك في الاتجاه الصحيح، لرفع الشر المحدق، ومواجهته، وهذا ما كان منتظراً منها، طويلاً.
وصول إرهابيي تنظيم “داعش” إلى مدينة الموصل، واحتلال محافظة نينوى، أقرب إلى اللعبة الساذجة، من المسرحية المعدة بإخراج مقبول، رغم أنها لم تتم بشكل عفوي. فوراء الأكمة ما وراءها، ويمكن الحديث أن ما تم لن يكون البتة في معزل عن تواطؤ بؤرة النظام في بغداد، الذي بات يتجاوز بسلوكياته مرحلة استبداد صدام حسين وسياساته الفاشلة. وهو، وأياً كانت نتائجه الأولى، ليس في صالح المالكي، وزمرته، لأن المواطن العراقي، أينما كانت جغرافيته المكانية، أو السياسية، وصل إلى الاقتناع الكامل بـ”هشاشة” هذا النظام، ولا صلاحيته حتى لإدارة زريبة، لأن المساومة على القرار الوطني، من أجل أجندات إقليمية، مهيمنة، تؤكد ضحالة عقل الآمر وعقل المأمور، وهو تجاوز بذلك بلاهة تفكير الأداة المشابهة له، في الطرف الآخر، أي الأسد الذي يحفر منذ ثلاثة أعوام ونيف تحت كرسيه.
داعمو “داعش”، وهم من مختلف الهويات، عارفون في قراراتهم أن لا مكان لهذه الحثالة الوبائية في المنطقة عموماً، سواء أكان في سوريا، أم العراق. مجرد استمرارها أربعا وعشرين ساعة في الرقة، أو الموصل، أو دير الزور، يعني أن هناك تواطؤاً برؤوس كثيرة، ينتمي إليه جناحا الحكمين الآيلين إلى السقوط في دمشق وبغداد، وإن كانا قد سقطا كلاهما قبل الآن. بل يدل على ما هو أبعد من ذلك، وهو سقوط السياسات التي ينضمان إلى فضائهما. فمنطقتنا الآن، على بوابة مرحلة جديدة، تستكمل فيها شروط ربيعها الذي حورب إقليمياً، ودولياً، وعربياً، ومحلياً. لنعترف، أن من رمى بهذه القذارات في هذا الجزء الكردستاني أو ذاك، لديه أجنداته التي يريد أن يكمل رسالة من سبقوه ممن راموا إطفاء السؤال الكردي، ومحو وجود الكردي، وهو نتاج فكر يعبّر “داعش” عنه تماماً، مهما تستر باللبوس الديني أو القومي أو العلماني. بيد أن هؤلاء جميعاً يتجاهلون حقيقة روح الشعب الكردي الذي يستطيع أن يتغلب على هذا التحدي، العابر، وإن كان العالم كله مدعواً الآن لتطهير المنطقة، من هذا السلوك الكارثي الزنيم الذي لن يكتب له العيش، وها هو يجر أذياله، مندحراً، بعد أن تم سقوطه، واندحاره، في معاقله. ثمة رسالة إلى الأطراف الكرد، كلهم، لتجاوز خلافاتهم، لا سيما أن ثقافة الدعشنة الهجينة تسري في عروق جماعات تكفيرية، ونصف تكفيرية، وقومجية، وحتى شبه معتدلة، قد تكشر عن أنيابها، وتنقض على من حمى الإسلام، وحمل رسالته، وإليه يعود الفضل في ديمومته وحتى وجوده وحياته. أجل، مدعوون للتفاعل الإيجابي مع ما يتم، ليتجاوز ما هو عليه، مَن يسير من بيننا وفق سياسات العمى الأناني، ويعود إلى جادة الصواب. كما أن العزف النشاز على ما هو جزئي كردستاني يجب الكف عنه الآن، أمام كل ما يحدث.
و رغم أن تنظيم “داعش” لا يزال بعد، في حدود الأكذوبة التي تنامت تدريجياً، في الجحيم السوري، حيث أن الأجواء مهيأة للبكتيريات، والطفيليات، بسبب عفن أرواح القتلة، ودماء وجثث القتلى، ما جعلهم يبوصلون أنفسهم في ثياب القديسين، عبر لحى اصطناعية، ورؤى اصطناعية، وقوى اصطناعية، بيد أن المعادلة الدولية المتفق عليها، حول الوضع السوري، جعلت بذرة هذا العفن “الداعشي” تنتشر، وهي لا تكتفي باستعادة الإرهاب “القاعدي”، بل تسعى لتجاوزه، بغرض تحقيق رقم قياسي، هو مدروس، لنشر، هيبة هؤلاء. وكان لهم أن ساهموا مع الجماعات التكفيرية التي سبقتهم، سواء أكانت “النصرة”، أم من سبقها، وواكبها، وتلاها، من التكفيريين، لتغيير ملامح الثورة السورية، وما كان لذلك أن ينجح، لولا ضعف رؤى من ابتلي بهم، “المجلس الوطني السوري” و”الائتلاف”. ينتعش الدواعش، وأشباههم، على إيقاع عالمي، بات وجهه الحقيقي ينكشف على ما هو عليه، من تبادل للأدوار، القائمة على أسس المصلحة، بعد أن يدفع مغالو التطييف، وهم احتياطي الفتنة منذ أربعة عشر قرناً، وحتى الآن، ما يلزم ذلك من الوقود الخطابي، والآدمي، لتحقيق الأكذوبة الكبرى التي أطلقها النظام السوري، عندما أعلن أكثر من ممثل له أن استمرار “الثورية السورية” يعني إشعال النار، إقليمياً، وعالمياً. ولا بد من التنبيه، أن مصطلح “داعش” حتى الآن، لا يعبّر إلا عن حالة “هلامية” مرتبطة بـ”الصندوق المالي” الداعم له، وفق حركات أيدي من يمتلكون مفتاح هذا “الصندوق” وأوراق “الكروكي” التي يقدمونها له، كي يتحركوا وفقها. إذ يلتقي “حارس النفط” و”حارس الفتنة” ومن وراءهما في العالم، كي تتفاقم الأوضاع، وقد استشرى الأمر، على نحو كارثي، عند بلوغ هؤلاء حدود نينوى، ما دفع بـ”أيتام صدام حسين” للدخول على الخط، وإعلان مساندة الوضع، مدفوعين بحقد ثأري، مبيت، ببعدين طائفي، وقومجي دموي صدامي، فأسقط الأمر بين يدي المالكي الذي لعب أدواره بالخفاء والعلن لمساندة نظام الأسد، بيد أنه الآن يفاجأ بأن “السحر قد انقلب على الساحر”، لا سيما أن من صفات تنظيم أنه “داعش”، كـ”الإسفنجة”، تمتص كل السوائل، ولا مانع لديه من تلاقي “الأحماض” و”المياه” المتناقضة” مهما تفاوتت درجات اتساخها. بشار الأسد هو الأكثر استفادة، حيث أن سياسات “خلط الأوراق” التي اعتمدها قد أوتي أكلها الآن. كما أن مخطط “تمرير الغاز” بل “النفط” الذي كان يحذر منه بعض الدارسين منذ أكثر من ربع قرن، ها هو الآن يدخل “حيز التطبيق”، ولعل المستفيدين من مد هذا الخط، من منابعه، إلى مصباته، استطاع منذ “بدايات ربيع المنطقة” أن يستثمر كل ما يجري من أجل نفسه، وهو ما استفاد منه النظام السوري، ومن هم وراءه. بيد أن الأمر يحمل في ثناياه، مفاجآت للجميع، لأن من كان يريد أن يستفرد وحده، بات يتقهقر، ويبدو هو وخططه وأدواته في العراء، ناهيك عن أنه كان من صلب مطالب هؤلاء جميعاً محو الوجود الكردي، لا سيما أنه تمت استمالة الأطراف الكردستانيين إلى عدد من المراكز المحتلة لكردستان الكبرى، ومن وراءهم. بيد أن ثبات سياسات “إقليم كردستان” رغم ما تواجهها من تحديات داخلية كردستانية، وخارجية، استطاعت أن تنجح في حركتها الأولى، حيث كلهم خسر، وإن المادة 140 المتعلقة بالمناطق الكردستانية المستقطعة، باتت الآن في حيز التطبيق، بعد أن نبهنا إليها، عقب إسقاط نظام صدام حسين، وهو ما يتطلب حراكاً كردياً محلياً، عربياً، إسلامياً، دولياً، وينبغي قبل كل شيء: تجاوز الشق الكردستاني من التحديات.
ليس في إمكان أحد أن يطمئن إلى ما تم. الاحتمالات كلها واردة، في ظل اكتفاء أميركا بأداء دور المتفرج، حتى في ما يتعلق بآثار تركتها من الاضطرابات التي خلفتها وراءها، وهو تحدٍّ لصدقيتها، وفتح للمجال أمام عالم جديد، لا تصرف فيه “فيتوات” الدول الكبرى، التي صرفتها في الاتجاه الخاطئ، كما فعلت روسيا على امتداد أكثر من ثلاث سنوات مضت، مع الشأن السوري.
ثمة حقيقة، وهي قانون حركة التاريخ الذي يجهله من هم وراء أول تطبيق لـ”الفوضى الخلاقة” في سوريا، وهي أن محاولة النفخ في جسد النظام الميت، باتت هي الأخرى مشرفة على نهاياتها، بعدما تحملت وزر كل ما سيترتب على هذا الدمار الشرق أوسطي، أو العالمي، من كوارث، وويلات، ونتائج. وبشيء من تحوير المانيفستو الشيوعي الذي كتب في العام 1847 ونشر في العام 1848 أن الكردي لم يخسر في كل هذه التبدلات التي تتم منذ نحو ربع قرن، وها هي تبلغ ذروتها مع ثورات المنطقة، إلا “قيوده”، وكأن من سنن الحياة، أن “المضهطد” بفتح الهاء، تاريخياً، لا بد أن يسترجع حريته وحقه المهدور، من قبل “مضطهده” بكسر الهاء، وهو ما يتم، حالياً، وعلى الكردي أن يكون في مستوى ذلك، قبل أن تفوته الفرصة التاريخية، التي لن تفوته “البتة” في دورتها، الجديدة، إلا بخيانة الكردي للكردي التي لا بد من أن نحذر منها، من دون خجل، أو خوف، أياً كان وراءها.
جريدة النهار
21-6-2014